جيمس بالدوين
جيمس بالدوين


التاريخ الذي أراد جيمس بالدوين أن تراه أمريكا

أخبار الأدب

الأحد، 07 مايو 2023 - 12:44 م

فى 16 من مارس عام ١٩٦٨ صعد جيمس بالدوين المنصة فى حفل مخصص لجمع التبرعات، فى فندق أنهايم بديزنى لاند، ليُقدم مارتن لوثر كينج. كان بالدوين قد وصل لتوه إلى لوس أنجلوس قادماً من نيويورك، بعد أن طلبت منه شركة كولومبيا للأفلام كتابة سيناريو فيلم السيرة الذاتية لمالكولم إكس، الذى اشترت حقوقه من أليكس هيلي، كاتب سيرة مالكولم. ورغم كونه مُتَلهَّفاً إلا أنه توقف يائساً أمام محاولة تصوير قصته عن مالكولم. أراد بالدوين أن يقوم بيلى دى ويليامز بدور البطولة، إلا أن الاستوديو كان لديه ترشيحات أخرى. وكانت هناك شائعات أن أحدهم اقترح شارلتون هيستون لدور الرجل الأسود.


وأقيم الحفل من أجل جمع التبرعات اللازمة لتموين خزانة مؤتمر قيادة الجنوب المسيحى ومساعدة كينج فى آخر مشروعاته: حملة الفقراء. أراد كينج القيام بموقف جريء ومباشر فى العاصمة واشنطن لصالح فقراء الأمة. وليفعل ذلك كان عليه أن يُرتب مصادر مالية أكبر مما سبق.

اقرأ ايضاً| زهرة يسري تكتب: مدينة في فمي

وقد تكون حفلات الغداء المشتركة بين المواطنين دعماً لإلغاء التمييز العنصرى لا تُكلف الكثير ولكن القضاء على الفقر سيُكلف الأمة ملايين الدولارات. وجد كينج أن العديد ممن دعموا جهوده لإلغاء التمييز العنصرى أقل حماسةً تجاه أچندته المُتَعلقة بالوظائف والفقر. أفزعت فكرة احتلال العاصمة بالفقراء العديد من النشطاء ومنهم محسوبون على قيادة الجنوب المسيحى، ومن بينهم الناشط الأمريكى بايرد رستن، الناصح الأمين لكينج منذ أيام مقاطعة حافلات مونتجومري، فربما تجنح أعمال العصيان المدنى للعنف وتجعل العديد من الأمريكيين ذوى البشرة البيضاء رافضين للحقوق المدنية. أراد رستن من مؤتمر قيادة الجنوب المسيحى التركيز على انتخاب الديموقراطيين للمكاتب السياسية بدلاً من بناء الخيام والاعتصام أمام مكاتب الكونجرس التشريعية. 

ومن غير الواضح كيف عَلِم بالدوين بأمر هذا الحفل، فربما دعاه المُنظم مارلون براندو، إذ كانا مُقربين. على كل حال لم يتوقع من بالدوين تقديم كينج، وخطابه القصير تحدث فيه قليلاً عن القائد لوثر كينج، وبدلاً من ذلك تحدث باختصار عن تعهدات حركة الحقوق المدنية فى أيامها الأولى.

وهذه التعهدات التى نكثتها البلاد. وخاطب بالدوين الحضور: «كل ما حاولت روزا باركس ومعها الأمريكيون الأفارقة قوله فى مسيراتهم فى مونتجومرى عام ١٩٥٦ لم تسمعه البلاد أو لم تُرد سماعه»، وأضاف:« وبينما يمر الوقت ما زال أشخاص عديدون مثل ستوكلى كارمايكل يُخْضَعون بالقيود ويضطرون للسير بالطرق الوعرة محاولين تغيير وعى البلاد ولكن لا أحد يسمع، ولا أحد يهتم».

وتتمحور خطاب بالدوين حول الهيمنة البيضاء التى تقف سداً فى طريق أى تحول جذري. ولم يألْ جُهداً فى حث أخلاق الحضور وتنشيط ذاكرتهم بإخبارهم عما كانت ستصير إليه الأوضاع لو فشلت حركة الحقوق المدنية. 

وعندما وصل كينج للمنصة تظاهر بأنه لا يعرف بالدوين ووجّه شُكراً عاماً لكل من تحدثوا قبله. لاحقاً جلسا إلى بعضهما ليتشاورا بشكل خاص، يتذكر بالدوين عام ١٩٧٢ فى كتابه No Name in the street «جلسنا فى ركن قَصِيّ وحاولنا تبادل الأخبار والتفاهم، يا للأسف كان هذا مستحيلاً».

ويضيف: «تقابلنا فى الأيام الأخيرة من حملة مقاطعة حافلات مونتجومري، كم مرّ على هذا؟ من الصعب التذكر ربما ثمانى أو عشر سنوات، وقت طويل مضى ومن العسير تقديره». كان إحساس بالدوين من هذا اللقاء أن كينج مُتشكك فيه.

ورغم أن بالدوين وكينج ترافقا فى رحلته الأولى للجنوب عام ١٩٥٧ وعملا معاً طوال سنوات إلا أن بالدوين شعر أن كينج غير مرتاح فى وجوده. كتب بالدوين يقول: «أنا ومارتن لم نتعرف على بعضنا جيداً، ربما الظروف، أو الأمزجة جعلت تقارُبنا مستحيلاً». فى عام ١٩٦٣ يتصنت مكتب التحقيقات الفيدرالية على كينج ويسجل اعتراضات له تجاه بالدوين، رفض كينج حينها الظهور مع هذا الكاتب«بالدوين» فى التليفزيون وقال «يبدو غير معروف للحركة» فبالنسبة لكينج فإن بالدوين ليس قائداً فى حركة الحقوق المدنية بل هو مشهور ضمن مشاهير آخرين، يحاول أن يدعم الحركة بنجوميته، هذا بالإضافة إلى غرابة بالدوين التى تُثير قلقَ كينج.

وذلك مع حلول وقت تلك الحفلة كانت الهوة بينهما قد اتسعت وزادها اتساعاً تعاطف بالدوين مع نضال الأجيال الشابة. قبل تلك الحفلة بشهر كان بالدوين فى هوليوود يعمل على سيناريو فيلم مالكولم إكس وأقام حفلَ عيد ميلاد وجمع تبرعات لهيوى بيرسى نيوتن القائد السجين لحزب الفهود السود.

وقد كان كينج فى عام ١٩٦٨ يشعر بضغط من هذه المجموعات الراديكالية «على رأسها حزب الفهود السود» ومن تغيرات المشهد السياسى وقتها. بدأت الأمة «الأمريكية الأفريقية» تنبُذ نظرته الأخلاقية. يُصرّح أندرو كوبكيند الصحافى ذو البشرة البيضاء المنتمى لليسار الجديد بأن كينج شعر أن «الزمن قد فاته». وبسبب قبوله هو وأعضاء من لقاء المسؤولين بالعاصمة واشنطن اتهمت شابة أمريكية أفريقية، مؤمنة بفلسفة كارمايكل عن القوة السوداء، كينج بأنه تخلى عن حركة سلما.

وظهر خلاف بالدوين مع كينج فى الأفق منذ عام ١٩٦١ عندما كتب بالدوين مقالة بمجلة هاربر تحت عنوان «الطريق الخطير أمام مارتن لوثر كينج» وأشار فيه الى ما تغير فى كينج منذ أيام الطيش ومقاطعة الحافلات، وفصَّل فيه التحديات التى قُدِرَ على كينج مواجهتها كزعيم أسود فى تلك الاوقات الثورية، يقول بالدوين:» كان محاصرا أكثر من أى وقت مضى وليس من أعدائه فى الجنوب الأبيض وحدهم».

وأضاف «منذ ثلاث سنوات لم أقابل أحدًا ينتقده، وأقصد من ذوى البشرة السمراء، أما الآن فالعديدون ينتقدونه ويشعرون بالمرارة والاحباط والريبة». وذكر بالدوين أن على كينج أن يواجه تلك الروح الجديدة العنيدة بالحركة. قادة مثل كينج ويتحداهم شباب! يرفضون كل الفرضيات الضمنية التى تجعله «الزعيم التقليدى للسود» وكما قال بالدوين «هؤلاء الشباب لا يصدقون الصورة الأمريكية عن ذوى البشرة السمراء ولم يقبلوا بالمساومة مع الجمهورية ولن يقبلوا لأنه لا توجد أى قاعدة للتساوم».

وحتى فى ذلك الوقت المبكر من عام ١٩٦١ فهم بالدوين وجهة نظر هؤلاء الشباب، وعندما ألقى خطابه بفندق أنهايم عام ١٩٦٨ كان يرى أمامه بكل وضوح كيف اختلفت طرق التعامل مع الحقوق المدنية وحقوق الانتخاب، منذ سنوات قليلة مضت كانت تتفاخر أمريكا البيضاء بنفسها، ما تستنكره القوة السوداء اليوم.

وكان يعرف أنه من السهل تطويع قصة حركة الحقوق المدنية خدمةً لقصة الأمريكيين الخيريين الذين فضلوا اتحادهم على أى شيء. بالنسبة لبالدوين فإن التاريخ صُنِعَ ليخدم كذبة وهذه الكذبة يجب اقتلاعها من جذورها، هذا ربما ما جعله يُكَرّس مقدمته متحدثاً عن التاريخ الحقيقى للحركة.

ويا لها من مفاجأة عندما أنهى بالدوين خطابه ووجد خُطبة كينج تُعزز ما قاله. لم تكن قصة عن أمريكا المنتصرة ولكن كينج عبّر عن ضيقه أن تفقد الحركة معركتها فى مواجهة روح الأمة، واستعاد دون حنينِ للماضى تاريخَ كل الاشخاص الذين ناضلوا ببطولة ضد كل ما هو غريب وضد تاريخ حافل من الاحباط والصدمات وقالها مباشرة «إن امريكا بلد عنصرية ولا شك فى هذا»، وأضاف «المشكلة ستُحل إذا ما تضافرت الضمائر وانا لست واثقاً من ذلك، فالعديدون فقدوا اهتمامهم».

وكافح كينج مثل بالدوين ضد إيمان أمريكا بأهمية مواطنها الأبيض، وضد أى كذبة تجعل هذا الايمان مَقْبولاً. يقول كينج» عليَّ أن اعترف بأمانة أننى مررت بلحظات إحباط عندما يتضح أمامى أنه لا يوجد ما يكفى من المواطنين ذوى البشرة البيضاء على استعداد لحماية المبادئ الديموقراطية بدلاً من امتيازاتهم الخاصة».

وأضاف« ولكننى أشكر الله أنه ما زال يوجد داعمون لنا منهم وإن كانوا قليلين». وعند اقترابه من نهاية خطابه حاول مرة أخرى أن يتذكر ما يأملونه من أمريكا، وتعهَّد أن البلاد ذات يوم ستمضى للأمام لأنه« مهما حاولت البلاد التهرّب من ذلك، فستظل الحرية ضالة أمريكا المنشودة». ولكن كآبة صوته كانت تُفْقِد كلماته شجاعتها.

احتفل بالدوين وكينج قبل عدة أسابيع بالعيد المائة لميلاد دو بويز فى قاعة كارنيجى بنيويورك وقد ظهر أمامهما بشكل واضح أهمية التاريخ. دو بويز المثقف الأمريكى الأفريقى العظيم وأحد مؤسسى الرابطة الوطنية للملونين، وبعد سبعة عقود من النضال من أجل عدالة لا تشوبها العنصرية فى الولايات المتحدة فَقَدْ إيمانه بأمريكا ومات منفياً بمدينة أكرا عاصمة غانا قبل يوم واحد من مسيرة واشنطن عام ١٩٦٣.

ومع أن بالدوين كان يعمل على مقالة بخصوص دو بويز إلا أنه اختار فى تلك المناسبة أن يقرأ شيئاً نشره بالفعل: «القوة السوداء»، حاول بالدوين بحديثه هذا أن ينقل التركيز الموجه لنقد حماسة الشباب الأسود الصاعد إلى تحليل وافٍ للظروف التى جعلت غضب هؤلاء الشباب تحولاً ضرورياً.

لم يتفق كينج مع تلك البلاغة والرمزية. ولم يجد فائدة لما سمّاه «سحرية القوة السوداء» أو «النضال الغاضب الذى فشل فى تنظيم نفسه»، ولكنه كدارس لأعمال دو بويز كان يفهم تعاليمه فقال بخصوص «مهامنا من أجل التحرر» أنه «يجب الإصرار على تعلّم فكرة بعينها» وهى «أن هالة من الأكاذيب السامة أبقت المواطنين الزنوج بؤساء وعرضتهم للإجحاف ووصمتهم بالدونية منذ مولدهم وبأنهم يستحقون الفشل عن جدارة لأنهم لا يصلحون سوى للاستعباد حتى موتهم».

خطاب كينج بكارنيجى كخطاب، بأنهايم كان يشوبه اليأس. البلاد مضطربة و«يقع على عاتق الأمريكيين الأفريقيين مهام ثقال»، كما قال حينها. «نحن نُحَرر لبعض الوقت ثم نُسْتَعبد مرة أخرى» ورغم أن المواطنين السود يقاتلون من أجل الحرية «منذ مئة عام» فالشيء الوحيد «الواضح بكل تأكيد أنهم يُقاسون النضال من أجل الحرية».

وقد التقى بالدوين وكينج للمرة الأخيرة بذلك الحفل فى نيويورك. ولم يكن لدى بالدوين بذلة لتلك المناسبة فأسرع لشراء واحدة ملائمة، وعاد بعد الحفل إلى كاليفورنيا ليُكمل عمله بفيلم مالكولم إكس الذى كان مساره يُثير الجدل بين بالدوين ومسؤولى الفيلم. فى ليلة الرابع من أبريل ١٩٦٨ وبينما بالدوين يجلس بجوار حوض السباحة مع بيلى دى ويليامز ويستمع إلى غناء أريثا فرانكلين على الراديو، رنّ الهاتف وكان المُتصل صديقه ديفيد موسيز وقال له: «چيمي، لقد اُصيب كينج. لم يمت بعد، ولكنها طلقة فى الرأس،» بكى بالدوين وسقط الهاتف من يده وبعد أيام قليلة كان يرتدى بذلته الجديدة لحضور جنازة كينج.

لم يكن بالدوين ساذجاً للغاية بخصوص الشر الكامن بالبشر وخاصة الجموع البيضاء. قال «لو أنك أسود فأنت فى قلب تلك المحنة بالتحديد»، ويضيف: «ولأنه يمكن لأى شخص أن يؤذيك، فما أن تغرب الشمس حتى تصبح بطلاً لخيالاتهم المريضة».

ولكن ما صدمه أن أمريكا البيضاء قتلت شخصاً تَبْنَى الحب، رسولاً للسلام. كشف موت كينج عن مدى انحطاط أمريكا البيضاء وعن المخاوف التى تحيق بأمريكا السوداء. وكتب: «ربما طريقة القتل وليس القتل نفسه هى التى دفعتنى للحكم بخصوص البشر وحياتهم، حكم كنت مُجبراً عليه». ويضيف: «يا للأسف، لا يستحق العديد من الناس الكثير، ومع أن الإنسان معجزة فريدة فبينما يحاول المرء معاملته كذلك، يحاول أن يحمى نفسه من الكوارث التى يُقدِمون عليها».

حتي لو كان كينج واعظاً، ف بالدوين كان شاعراً، وجاهد فى تفسير الحيرة التى أصابته بجمع أجزاء الحقيقة-عن نفسه وعن الأمة السوداء- المدفونة تحت الكارثة التى تضرب البلاد. كان يحاول بعمله هذا أن يُبقِى اليأس بعيداً عن روحه. وبالتأكيد فموت كينج مثل موت مدجار إيفرز ومالكولم إكس وعديدين غيرهم لم يُوقف الزمن وظل المواطنون البيض يتصرفون كما اعتادوا. فبعد مقتل كينج بيومين قتل ضباطُ شرطةِ أوكلاند بوبى هيوتن عضو حزب الفهود السود.

ولاحقاً مارست شرطة شيكاغو العنف ضد المشاركين فى المؤتمر الوطنى للحزب الديموقراطي. تواصلت وقاحة الجمهور الأبيض وأعطت السياسيين السود-ومن بينهم بالدوين- الأفضلية. لقد فضح موت كينج مرارة المشهد. ما رآه بالدوين فى الطريق الخطير الذى قاد إلى موت كينج، فى ممفيس، أن السؤال الصعب هو إذا كانت البلاد لديها الشجاعة لتواجه أرواح مواطنيها الشيطانية. هل تستطيع أمريكا أن تخبر نفسها بصدق عن كيفية وصولها لهذا اللحظة؟ وهل لديها ما يكفى مِنَ الأخلاق لتتنازل عن الطمأنينة التى تكفُلها لها الاكاذيب؟

أجرى بالدوين فى يونيه ١٩٦٨ وبعد شهور قليلة من اغتيال كينج مقابلة مع مجلة إسكوير على خلفية اشتعال المدن الامريكية. ومنذ البداية كانت نبرته مُتغيرة تماما:

المُحاور: كيف يمكن لنا تهدئة المواطنين السود؟

بالدوين: ليس نحن من يجب عليه الهدوء.

المُحاور: ولكن ألستم أكثر من يتعرض للأذى؟

بالدوين: لا، نحن أكثر من يتعرض للقتل.

 بدا وكأن مُحررى المقابلة لم يستوعبوا أن الوِزْرَ الأخلاقى لهذا الكابوس الأمريكى لا يقع على عاتق المواطنين السود الغاضبين فى الشوارع، بل يقع على عاتق المواطنين البِيض الذين يؤمنون بكل جدية أنهم بسبب لون بشرتهم أفضل من غيرهم. يجادل بالدوين أن على هؤلاء الأشخاص أن يروا أنفسهم بشكل مختلف. فالقوانين الجديدة، تعبيرات التعاطف، الأعمال الخيرية لإزالة التمييز العنصري، كل هذا لم يعد كافياً لتغيير البلاد. نحتاج شيئاً أكثر راديكالية؛ نحتاج أن نروى التاريخ بشكل مختلف. يقول بالدوين: «ما يمكن أن ينقذك الآن هو مواجهتك لتاريخك، فتاريخك ليس ماضيك، بل حاضرك». ويضيف: «تاريخك ما قادك إلى هذه اللحظة. ويمكن أن تبدأ بتغيير نفسك فقط عندما تنظر إلى ما تفعله باسم تاريخك».

فى الثانى عشر من أغسطس ٢٠١٧ أثناء مسيرة «توحيد اليمين» فى شارلوتسفيل بولاية ڤيرچينيا تواجد جيمس فيلدس James Fields الشاب صاحب العشرون عاماً المنتمى للنازيين الجُدد قادماً من كينتون بولاية كنتاكى واندفع مُسرعاً بسيارته الدودچ شالنجر طراز ٢٠١٠ فى شارع ضيق مُكتظ بالمحتجين المناهضين للعنصرية. وتواجدت فى هذا الحشد هيثر هاير Heather Heyer التى نشأت قريباً من روكرزڤيل. وطبقاً لمن يعرفونها فإن هاير صاحبة الإثنين وثلاثين عاماً قد قضت أغلب حياتها مُعارضة لكل أنواع التمييز.

وبينما كانت سيارة فيلدس المُسرعة تقذف الأحذية والهواتف والاجساد فى الهواء كان ريان كيلى Ryan Kelly المصور بمجلة the Daily Progress يلتقط هذه المذبحة. ضُغِطَتْ هاير بين جسد رجل كان يسقط ملتوياً بشكل مُفزع على مِصَدّ السيارة الخلفى وجسد رجل آخر كان ينقلب فى الهواء.

وأُلقيتْ جانباً عندما صدمتها السيارة العنيفة التى شقّت طريقها وسط الحشد. ماتت هاير فى لحظتها وجُرِح العديدون. واتُهِم فيلدس فى نهاية الامر بالقتل من الدرجة الاولى وحُكِم عليه بالسجن مدى الحياة.

وذلك مما أدى إلى هذه الحادثة العنيفة هو معركة مريرة حول تاريخ أمريكا وكيفية تعاملنا معه. لأنه فى مارس٢٠١٦ أيدّ ويس بيلاميWes Bellamy نائب عمدة مدينة شارلوتسفيل وعضو مجلس مدينتها دعوة إزالة النُصُب الكونفدرالية الخاصة بروبرت إدوارد لى وتوماس ستونوول جاكسون.

وقد أيدت جهوده طالبة منضمة حديثاً للمدرسة العليا، زيانا بريانت Zyahna Bryant، التى قدمتْ لمجلس المدينة عريضةَ قانونية لإزالة النُصُب من الحديقة العامة. وافق المجلس على الازالة بثلاثة أصوات مقابل صوتين.

وبعدها انفجر الوضع فى عام٢٠١٧ فبعد انتخاب دونالد ترامب Donald Trump رئيساً للولايات المتحدة والذى يعلن صراحة إعجابه بالهوية البيضاء، تشجّع القوميون ورأوا فى انتخابه فرصة لاستغلال قرار مجلس المدينة. آمن القوميون أن أفعال مجلس المدينة اعتداء على المواطن الابيض. من وجهة نظرهم فإن حُراس الصوابية السياسية بمجلس المدينة قد شوهوا وحرَّفوا التاريخ الامريكى عامة والتاريخ الجنوبى خاصة. هذا الانتهاك دفعهم لحشد مسيرة« توحيد اليمين»، أكبر تجمع للقوميين البيض والنازيين الجُدد فى التاريخ الحديث. احتشدوا فى يوم انتهى بحريمة فليدس البشعة.

وذلك من الواضح أن هذه الوحشية اندلعت نتيجة الصراع حول رموز التاريخ الأمريكى واستخداماتها. وكما أصر كلً من بالدوين وكينج، كلً بطريقته الخاصة، فإن المواطن الابيض سيُدافع عن هَوْيّة أمريكا بأى ثمن، فتاريخ البلاد-أى وثائقها الرسمية، أبطالها الوطنيين، ادعاءها بأنها قوة العالم الأخلاقية- كل هذا يُعَزّز هَوْيّتها. هذا التاريخ لا يمكن فصله عن طبيعة بناء الأمة؛ فكلً من النُصُب التذكارية والطرق التى ينظم بها المجتمع نفسه يدعمونها.

ولكن عندما أعلن كينج أن رؤية البلاد الأخلاقية تشوشت نتيجة« هالة من الاكاذيب المسمومة»، وعندما قال بالدوين لمجلة Esquire أننا فى حاجة للنظر لما نفعله باسم تاريخنا، كلاهما ناقشا أن التاريخ، تلك القصة التى نرويها لأنفسنا عما تكونه البلاد، يُشكل العالم الذى نُساق له.

وفي هذا النقاش حول النُصُبِ الكونفدرالية جعل كل شيء واضحاً. فالنسبة للقوميين البيض، فإن الكونفدرالية تُمثل انتصار مفهوم مُحدد لأمريكا؛ مفهوم صار من خلاله تفوق العرق الابيض سياسياً، اجتماعياً، ثقافياً أمراً مُقدساً. ومن خلال هذه الرؤية يصبح مفهوماً كل تلك الحفلات العلانية لدعم الهيمنة البيضاء.

السؤال المُعقد هو ماذا يُمكننا أن نفعل مع الأشخاص الذين يُدينون النازيين الجُدد ويُصرون فى الوقت نفسه على أن النُصُب الكونفدرالية جزء من« تراثهم». ومن أجل هؤلاء أصدر القاضى ريتشارد موور بدائرة شارلوتسفيل القضائية فى أبريل عام ٢٠١٩ حُكماً بإبقاء النُصُب بأماكنها. كتب موور بقراره:« بينما يرى بعض الناس لى وجاكسون رموز للهيمنة البيضاء، أخرون يرونهم عسكريين لامعين أو قادة مُحنكين فى وقت عسير».

مثّل موور سردية مختلفة عن النُصُب. ومع ذلك فالمؤرخون الأمريكيون وضّحوا أن تلك النُصُب لم تكن فى الحقيقة مُعاصرة للحرب الأهلية. معظمها تم بناؤه بعد الحرب بسنوات الكونفدرالية عديدة، إمّا فى الفترة بين ثمانينيات وتسعينيات العقود الأولى من القرن العشرين حيث مات حينها معظم محاربى القدماء، أو فى خمسينيات القرن العشرين عندما تصاعدت حدة المطالبة بالمساواة العنصرية. بكلمات أخرى، إن هذه النُصُب رمز لأيديولوجيا، تمثيل مُجَسد لتلك «القضية الخاسرة» فى الساحات العامة.

إنهم يُصرون على الادعاء الكاذب بأن الحرب الأهلية لم تكن تتعلق بالعبودية بل بالدفاع البطولى عن طريقة الجنوب فى عيش حياته. تحدى الجمهور الاسود هذه النُصُب منذ لحظة بنائها. استعرض دو بويز عام ١٩٣٥ فى كتابه « السود وإعادة اعمار امريكا Black Reconstruction in America»الاكاذيب التى تُمثل الدعامة الاساسية لهذه الحقبة التاريخية، وأسقط قناع الصدق عن كتابات نافذة لجون بورجس عالم السياسة وللمؤرخ ويليام دونينج. ان مدرسة دونينج؛ وهى الجيل الأول من المؤرخين المُتمرسين الذين كتبوا عن حقبة إعادة الاعمار، أرخت لهذه الحقبة من خلال فشل السلطة الفيدرالية فى تحقيق آمال مستحيلة حمّلتْ نفسها بها ومن خلال فساد المهاجرين الشماليين إلى الولايات الجنوبية؛ يرى دونينج أن التسليمَ بمنح الحقوق السياسية للعبيد السابقين خطأُ رهيبُ. دى بويز انهال بنقد لاذع على هذه الطريقة فى كتابة التاريخ ووصفها بأنها: «قراءة مسلية للأمريكان»، من وجهة نظر دو بويز فإن هذه النُصُب الفيدرالية تمثل انتصاراً لمشاعر دونينج العنصرية. إن التاريخ-الذى يتعللون به لإنشاء هذه النُصُب- قد تخلص من العبودية للأبد تاركاً هَوْيّة أمريكا آمنة ومحفوظة.

وها نحن بعد قرن ما زلنا نحاول أن نتجاوز تلك «القراءة المسلية» للتاريخ. بعد ثلاثة أيام من استعراض الهيمنة البيضاء فى شارلوتسفيل [حادثة مقتل هيثر هاير] عقد الرئيس الأمريكى مؤتمر صحفى مُشين فى Trump Tower وقد ألقى باللوم على «كلا الجانبين» لاستخدامهما العنف ومضى قِدماً بشكل واضح ليرفض فكرة إزالة النُصُب الفيدرالية، ولم يكن لَبِقاً وهو يستغل نسبية الاخلاق قائلاً:« جورج واشنطن كان مالكاً للعبيد. . .فهل يخسر نُصبه التذكارى؟

ماذا عن توماس جفرسون؟ . . .لقد كان واحداً من أكبر مُلاك العبيد». بالنسبة لترامب فإن الاحتفال بذكرى الكونفدرالية- التى حكمت ولايات اتُهِمَتْ بخيانة الوطن لدفاعها عن منظومة الاستعباد-جزء من تاريخ أمريكا. لقد استغل ترامب قداسة واشنطن وجفرسون عند معظم الأمريكيين كحُجّة لصالح روبرت لي، وليُلمح بأن إزالة نُصُب لى بداية طريق خطر لزعزعة ثوابت أمريكا.

وبعدها صرّح كبير موظفى البيت الابيض الجنرال جون كيلى فى مقابلة مع قناة Fox Newsبموافقته عما قاله ترامب وقال بخصوص المُحتجين ضد النُصُب:«إنهم يُظهرون قلة احترام للتاريخ وما يمثله».

إن فهمَ ترامب وكيلى للتاريخ هو بالضبط ما انتقده بالدوين فى عام١٩٦٨. ولكن بالدوين أصّر أن مثل هذه الاكاذيب ستُمكننا من قراءة تاريخ أمريكا بشكل مختلف إذا كُنّا أمناءَ مع أنفُسِنا. بالنسبة لمؤيدى ترامب الصاخبين فلقد سأل سؤالاً مُهماً: ماذا نفعل بتاريخ جورج واشنطن؟ بالنسبة للرئيس فذلك سؤال بسيط وله شَطْرِان: هل نُزيل نُصُب واشنطن أم نُبقى عليه؟ ولكن لا يُفهم التاريخ بتلك الطريقة.

ولكن بدلاً من ذلك ربما نسأل كيف ستكون قصة العبودية وإعادة الاعمار- أو قصة واشنطن وجفرسون- لتبدو لو انها لم تُهون من قسوة تلك البلاد او لم ترفض جهودها للإصلاح.

وهناك شئ مثل هذا السؤال واجه مجتمع جامعة برينستون حيث قُمت بالتدريس فى نوفمبر عام٢٠١٥. فى هذا الشهر اعتصمت رابطة طلابية باسم the Black Justice Leagueأمام مكتب رئيس الجامعة لمدة اثنتين وثلاثين ساعة. اعتصامهم كان جزءًا من تحرك طلابى وطنى لدعم الاحتجاجات المناهضة للعنصرية فى جامعة ميسورى Missouri. وواحدة من مطالب الرابطة العديدة التى وجهتها للإدارة «الاعتراف علناً بميراث وودرو ويلسون العنصرى»، و اعادة تسمية كلية ويلسون Wilson residential college وكلية وودرو ويلسون للشئون الدولية و العامة Woodrow Wilson School of Public and International Affairsوازالة لوحة جدارية ضخمة ل «ويلسون» بقاعات الطعام.

أصابت هذه المطالب فى مقتل فهم جامعة برينستون عن نفسها. ف «ويلسون» كان رئيساً للجامعة فى الفترة من ١٩٠٢ إلى ١٩١٠ ويُنسب له انشاء العديد من كليات التعليم العالي. ولكن الطلاب يريدون من الجامعة أن تُثرى قصتها حول ويلسون بالإعلان عما يعنيه ميراثه العنصرى للطلاب السود وكيف أن هذا الميراث قلّل من قيمتهم. يتجادل الطلاب بأنهم يشعرون بالامتهان فى أن يأكلوا ويناموا فى مبانٍ تحمل اسم شخص كان يؤمن أنهم مجرد جنس أدني.

حفزّت احتجاجات الطلاب رئيس جامعة برينستون كريستوفر إيسجروبر Christopher Eisgruberعلى الاجتماع بأمناء الكليات لإعادة تقييم الطُرق التى تحتفى بها الجامعة بذكرى ويلسون. دُعِيّ للمساهمة فى هذا النقاش أعضاء الكليات، كاتبى سِير، وطلاب. حضرتْ نيل بينتر Nell Painter وهى أستاذ فخرى ومؤلفة كتاب « تاريخ الشعب الأبيض The History of White People» وتوجهت بكلامها مُباشرةَ إلى جوهر الحدث:» كل هذا يتعلق بالسؤال الذى نسأله لأنفُسِنا، الأسئلة تغيرت، أقصد أنها دائماً ما تتغير ولهذا نواصل كتابة التاريخ».

وفى النهاية قررت الجامعة ألا تزيل اسم ويلسون ولكنها وافقت على إثراء قصتها حوله فوضعت لافتات حول مهاجع الطلاب وأماكن تجمعهم تشرح من خلالها تاريخ ويلسون مع الفصل العنصرى وتاريخ الجامعة الإقصائي. ووافقت الجامعة على قبول التنوع فى الحرم الجامعي.

وواحدة من أهم قرارات الجامعة بإعادة تسمية west college حيث منازل عمداء الكليات ومكتب القبول الجامعى باسم تونى موريسون التى درّستْ فى الجامعة منذ سنوات عديدة مضت.

القضية مازالت بعيدة عن الحل. فالطلاب السود بالجامعة ليسوا مُتَطَفّلين أو ضيوفاً أو مُستفيدين من جمعية خيرية عليهم أن يشعروا بالامتنان تجاه الجامعة بل هم -على عكس أيام ويلسون- جزء تام وأصيل من المجتمع. ومثلهم مثل بقية الطلاب بالجامعة يجب أن يشعروا بأن الجامعة مِلكهم. ما زال هناك الكثير للقيام به ولكن احتجاجهم العبقرى دفع الجامعة لإعادة تقييم ماضيها تحت ضوء القيم الحالية.

وإن احتجاجهم ربما يساعدنا لنتفكر فى رؤية ترامب وكيلى للتاريخ. وكمبدأ أولى فالتاريخ لا يمكن حسره فى الحنين المُريح للماضي، او مجرد امتداد للتقدم. نحتاج لفهم الحقائق بشكل صحيح وإلا سننزلق إلى ما أسماه دو بويز: «أكاذيب مُتفق عليها». فى الحقيقة لا نستطيع حذف الوقائع التى تجعل رؤيتنا للأحداث والرموز التاريخية معقدة. واشنطن كان يملك عبيداً ولم يعاملهم بشكل لائق. جفرسون الذى كتب عن الديمقراطية بعبقرية كان يملك عبيداً ومن بينهم أم أطفاله الأَمَة سالى هيمنجزSally Hemings و كان يتساءل علانية إذا كان السود جنساً أدنى لأسباب بيولوجية. تسجيل الأحداث يثبت كل هذا.

الحقائق وحدها غير كافية. ما يهم هو ما نفعله بها، ما يهم هو الاسئلة التى نطرحها حولها والاجابات التى نحصل عليها. بالنسبة للبعض فإن امتلاك واشنطن وجفرسون للعبيد حقيقةُ توضح عدم جدارتهم الاخلاقية. وبالنسبة لأخرين فهما قد يكونا أخطأ بامتلاك العبيد ولكن ذلك لا ينتقص من جوانب أخرى فى حياتهم مثيرة للإعجاب. إن التفسيرات المختلفة لعصر اعادة الاعمار من ويليام دونينج إلى دو بويز تكشف لنا ما يتم تقديره فى كل من هذه التفسيرات، وتكشف لنا كيف أن الماضى هو لسان الحاضر. إن اقبالنا على التاريخ لا يمكن أن يكون موضوعياً بالكامل؛ إنه يوضح لنا -كالمعتاد- مواقفنا اليوم.

لهذا السبب فى لحظات الثورات والتحول الثقافى يكون أول شيء يفعله الجمهور إزالة رموز القيم القديمة. فعلى سبيل المثال العديد من تماثيل ستالين ولينين أُسقِطَتْ. ومنذ مقتل جورج فلويد على يد شرطى أبيض فى مايو والنُصُب الفيدرالية تُسقْط أو تُزال بطول البلاد وعرضها. ولكن الاخبار المُتداولة تؤكد أن نُصُب روبرت إدوارد لى مازال منتصباً فى شارلوتسفيل حيث قُتِلَتْ هاير. ها نحن لدينا الحقائق واضحة ونعلم ما يمثله لى من قيم ولكن مازال هناك اختلاف -بغض النظر عن اقتناع المُحتجين- عن القصة التى تُروى عنه. وكما قال بالدوين فى كتابه No Name in the Street:»فالفرد قد يرى التاريخ غير مُجزأ ومليء بالأخطاء والزيادات ولكن الأمر مختلف لملايين من الناس، فهذا التاريخ بالنسبة لهم. . .قَيد لا يُحتمل، سجن نَتِن، صرخات صامتة». يجادل بالدوين بأن المواطنين البيض فى أمريكا لو اختاروا أن يصدقوا الأكاذيب فإنهم بذلك يحرمون الأخرين من رفضها. فالنسبة لبالدوين فإن رفضَ الأكاذيب شرطُ التقدمِ.

وهذا استنتاج من الصعب قبوله. فواحدة من الخصائص الفريدة للقومية الأمريكية هى تشابك صورة أمريكا مع هوية مواطنيها البيض. لهؤلاء الذين يتشبثون بهذه الصورة يكمن خوفهم فى الاعتقاد بأن بمجرد اعترافهم بمساوئ العبودية أو بالآثار المُدمرة للاضطهاد فإن صورتهم عن أمريكا وعن أنفسهم سَتُحطم. ويجدون بدلاً من ذلك الراحة فى كذبة. لكن لو أنّ حُبنا لبلادنا مَبنى على كذبة فالحب نفسه -بغض النظر عن مدى آُلفته- يصير كذبة. فتصورنا عن شيء ربما يتحطم لكننا لن نتحطم تِبعاً لذلك.

فى أغسطس عام ١٩٦٥ نشر بالدوين مقالاً بمجلة Ebonyتحت عنوان «خطيئة الرجل الأبيض». لقد كان عاماً عصيباً اغتيل مالكوم إكس فى فبراير، وفى مارس شهد العالم وحشية شرطة ولاية ألاباما ضد المحتجين على جسر إدموند بيتوس فى سلما، وفى الحادى عشر من أغسطس ورداً على عنف الشرطة اشتعلت واتس بالقرب من لوس أنجلوس بأعمال الشغب. فى مقاله طالب بالدوين بمواجهة التاريخ الذى تتحاشه أمريكا البيضاء:« أيها الرجل الأبيض اسمعنى!، التاريخ، الذى يبدو أن لا أحد يعرفه، ليس لمجرد القراءة، ولا يرتبط بشكل حصرى أو اساسى بالماضى، بالعكس، فالتاريخ يستمد قوته من حقيقة أننا نحمله بداخلنا».

إن أى مواجهة صادقة مع الماضى تتطلب أن نعرف أنفسنا جيداً وأن نعرف نوع الاشخاص الذين نطمح أن نكونهم. أراد بالدوين أن يُحررنا من قيود القصة الوطنية المحدودة وبالتالى نستطيع تغيير أنفسنا. ولكى يحدث ذلك فعلى أمريكا البيضاء أن تسقط كل تلك الأساطير التى تحفظ براءتها، كتب بالدوين:« هؤلاء الناس الذين يتصورن أن التاريخ يمدحهم»، «مُحاصرين بتاريخهم كحشرة فى شبكة صيد لا يرون أنفسهم أو العالم ولا يستطيعون تغيير أى منهما».

إن ترامب ومؤيديه يقفون فى طابور طويل من هؤلاء الناس الذين يستخدمون فهماً مُحدداً من الماضى ليُعزز اضطهاد الحاضر. إن رؤية بالدوين تتطلب تفكيراً مع هذا الفهم؛ ليس المطلوب تأكيداً على عظمة أمريكا بل إيجاد أُسُس تُبنى عليها هذه العظمة.

فى تأملاته عن كينج، كتب بالدوين أننا نشهد موت التمييز العنصرى ولكن السؤال كم سيستغرق ذلك الموت من وقت وكم ستكون مُكلفة جنازته. لو أنه يعلم أننا وبعد خمسين عاماً مازالنا ننطلق فى المسيرات ونقاتل فى الشوارع. وأن هذا العالم العنصرى مازال يحتضر وأننا لم نقض عليه وأن تكلفة ذلك تتراكم. كم من أحبابنا سيتعفن فى السجون والمعتقلات؟ كم علينا أن نقاسى لنضع حداً لذلك؟ كم روحاً ستفقد بهاءها نتيجة خطيئة أمريكا؟ إن الحرية الحقيقية لكل الأمريكيين تتطلب أن نروى قصة أفضل، قصة أصدق عن كيفية وصولنا إلى هنا. حان وقت دفن الزنجى القديم ومعه كل المواطنين البيض الذين يحاولون بيأس ابقاءه، وأخيراً البداية من جديد.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة