روبرت لويس ستيفنسون يكتب :  ليال عربية جديدة
روبرت لويس ستيفنسون يكتب : ليال عربية جديدة


روبرت لويس ستيفنسون يكتب: ليال عربية جديدة

أخبار الأدب

السبت، 13 مايو 2023 - 01:32 م

ينضم ستيفنسون بهذا الكتاب، الذي اقتطعنا منه مجتزأً لهذا البستان، إلى زمرة الكتاب الذين تعرفوا على التراث العربي السردي واستلهموه فى أعمالهم، ولعل أبرزهم بروست وبورخس. بذلك، تمتد حكايات ألف ليلة وليلة وعالمها الغرائبي فى هذا العمل، وإن كان يمنح لستيفنسون بعدًا آخر لأعماله الهامة، فإنه يمنح بالقدر نفسه تقديرًا لليالي العربية وبيئتها الثرية وأفكارها الخلابة، دون نسيان خيالها القابل للتأويل ومجازها الذي يقاوم الزمن، إذ مخاوف الإنسان يمكن تجسيدها فى صور حيوانات وعفاريت، والعلاقات بين الناس تقوم على الخطأ والمغفرة.

اقرأ ايضاً| ندوة لمناقشة رواية «الجد قلندول» بالمركز الدولي للكتاب الخميس المقبل

هذا البستان إطلالة على كتاب يعيدنا إلى التراث العربي من نافذة أخرى، وهي نافذة نحتاج إليها أحيانا لتقدير ما نمتلكه من كنوز.

نادى الانتحار

حكاية الشَّابِّ صاحب فطائر

 الزُّبٍد ظفر الأمير «فلوريزيل»؛ أمير بوهيميا البارع، بمحبَّة الطبقات كافَّة خلال إقامته فى لندن؛ إذْ كان يستميلهم بخصاله وكرمه المدروس. كان رجلًا استثنائيًّا رغم ضآلة ما عرفه النَّاس عنه؛ هادئ الطباع فى عموم الأحوال، تمرَّس على التعامل مع الدنيا بحكمة الفلاحين.

ومع ذلك، كان ركوب الأهوال وسُبل الحياة غير المألوفة؛ مُقارنةً بما كانت تفرضه عليه نشأته الملكيَّة، يُغريان أمير بوهيميا. وهكذا بين الحين والآخر، متى أصابه الضَّجَر؛ حين لا تعرض مسارح لندن مسرحيَّة كوميديَّة، وحين لا يكون الأوان مناسبًا لممارسة الصيد أو الرماية حيثُ يبزُّ كل منافسيه، يستدعى صديقه الحميم والقيِّم على الإصطبلات الملكيَّة؛ «الكولونيل خيرالدين»، ويأمره بالتهيُّؤ لنزهة مسائيَّة. كان القيِّمُ ضابطًا شابًّا صنديدًا ومتهوِّرًا، فكان يستقبل الأنباء بفرح، ويُسارع بالاستعداد.

وكانت خبراته الطويلة وإلمامه متعدد الألوان بالحياة قد وهباه براعة فريدة فى التنكُّر؛ فكان يستطيع إلى جانب إخفاء وجهه ورفعة شأنه، أن يُكيِّف نبرات صوته وأفكاره هى الأخرى تقريبًا كى تتواءَم مع أى شخصية يتنكَّر فى زِيِّها؛ مهما كانت منزلة أو طباع أو جنسية هذه الشخصيَّة.

وبهذه الطريقة كان يصرف الأنظار بعيدًا عن الأمير، وأحيانًا ما كان يُتيح لهما دخول أماكن غير مألوفة. لم تحفل السلطات المدنيَّة بخبيئة تلك المُغامرات، والحقُّ أنَّ ثبات الأمير عند الشدائد، وتأهُّب القيِّم للابتكار فضلًا عن تفانيه النبيل، قد أنجيا الرجلان من جملة من الضوائق المؤذية؛ فترعرت بينهما الثقة مع مرور الوقت.

وفى إحدى ليالى مارس، أجبرهما سقوط المطر والبرد بغزارة على دخول أحد المطاعم الصغيرة فى الحى المُلاصق لميدان «ليستر». وكان «الكولونيل خيرالدين» يتنكَّر فى هيئة فقير من العَوامّ، أمَّا الأمير فمسخ سحنته؛ كالعادة، عبر لصق سالفين مُستعارين وحاجبين كثيفين، أكسباه هيئةَ رجلٍ أشعث عصفت به الأنواء، ما شكَّل بالنسبة إلى رجلٍ فى مثل تحضُّره، التنكُّر الأقوى على الإطلاق. ومن ثَمَّ احتسى القائد وتابعه البراندى والصودا من دون أن يتعرَّف إليهما أحد.

وكان المطعم يمتلئ بالزبائن؛ رجالًا ونساءً، لكن رغم أنَّ أكثر من زبون أراد تجاذب أطراف الحديث مع مُغامرينا، فإنَّه ما من أحدٍ من أولئك الزبائن كان التقرُّب منه يبشِّر بمعرفة ماتعة. ما من شيءٍ سوى حُثالات لندن وابتذالهم المألوف، فغلب التثاؤب الأمير، وبدأ يُصيبه السأم من الجولة برُمَّتها، حين انفتح عنوةً مصرعَا الباب المتأرجحان، واقتحم المطعمَ شابٌّ يتبعه حمَّالان، احتضن كل منهما صحنًا كبيرًا يضم فطائر زبد مُغطاة بكسوة أزالاها فى آنٍ واحد، وطفق الشَّابُّ يدور على الحاضرين ويُلحُّ عليهم بدماثة مفرطة كى يقبلوا هذه الفطائر المُحلَّاة. كان البعض يقبل هديته ضاحكًا، والبعض الآخر يرفضها بحزم، وأحيانًا بصورة خشنة. وفى تلك الحالة كان الوافد الجديد يلتهم الفطائر دائمًا ويُطلق بعض التعليقات الظريفة.

حتَّى جاء الدور على الأمير «فلوريزيل». 

انحنى الشَّابُّ باحترام عميق أمام الأمير، ممسكًا الفطيرة بين إبهامه وسَّبابته، وقال: «سيدي، هلا تشرِّف غريبًا؟ أستطيع أن أتحمَّل مسئولية جودة الفطائر؛ ذلك أنِّى نفسى قد أكلتُ منها سبعًا وعشرين منذ دَقَّت الخامسة».

فأجاب الأمير: «اعتدتُ ألَّا أكترث كثيرًا بطبيعة الهدية، بل بالروح التى تُهدى بها».

هَهُنا تقهقر الشَّابُّ وانحنى مرَّةً أخرى قائلًا: «يا سيدى الرُّوح روحُ استهزاء».

فردد الأمير: «استهزاء؟ ومِمَّن تعتزم أن تهزأ؟». 

أجاب الآخر: «لستُ هُنا كى أشرح فلسفتي، بل لتوزيع فطائر الزُّبد هذه. لكنِّى آمُل من وراء التنويه إلى أَنْ أُدرج نفسى بقلبٍ راضٍ ضمن من توجَّه إليهم ما فى الصفقة من سخرية، وأن تعتبر شرفكم مَصُونًا قرير العين. أمَّا إن رفضت، فسترغمنى على تناول الفطيرة الثامنة والعشرين، وأعترف لك، لَكَمْ أنهكنى ذلك!». 

فقال الأمير: «لشدُّ ما أشفق عليك، وما أشدَّ عزمى على إنقاذك من هذا المأزق، لكن بشرطٍ واحد. إن أكلتُ أنا وصديقى من فطائرك - التى لا تستهوينا بأى حال من الأحوال - فإنَّا نطمح آنَئذٍ أن تنضم إلينا على العشاء من باب التعويض». 

بدا أنَّ الشَّابَّ يُمعن التفكير.

وأخيرًا قال: «لا زالت معى عشرات الفطائر؛ ما يجعلنى مضطرًّا لزيارة مزيد من الحانات قبل أن أختتم مَهمَّتى الكُبرى. سيستغرق ذلك بعض الوقت، وإن كنت جائعًا...»

فقاطعه الأمير بإيماءة مهذَّبة وقال:

«أنا وصديقى سنرافقك؛ ذلك أنَّ شغفًا عميقًا يعترينا بأسلوبك المليح فى تمضية الليلة. والآن وقد سوَّينا إجراءات السلام التمهيديَّة، ائذن لى بالتوقيع على المعاهدة».

وابتلع الأمير الفطيرة بألطف ما يُمكن.

صاح: «ما ألذَّها!».

فأجاب الشَّابُّ: «ما أرفعَ ذوقك!».

ثُمَّ أظهر «الكولونيل خيرالدين» هو الآخر احترامه للفطائر، ولأنَّ كل من فى ذلك المطعم الصغير كان قد قبِل أو رفض ما يقدِّمه الشَّابُّ من أطايب، فقد شقَّ طريقه إلى مطعم آخر مُشابه مع فطائر الزبد، وتبعه على الفور الحمَّالان الذى بدا أنَّهما اعتادا وظيفتهما العبثيَّة، وفى المؤخَّرة الأمير والكولونيل؛ متشابكَى الذراعين، يبتسم كُلٌّ منهما للآخر أينما ذهبا. بهذا الترتيب زار الرفاق مطعمين اثنين حيثُ جرت الأحداث على نفس النحو السَّابق، البعض يرفض؛ والبعض الآخر يقبل ما فى هذه الحفاوة الشاردة من إحسان، والشَّابُّ يلتهم كل فطيرة مرفوضة، وعند مُغادرة المطعم الثالث أحصى الشَّابُّ ما لديه، وكانت تسع فطائر، ثلاثٌ فوق صينية، وستٌّ فوق أخرى.

صاح الشَّابُّ مُخاطبًا تابعيه الجديدين: «أيها السيدان، أكره أن أؤخِّر عشاءكما. ولا ريب عندى أنَّكما جائعان. وأشعر أنِّى مَدِينٌ لكما باحترام خاص. وآمُل فى هذا اليوم الرائع بالنسبة إليَّ؛ وأنا على مشارف اختتام رحلة ملأى بالتصرُّفات السخيفة والطائشة شديدة الوضوح، أن أتصرف بأريحيَّة مع كل من شجِّعني. أيها السيدان، لا مزيد من الانتظار، ورغم أنَّ الفظائع السالفة لم تترك مجالًا لمزيدٍ من الطعام، فإنِّى سأخاطر بحياتى وألتهم ما تَبقَّى». 

وما إن أنهى الشَّابُّ كلماته حتَّى أقحم الفطائر التسع الباقيات داخل فمه، وطفق يزدرد كُلًّا منها دفعة واحدة. ثُمَّ التفت صوب الحمَّالين وأعطى لكُلٍّ منهما قطعتين ذهبيتين. 

«ينبغى أن أشكركما جزاء صبركما المثير للعجب». 

وصرفهما مُنحنيًا لكل منهما. ثُمَّ انتصب لبضع ثَوَانٍ يتأمَّل محفظة النقود التى أخرج منها القطعتين الذهبيتين لمساعديه الاثنين، وضحك، ثُمَّ ألقى بها إلى عرض الشارع، وأبدى استعداده لتناول العشاء. 

وداخل مطعم فرنسى صغير فى «سوهو» حظى لبعض الوقت بصيتٍ مُغالى فيه، قبل أن يبدأ النسيان فى ابتلاعه، وداخل غرفة منعزلة أعلى وصلتين من الدَّرَج، تناول الرفاق الثلاثة عشاءً راقيًا، واحتسوا ثلاث أو أربع زجاجات من الشمبانيا، وتجاذبوا لفترة قصيرة أطراف حديث. كان الشَّابُّ فصيحًا وبَشُوشًا، لكن ضحكاته الصاخبة لم تَكُن تليق بشخص رفيع التربية، وكانت كفَّاهُ ترتجفان بقوة، ونبرات صوته تتبدَّل بغتةً على نحوٍ بدا على غير إرادة منه. رفع النادل أطباق التحلية، فأشعل كل منهم سيجارته، ووجَّه الأمير كلماته للشاب:

«أثق أنَّك ستصفح عن تطفلي؛ ذلك أنَّ ما رأيته منك أبهجنى كثيرًا وأصابنى بالحيرة بدرجة أكبر. ورغم أنِّى لا أرضى أن أبدو فضوليًّا، فإنِّى مضطر أن أؤكد لك أنى وصديقى جديران بأن تأتمننا على سرَّك. والحقُّ أنَّ لنا أسرارًا كثيرة لا نكفُّ عن إفشائها لأشخاص غير مناسبين. ولو كانت قصتك سخيفة؛ حسبما أفترض، فلا حرج. ذلك أنَّنا نحنُ الاثنين أسخف رَجُلين فى إنجلترا. اسمى ثاوفيلوس جودال؛ أمَّا صديقى فهو الميجور ألفريد هامرسميث، أو على الأقل هذا هو الاسم الذى اختاره لنفسه. وكلانا يُمضى حياته بحثًا عن مغامراتٍ ملأى بالشَّطَط، وما من شططٍ لا يُمكننا أن نتعاطف معه».

أجاب الشَّابُّ: «أنت تروق لى يا سيد جودال؛ إذْ توحى لى بطمأنينة فطريَّة. وليس عندى أدنى اعتراض على صديقك الميجور الذى أراه نبيلًا يرتدى لباسًا تنكُّريًّا، والذى أثق أنَّه ليس جنديًّا على الأقل». 

ابتسم الكولونيل بسبب هذا الثناء على إجادته لفنِّ التنكُّر، وواصل الشَّابُّ بأسلوب أشدَّ حيويَّة:

«إنَّ أسبابًا عديدة تحُول بينى وبين أن أروى حكايتي، ولعلَّ هذا السبب تحديدًا هو ما يجعلنى أرويها. فعلى أقل تقدير أرى أنَّكما مستعدان لسماع حكاية حمقاء أعجز عن إقناع نفسى بأنَّها لن تُخيب توقعاتكما. لن أئتسى بكما، وسأحتفظ باسمى سرًّا. ومعرفة عُمرى ليست بالأمر المهم. أنحدر من جدودى بالطريق الشرعي، وورثت عنهم مسكنًا هو الأليَق للسُّكنَى ولا أزال أشغله، إضافةً إلى ثروة تُقدَّر بثلاثمائة جنيه إسترلينى سنويًّا. أخال إنَّهم أورثونى كذلك القدرة على المرح الطائش الذى صار الانغماس فيه أشدَّ ما يُبهجني. تلقيتُ قسطًا وافرًا من التعليم، وأستطيع العزف على الكمان ببراعةٍ تكفى كى أجنى مالًا من العزف للطبقات الشعبيَّة، وليس أكثر من ذلك. الأمر نفسه ينطبق على الفلوت والبوق الفرنسي. ألعب «الوست» بما يكفى كى أخسر مائة جنيه إسترلينى سنويًّا فى تلك اللعبة العلميَّة. ويفى ما لديَّ من معارف فرنسيين لتمكينى من تبديد النقود فى باريس بالسهولة ذاتها التى أبدد بها نقودى فى لندن. بكلمات وجيزة، أنا رجل يحظى بكثير من مؤهلات الرجولة؛ إذْ خضت كل ضروب المغامرة بما فيها المبارزة بلا سبب. منذُ شهرين فقط التقيتُ بامرأة شابَّة تنسجم تمامًا مع ذائقتى عقلًا وقوامًا فآنستُ قلبى يذوب، وأيقنتُ أنِّى صادفتُ نصيبى أخيرًا، وكنتُ على وشك أن أُغرم بها. لكن عندما قررت أن أُحصِى ما تبَّقى من رأسمالي، اكتشفت أنَّ قيمته لا تتعدى الأربعمائة جنيه إسترليني! باللـه عليك، هل يُعقل أن يعشق رجلٌ امرأةً فى حين لا يملك سوى أربعمائة جنيه إسترليني؟ ولمَّا كانت إجابتى بالرفض طبعًا، فقد انصرفتُ عن طيف ساحرتي، وزدتُ بعض الشيء من معدلى المعتاد فى الإنفاق إلى أن لم يبقَ لى هذا الصباح سوى ثمانين جنيهًا. وقد قسَّمت هذا المبلغ إلى نصفين متساويين، أربعون جنيهًا أدَّخرها لغرض مُعيَّن، والأربعون الأخرى كان من المُقرر أن أبددها قبل أن يحَّل الليل. لَكَمْ كان يومى شديد التسلية، وقد مارستُ فيه مهازل عِدَّة إلى جانب مهزلة فطائر الزُّبْد التى أتاحت لى فرصة التعرُّف إليكما؛ ذلك أنِّى عاقد العزم على أن أسلك مسلكًا سفيهًا أختتم به يومًا أشد سفاهة. وحين رأيتمانى ألقى حافظة نقودى فى عرض الشَّارع، كانت الأربعون جنيهًا قد تبددت. ها أنتم الآن تعرفاننى كما أعرف نفسي: أحمق، لكن متمسِّك بحمقه؛ غير متذمِّر ولا جبان».

كان من الواضح من نبرة حديثِ الشَّابِّ أنَّه يَكُن أفكارًا مريرةً وشديدة الازدراء عن نفسه، جعلت مستمعيه الاثنين يظنان أنَّ قصة الحب التى رواها لمست قلبه أقوى مما صرَّح، وأنَّ لديه رغبة دفينة فى إنهاء حياته. وهكذا، بدأت مهزلة فطائر الزبد تكتسى بأجواء تراجيديَّة مُقنَّعة.  

هتف «خيرالدين» ملقيًا نظرةً على الأمير «فلوريزيل»: «ربَّاه! أليس غريبًا أن تجمعنا أندر الصدف بهذا القفر الواسع المُسمَّى لندن، ونكاد نمرُّ بنفس الظروف؟».

فصاح الشَّابُّ: «كيف؟ هل أنتما محطمان أيضًا؟ وهل هذا العشاء مُجرَّد سخف مثل فطائر الزبد؟ هل جمع الشيطان شمل ثلاثة من ضحاياه من أجل احتفالٍ صاخبٍ أخير؟».

أجاب الأمير «فلوريزيل»: «صدِّقني، أحيانًا يقوم الشيطان بأفعالٍ فى غاية النُّبل. ولكَمْ أشعر بالتأثر جرَّاء هذه المُصادفة لدرجة أنِّي؛ رغم أنَّنا لسنا فى الظروف ذاتها، أعتزم أن أضع حدًّا لما بيننا من اختلاف. وسأجعل من تناولك البطولى لآخر فطائر زبد مثالًا لي».

وأتبَع الأمير حديثه بإخراج حافظة نقوده، ثُمَّ التقط منها بضع أوراق نقديَّة.

واستطرد: «الحقيقة أنِّى كنتُ متأخِّرًا عنك أسبوعًا تقريبًا، لكنِّى أرمى لِلِّحاق بك وأن نُحرز الفوز معًا. وستفى هذه...»، ووضع إحدى الأوراق النقدية فوق الطاولة، ثُمَّ أردف: «بقيمة الفاتورة. أمَّا بالنسبة إلى الباقي...»

وألقى بالأوراق النقدية إلى النَّار التى اضطرمت وارتفع لهبُها داخل المدفأة. 

حاول الشَّابُّ اللحاق بذراع الأمير، لكن الطاولة بينهما حالت دون تدخله فى الوقت المُناسب.

فهتف: «ما أتعسَك من رجل! ما كان عليك أن تُشعل النار فيها كلها! بل كان ينبغى أن تستبقى منها أربعين جنيهًا».

ردد الأمير: «أربعون جنيهًا؟ ولِم باللـهِ أربعون جنيهًا؟».

وصاح الكولونيل: «ولِم ليست ثمانين؟ ذلك أنِّى أعلم يقينًا أنَّها كانت مائة جنيه».

اكتست نبراتُ الشَّابِّ بالكآبة حين قال: «لم يَكُن يريد سوى أربعين جنيهًا. لكن ما من تصريح بالدخول من دونها. القاعدة صارمة. أربعون جنيهًا فى كل مرَّة. حياة ملعونة، حتَّى الموت فيها أصبح مستحيلًا من دون نقود».

تبادل الأمير والكولونيل النظرات فيما بينهما، وقال الأخير: «أَوْضِح ما تقول؛ إذْ لا زلت أحمل محفظة منتفخة بأوراق النقد، ولا حاجةَ أن أعلن كَمْ أنا على استعداد أن أقتسم ثروتى مع جودال. لكن ينبغى أن أعرف المُراد: لا بُدَّ أن تُفصح لنا عمَّا تقصد».

هَهُنا بدا أنَّ الشَّابُّ قد انتبه، فراح ينقِّل ناظريه بينهما فى اضطراب، واحتقن وجهه بالدماء.

سألهما: «ألا تحتالان عليَّ؟ هل أنتما رجلان مُحطَّمان مثلى حقًّا؟».

فأجاب الكولونيل: «هذه هى الحقيقة بالنسبة إليَّ».

وأردف الأمير: «وبالنسبة إليَّ أيضًا. وقد قدَّمت لك البرهان؛ إذْ مَنْ سوى رجل مُحطَّم يلقى بنقوده إلى النار؟ التصرُّف ليس فى حاجة إلى توضيح».

رَدَّ الشَّابُّ بنبرةٍ ملؤها الارتياب: «رجلٌ مُحطَّم، أو مليونير».

وهتف الأمير: «كفَى يا سيدي. لقد قلتُ كلمتى ولم أعتَدْ أن يظلَّ حديثى موضعَ شكّ».

فردد الشَّابُّ: «مُحطَّمان؟ هل أنتما مُحطَّمان مثلي؟ هل سينتهى بكما الحال بعد حياةٍ حافلةٍ بالملذات إلى طريق تُطلقان فيه العنان لشيءٍ واحد فحسب؟» واستمر يُخفض صوته مستطردًا: «هل سترفقان بنفسيكما للمرَّة الأخيرة؟ وتتجنبان تبعات حماقاتكما عبر المسلك الناجع الميسور الوحيد؟ هل ستفرَّان من مُديرَى الشرطة المسئولَيْن عن الضمير عبر الباب المفتوح الوحيد؟»

وتوقَّف عن الحديث بغتةً وحاول أن يضحك.

ثُمَّ هتف مفرغًا كأسه: «نَخْب صحتكما! وطاب مساؤكما أيها السيدان المحطَّمان المرحان».

لكن الكولونيل «خيرالدين» قبض على ذراعه وهو على وشك النهوض.

قال الكولونيل: «أنت لا تثق بنا، وأنت مُخطئ. جوابى على كل تساؤلاتك هو نعم. على أنِّى لست مخلوع الفؤاد، وأستطيع أن أتفاصَح من دون مُداوَرة. بلى، كلانا مثلك أنهكتنا الحياة وكلنا تصميم على الموت. وإن آجلًا أو عاجلًا؛ كل رجلٍ مِنَّا بمفرده أو معًا، فما نبغيه هو أن نبحث عن الموت وأن نباريه حيث يحلُّ متحفَّزًا. وما دمنا قد التقينا بك، وحالك أشدُّ حرجًا، فهيَّا بنا الليلة - ومن دون تأخير - نحن الثلاثة معًا، إن لم يَكُن لديك ما يمنع. فهذا الثلاثى المُعدَم عليه أن يقتحم أروقة بلوتو دفعة واحدة، وأن يُعِين بعضهم بعضًا بين الظلال!».

أصاب «خيرالدين» بالضبط كَبِد السلوك والنبرات التى صارت جوهر الدور الذى يلعبه. كان الأمير نفسه حائرًا، وقد تفحَّص صديقه الحميم ببعض ارتياب. أمَّا الشَّابُّ، فعاد خدَّاه يتورَّدان من جديد، وتألَّقت عيناه ببريقٍ من نور.

صاح الشَّابُّ بجذلٍ كبير: «أنتما بطلاي! هيَّا نتصافح إيذانًا بالاتفاق!» وكانت كفَّاهُ باردتين ورطبتين «لا فكرة لديكما عمَّن سترافقانهم فى الزحف! ولا فكرة لديكما عن قدر المسرَّة التى تنتظركما منذُ أكلتما من فطائري! أنا فردٌ واحد، لكن فرد ضمن جيش. وأعلم باب الموت السِّرِّي. أنا واحدٌ من رفاقه، وأستطيع أن أرشدكما إلى الأبديَّة، من دون طقوس ولا فضيحة».

فناشداه بفارغ الصبر أن يشرح ما يعنيه. 

سألهما: «هل تستطيعان جمع ثمانين جنيهًا؟».

فنظر «خيرالدين» إلى محفظة نقوده متباهيًا، ورَدَّ بالإيجاب.

صاح الشَّابُّ: «يا لكما من محظوظين! فكُلْفة الانضمام إلى نادى الانتحار هى أربعون جنيهًا».

ردد الأمير: «عجبًا! وماذا يكون نادى الانتحار هذا!».

قال الشَّابُّ: «أصغيا جيدًا. هذا عصر وسائل الراحة، وسأكشف لكما آخر إنجازاته. لقد دفعنا العمل فى أماكن شتَّى إلى ابتكار السكك الحديديَّة، ولأنَّ الأخيرة حالت بيننا وبين أصدقائنا فقد ظهرت رسائل التلجراف كى نتواصَل على نحوٍ أسرع عبر المسافات الكبيرة. حتَّى داخل الفنادق لدينا مصاعد تُجِّنبنا تسلُّق مئات الأدراج. نعلم الآن أنَّ الحياة ليست سوى مسرح نلعب فوقه دور المهرجين ما دام الدور يُسلينا. لكن ثَمَّة وسيلة أخرى للراحة تفتقر إليها الرفاهية الحديثة؛ وهى وجود طريقة سهلة ومُلائمة لترك ذلك المسرح، الدَّرَج الخلفى للحرية، أو مثلما قلت منذ لحظات؛ باب الموت السري. وهذا؛ يا رفيقى المتمردين، ما يُتيحه نادى الانتحار. لا تحسبا أنَّنا بمفردنا، أو أنَّنا فريدون فى رغبتنا شديدة الحكمة التى نُجاهر بها. إنَّ ما يحول بين عدد هائل من أشقَّائنا فى الإنسانية؛ مِمَّن سئموا أداء الدور المُنتظر منهم يوميًّا طوال حياتهم وبين الفرار، هو اعتبارٌ واحد أو اعتباران. فللبعض منهم عائلات قد تُصاب بالصدمة أو يقع عليها اللوم إن ذاع الأمر، والبعض الآخر ضعيف القلب وينكُص أمام سكرات الموت. وهذا حالى بعض الشيء؛ ذلك أنِّى لا أستطيع أن أصوِّب مسدسًا إلى رأسى وأن أسحب الزناد لأنَّ شيئًا أقوى منى سيردعني، ورغم أنِّى أعاف الحياة فإنِّى لا أقوَى على الإمساك بتلابيب الموت والسير معه إلى النهاية. وهكذا؛ لأجل كل من هم مثلي، ولكل الراغبين فى الخروج من الدوَّامة من دون أن تلحق بهم فضيحةُ ما بعد الموت، اُفتُتح نادى الانتحار. أمَّا كيف نشأ النادي، وما تاريخه، وما فروعه المُحتملة فى بلادٍ أخرى، فهذا ما لا أعلمه شخصيًّا. كما أنِّى لستُ فى حِلٍّ كى أفشى لكما ما أعلمه عن تشكيل النَّادي. مع ذلك أنا فى خدمتكما، وسأدبِّر لكما لقاءً الليلة؛ إن كان الضَّجَر من الحياة قد أصابكما حقًّا، وإن لم يَكُن الليلة فعلى الأقل خلال الأسبوع، وآنَئذٍ تتخفَّفان بسهولةٍ من وجودكما. إنَّها الآن - وتفحَّص ساعته - الحادية عشرة، وعلينا أن نترك هذه الحانة قبل منتصف الليل بنصف ساعة على الأقل؛ ولذلك أمامكما نصف ساعة فحسب تُمعنا خلالها التفكير فى عرضي. الأمر أكثر جديَّةً من مُجرَّد فطيرة زبد.» ثُمَّ أردف مبتسمًا: «وأحسَبُه أشهى مذاقًا».

قال الكولونيل «خيرالدين»: «قطعًا أكثر جديَّة. لكن هل تأذن لي؛ إذْ يتطور الأمر على هذا النحو، بخمس دقائق أنفردُ خلالها بالحديث مع صديقى السيد جودال؟».

فأجاب الشَّابُّ: «بالطبع. واسمحا لى أنْ أبتعد».

قال الكولونيل: «هذا كرمٌ بالغ منك».

وبعد أن ابتعد الشَّابُّ، قال الأمير «فلوريزيل»: «لِمَ هذا التشاور يا خيرالدين؟ أراك حائرًا، أمَّا عقلى فمرتَّب وهادئ. سأرى نهاية هذا الأمر».

فقال الكولونيل شاحب الوجه: «سُموَّ الأمير، ائذن لى أن أطلب منك التفكير فى أهمية حياتك، لا بالنسبة إلى أصدقائك فقط، بل للصالح العام. لقد قال هذا المخبول: ’إن لم يَكُن الليلة‘، لكن افترض أنَّ مكروهًا جَلَلًا حاق الليلة بشخص سُموِّك، آنَئذٍ؛ ائذن لى بالسؤال عن قدر هلعي، وعمَّا سيصيب أمَّةً عظيمةً من اضطرابات ومِحَن».

لكن الأمير ردد بأشدِّ نبراته حزمًا: «سأرى نهاية هذا الأمر، وأرجو أن تتذكَّر وتحترم يا كولونيل خيرالدين ما تعهدت به باعتبارك رجلًا نبيلًا. مهما تَكُن الظروف إياك أن تُفشي؛ من دون إذنى الخاص، سرَّ التخفِّى الَّذى أختاره كى أغادر القصر. تلك كانت أوامرى التى أُعيد تذكيرك بها الآن.» وتابَع: «والآن من فضلك اطلب الفاتورة».

انحنى «الكولونيل خيرالدين» فى خضوع، لكن وجهَهُ كان شديد الشحوب أثناء ندائه على الشَّابِّ صاحبِ فطائر الزُّبْد، وأصدر تعليماته للنادل. أمَّا الأمير، فحافظ على سلوكه الهادئ، وطفق يصف للانتحارى الشَّابِّ باستمتاعٍ ومرحٍ كبيرين، مهزلةً شاهدها على خشبة «البالاس رويال». وكان يتجنَّب خلال ذلك نظرات الكولونيل المتوسلة من دون تباهٍ، وراح ينتقى سيجارًا آخر بعناية فريدة. والحقيقة أنَّ الأمير كان هو الرجل الوحيد بينهم الذى يُسيطر على أعصابه.

سدَّد الكولونيل الفاتورة، وأمر الأمير النادل المبهوت أن يحتفظ بباقى الورقة النقدية كاملًا، واستقل ثلاثتهم حنطورًا لم يمض بهم طويلًا قبل أن يتوقَّف أمام مدخل قصر مُعتم بعض الشيء، فترجلوا جميعًا. 

دفع «خيرالدين» الأجرة، والتفت الشَّابُّ مُخاطبًا الأمير «فلوريزيل» بقوله: «لا يزال أمامك متسعٌ يا سيد جودال كى تستدرك النجاة وتفرَّ إلى العبودية. وأنت أيضًا يا ميجور هامرسميث. تدبَّرا قبل اتخاذ خطوة أخرى، وإن ساوركما تردُّد، فهَهُنا مُفترق الطرق».

قال الأمير: «هيَّا بنا يا سيدي. فلستُ بالرجل الذى يتراجع عمَّا قال». 

ورَدَّ الشَّابُّ: «ما أجمل رباطة جأشك! لم يسبق لى أن رأيت قَطُّ رجلًا لم يهتزَّ أمام هذا الظرف، ورغم ذلك فلست أول من أرافقه إلى هذا الباب. ولقد سبقنى غير واحدٍ من أصدقائى إلى حيثُ كنتُ أعلم أنِّى سأليهم قريبًا لا محالة. لكن هذا لا يعنيكما. انتظرانى هُنا بضعَ دقائق، سأعود حالما أرتِّب إجراءات دخولكما».

عندئذ لوَّح الشَّابُّ لرفيقيه والتفت تجاه القصر، ثُمَّ دلف عبر فتحة باب واختفى.

قال «الكولونيل خيرالدين» بصوتٍ خفيض: «من بين كل من قابلناهما من حمقى، هذا الشَّابُّ هو الأشدُّ جموحًا وخطرًا».

أجاب الأمير: «أوافقك الرأى تمامًا».

فتابع الكولونيل: «لا يزال أمامنا متسع. أتوسَّل إليك يا سموَّ الأمير أن تنتهز الفرصة السانحة وتتراجع، فتبعات هذه الخطوة بالغة القتامة، ورُبَّما تكون باهظة جِدًّا، للحدِّ الذى أشعر معه أنَّ لديَّ ما يُجيز لى أن أرفع قليلًا سقف ما يتلطَّف عليَّ به سُموُّك من حُرية، أكثر مما تسمح لى به عادةً وراء الأبواب المُقفلة».

سأله سُموُّ الأمير، منتزعًا السيجار من بين شفتيه، ومُحدَّقا بقوة فى وجه مُحدِّثه: «أفهم من ذلك أنَّ الكولونيل خيرالدين يشعر بالخوف؟».

فأجاب الآخر بكبرياء: «إنَّ خوفى ليس على شخصي. فلتطمئنَّ يا مولاي».

قال الأمير بمرح خالص: «كنتُ أعلم ذلك. لكنِّى أكره تذكيرك باختلاف منزلتينا. لا مزيد - لا مزيد.» وكان «خيرالدين» على وشك الاعتذار، فتابع الأمير: «لا لوم عليك».

وراح يُدخِّن بهدوء متكئًا على سياجٍ حتَّى عاد الشَّابّ.

سأله: «حسنًا، هل رتبتَ لاستقبالنا؟».

فأجاب: «اتبعاني. سيلقاكما الرئيس فى مقصورته. واسمحا لى أن أُنبِّهكما بضرورة أن تكون إجاباتكما صريحة. لقد ضمنتُـكما، لكن النَّادى يقتضى القيام باستقصاءٍ قبل التصريح بالدخول؛ ذلك أنَّ رعونة عضوٍ واحد قد تُؤدِّى إلى تفرُّق النادى كله للأبد».

قرَّب الأمير و»خيرالدين» رأسيهما من بعضهما البعض برهة، وهمس أحدهما: «كُنْ معى فى هذا»، وهمس الآخر: «كُنْ معى فى ذاك»، وهكذا توصلت الشخصيتان اللتان ينتحلانهما الأمير وتابعه إلى اتفاق فى طرفة عين، وأصبحا جاهزين لِلِّحاق بالشَّابِّ إلى مقصورة الرئيس.

لم يُصادفا عراقيلَ ضخمةً تحُول دون مرورهما، بل كان الباب الخارجى مفتوحًا، وكان باب المقصورة مُوارَبًا. وهناك؛ فى جناحٍ صغير لكن عالى السَّقف، تركهما الشَّابُّ مرَّةً أخرى. 

أومأ برأسه لهما وقال قبل أن يختفي: «سيأتى فورًا».

سمعا أصواتًا تأتى من المقصورة عبر أبواب قابلة للطَيّ شغلت جدارًا كاملًا، وبين حينٍ وآخر تفرقع سدَّادة زجاجة شمبانيا، ثُمَّ تتعالى ضحكات تتداخل مع أصوات أحاديث مُتبادَلة. ثَمَّة نافذة وحيدة عالية تُطلُّ على النهر والجسر، وقد خمَّنا من خلال الأضواء القريبة نسبيًّا أنَّهما ليسا بعيدين عن محطة «تشيرنج كروس». كان الأثاث قليلًا، والأغطية شديدة الاهتراء، وما من شيءٍ قابل للتحريك سوى جرس يدوِّى بمنتصف طَاوِلَة مستديرة. ولَاحَظَا وجود عدد هائل من القُبَّعات والمعاطف تتدلَّى من مشاجب مُثبَّتة بطول الحائط.

قال «خيرالدين»: «أيُّ عرينٍ هذا؟».

رَدَّ الأمير: «هذا ما جئت لأعرفه. ولكم سيغدو الأمر مُسليًّا أكثر لو أنَّهم يحتفظون بشياطين حَّية داخل المبنى».

آنَئذٍ انفتح الباب القابل للطَيِّ قليلًا بما يسمح بمرور شخص واحد فحسب، واندفع فى اللحظة نفسها دويُّ حديث، والرئيس المَهِيب لنادى الانتحار. كان الرجلُ يبلغ خمسين عامًا أو يزيد، ضخم الجثة ذاهل الخطو، له سالفان أشعثان، ورأس أصلع، وعينان رَماديَّتان تُضمران شيئًا، وكانتا الآن تُطلقان وميضًا. كان يضع بين شفتيه سيجارًا ضخمًا ظل يُنقِّله من جانبٍ لآخر من دون توقف، وحدج الغريبين بنظرة ثاقبة وباردة. كانت ثيابه من صوف «التُّوَيْد» الخفيف، وكانت ياقة قميصه المخططة مفتوحة وتكشف عنقه بالكامل. وكان يحمل أسفل إحدى ذراعيه كتابًا دقيقَ الحجم.

أوصد الباب، وقال: «طاب مساؤكما. أبلغونى أنَّكما ترغبان فى الحديث معي».

أجاب الكولونيل: «نرغب يا سيدى فى الالتحاق بنادى الانتحار؟».

قلب الرئيس السيجار داخل فمه وباغتَهم قائلًا: «وأيُّ شيء هذا؟».

قال الكولونيل: «سامحني؛ إذْ أتصوَّر أنَّك أدرَى من يُحيطنا عُلمًا حول هذا الشأن».

فهتف الرئيس: «أنا؟ نادى انتحار؟ هيَّا، هيَّا! هذا واحد من مقالب كذبة أبريل. رُبَّما ألتمس العذر للسادة المُحترمين الذين ينكبُّون على شرب الخمر، لكن لنضع حَدًّا لهذا».

قال الكولونيل: «سَمِّ ناديك ما تشاء من أسماء. لديك خلف هذه الأبواب جماعة سريَّة، ونحن نصرُّ على الانضمام إليها».

رد الرئيس باقتضاب: «لقد ارتكبتَ خطأً يا سيدي. هذا منزل خاص، وعليك أن تغادره فورًا».

كان الأمير يجلس هادئًا فى مقعده أثناء هذا النِّقاش الصغير، لكن الآن، بعد أن حدجه الكولونيل بنظرة كأنَّه يقول: «هيَّا باللـه عليك، خُذ رَدِّى وارحل.»، سحب السيجار من فمه وقال: «لقد جئت إلى هُنا بناءً على دعوة من أحد أصدقائكم. ولا ريب أنَّه أبلغك بنيَّتى أن أقتحم جماعتك. ائذَنْ لى بتذكيرك أنَّ شخصًا مثلى لا يربطه بالحياة إلا القليل، ومن المستبعَد أن يستسيغ كثيرًا من الفظاظة. لَكَمْ أنا رجلٌ لطيف فى عادى الأحوال، لكن سيدى العزيز، إما تتفضَّل عليَّ فى تلك المسألة الصغيرة التى تعيها، وإما لشدُّ ما ستندم لأنَّك استقبلتنى فى حجرة الانتظار هذه».

ضحك الرئيس بصوتٍ عالٍ.

قال: «هذا هو الأسلوب المناسب للحديث. أنت رجلٌ بحقّ. تعرف الطريق إلى قلبي، ولك أن تطلب ما تشاء.»، وتابع مُخاطبًا «خيرالدين»: «هلَّا تنَّحيتَ جانبًا بضع دقائق؟ سأفرغ من الأمر مع رفيقك أولًا، فبعض إجراءات النادى الشكلية يجب إنهاؤها على انفراد».

وانتهى من حديثه ليفتح باب حجرة صغيرة، ثُمَّ أوصد بابها خلف الكولونيل.

وما إن أصبحا بمفردهما حتَّى قال مُخاطبًا «فلوريزيل»: «أنا أثقُ بك، لكن تُرى هل تثق فى صديقك؟».

أجاب «فلوريزيل»: «ليس كقدر ثقتى فى نفسي، رغم أنَّ لديه أسبابًا أكثر إفحامًا. لكنِّى مُطمئنٌّ إليه بدليل أنِّى أحضرته معى إلى هُنا من دون خوف. لقد نال كفايته وما عاد من الممكن إنقاذ الرجل الأكثر درايةً وصلابة؛ ذلك أنَّه طُرد قبل بضعة أيام بسبب الغِشّ فى أوراق اللعب».

قال الرئيس: «أحسبُه سببًا لا بأس به. على الأقل لدينا شخصٌ آخر يمرُّ بنفس الظروف وأنا أثق به. ائذَنْ لى أن أسألك، هل كنت أنت الآخَر فى الخدمة؟».

أجاب الأمير: «بلى. على أنِّى كنتُ شديد الكسل، فتركتُها مبكرًا».

فاستطرد الرئيس: «ولِمَ سئمتَ من الحياة؟».

قال الأمير: «لنفس السبب بقدر ما أرى. تكاسُل صِرْف».

ردد الرئيس: «الوقوف مكتوف الأيدي. لا بُدَّ أن لديك سببًا أوْجَه».

فأضاف «فلوريزيل»: «أنا مُفلس. وهذا من دونِ شكٍّ مدعاةٌ للاستياء أيضًا. ذلك أنَّ هذا الإفلاس يدفع إحساسى بالخمول إلى خانةٍ خطيرة».

قلب الرئيس السيجار داخل فمه بضع ثَوَانٍ، وراح يُحدِّق مُباشرة أثناء ذلك فى عينيّ هذا المبتدئ العجيب، لكن الأمير رفد هذا التدقيق بملامح هادئة لا تعرف الخجل.

وأخيرًا قال الرئيس: «لولا أنَّ لديَّ بعض الخبرة لأمرتُك بالانصراف. لكنِّى خبرت الدنيا، وأعلم أنَّ حجج الانتحار الأكثر رعونةً هى الأشدُّ مدعاةً للوقوف بجانبها. أضف إلى ذلك أنِّى أميل لكسر التشريعات متى راق لى رجلٌ ما، بدلًا من رفضه».

خضع الأمير والكولونيل؛ الواحد تلو الآخر، لاستجوابٍ طويل ومستفيض: الأمير بمفرده، لكن «خيرالدين» فى حضور الأمير؛ ومن ثَمَّ يتمكَّن الرئيس من أن يُراقب قسمات كُلِّ فردٍ منهما أثناء خضوع الآخر لاستجوابٍ دقيقٍ وعنيف. وكانت النتيجة مُرضيَة؛ لذلك بعد أن دوَّن الرئيس بعض التفاصيل المتعلقة بكل حالة، أبرز صيغةَ قَسَمٍ كى يُقرَّاها. لا يُمكننا أن نتخيَّل إذعانًا يفوق الطاعة التى يتعهدان بها، ولا شروطًا أشدَّ صرامةً من التى ألزم الرجلان نفسيهما بها؛ ذلك أنَّ الرجل الذى يُفرِّط فى أحد التعهُّدات تسقط عنه ورقة التوت الأخيرة، ويخسر معها ما تبقَّى له من عزاءات الدين. وقَّع «فلوريزيل» الوثيقة، لكن ليس من دون أن يرتجف جسده، واقتدى به الكولونيل وقد اعتراه غمٌّ هائل. ثم تسلَّم الرئيس رسوم الانضمام، ومن دون ضجَّة زائدة أرشد الصديقين إلى حجرة التدخين بنادى الانتحار.

كانت حجرةُ تدخين نادى الانتحار بنفس ارتفاع المقصورة التى أفضت إليها، لكن أوسع وجدرانُها مُغطَّاة من أعلاها لأسفلها بورق حائط يُحاكى خشب السنديان، تضيئُها مدفأةٌ ضخمةٌ مُبهجة إضافة لبعض شعلات الغاز. أحصى الأمير وتابِعُه عددها وكانت ثمانى عشرة شعلة. كان أغلب الحاضرين يدخنون ويشربون الشمبانيا وقد سادت نشوةٌ محمومةٌ تقطعها بين الحين والآخر توقفاتٌ مُباغتة ومُرعبة قليلًا. 

سأل الأمير: «أهذا لقاءٌ لكل الأعضاء؟». 

قال الرئيس: «بل اللقاء المُعتاد. بالمناسبة، جرت العادة إن كان لديكما نقود على تقديم بعض الشمبانيا؛ ينشر ذلك روحًا معنويّة طيبة، وهى واحدة من مَيِّزاتى الإضافية البسيطة».

فقال «فلوريزيل»: «يا هامرسميث، سأترك أمر الشمبانيا لك».

ثُمَّ انصرف وراح يتجوَّل بين الضيوف. كان قد اعتاد على لعب دور صاحب المأدبة فى أرقَى الأوساط؛ لذلك استمال إليه وهيمن بشخصيته على كل من اقترب منه. ثَمَّة ما يفتنُ ويفرض نفسه فى حديثه، كما أنَّ ثقته الفريدة فى نفسه أسبغت عليه تميُّزًا آخر بين هذا الحشد شبه المهووس. كان حريصًا على ألَّا تفوته أى شاردة أو واردة وأن يُنصت جيدًا لكل ما يُقال؛ لذلك سرعان ما أصبحت لديه فكرة عامَّة عمَّن ألفى نفسه بينهم. وككل الملاذات الأخرى كانت الغَلبَة لفئةٍ واحدةٍ بعينها: أشخاص فى فَوْعَة الشباب يدلُّ مظهرهم على الذكاء ورِقَّة الشعور، لكنَّه لا يبشر بالكثير من القوة أو السجايا اللازمة لتحقيق النجاح. قليلون تَعدَّوْا الثلاثين، وغير قليل لا زالوا مُراهقين. بعضهم يقف، والبعض الآخر يتَّكئ على الطاولات ينقِّل حمل جسده بين قدميه. تارةً يدخنون بسرعة غير عاديَّة، أو يتركون سجائرهم تخمد تارةً أخرى. بينهم مَن يتحدث بلباقة، لكن حديث البعض الآخر كان وليدَ أعصابٍ متوترة وكذلك خلا من أى فِطْنَة أو مضمون. وكان فتحُ كل قِنِّينَة شمبانيا جديدة إيذانًا بمزيدٍ من البهجة التى تتبدَّى فوق الوجوه. رجلان فحسب كانا جالسين، الأول فوق مقعد إلى جانب النافذة؛ رأسه مائل وكفَّاه غاطستان داخل جيبَيْ بِنْطالِه، شاحب الوجه مُبلَّل بسبب العرق، لا ينطق بحرف، كأنَّه حُطَامُ روحٍ وجسد. أمَّا الثانى فجلس على أريكةٍ بالقرب من المدفأة، وكان اختلافه الواضح عن الباقين يسترعى الانتباه. لعله تجاوز الأربعين، لكنه بدا أكبر بنحو عشر سنوات، وقدَّر «فلوريزيل» أنَّه ما رأى رجلًا من قبل قَطُّ أبشع خلقة، ولا أحدًا حطَّمه المرضُ والانفعالاتُ الضارَّة كهذا الرجل. لم يَكُن سوى جِلْدٍ على عَظْم، وكان مشلولًا بعض الشيء، ويرتدى عُوَيْنات ذات قوة فريدة فبانت عيناه عبر زجاج العوينات مُكبَّرتين جِدًّا وُمشوَّهتين. وكان الوحيد فى الحجرة؛ إذا استثنينا الأمير والرئيس، الذى يُحافظ على رصانة الحياة المُعتادة.

لم يَكُن احتشام أعضاء النادى كبيرًا؛ إذْ تباهى بعضهم بارتكاب أفعال فاضحة أسفرت تبعاتها عن اضطرارهم لطلب الموت، وكان الآخرون يُصغون إليهم من دون استهجان. كان هناك اِتفاق ضمنى ضد الأحكام الأخلاقيَّة، وكأن لكل من يجتاز أبواب النادى أن يتمتَّعَ بجانبٍ من حصانات القبر. شربوا جميعًا نَخْبَ ذكرياتهم، ونخب ذكرى أبرز مَنِ انتحروا فى الماضي. كانوا يُقارنون ويُطوِّرون وجهات نظرهم الخاصة حول الموت، فأعلن جانب منهم أنَّه ليس إلا ظُلمةً وانقطاعًا، وأعلن جانب آخر عن أمله فى تسلُّق النجوم وبدء حياة جديدة مع الأسلاف العظام هذه الليلة تحديدًا.

صاح واحد منهم: «نَخْب ذكرى «البارون ترينك»، نموذج المنتحرين الأمثَل! غادر زنزانة صغيرة إلى زنزانة أصغر لكى ينعم بالحرية». 

وصاح ثانٍ: «أمَّا من جهتي، فلا آمل إلا فى عصابة فوق عينيَّ، وقطنتين تسُدَّان أذنيَّ. لكنهم لا يملكون قُطنًا سميكًا بما يكفى فى هذا العالم».

وقال ثالث إنَّه يرغب فى الموت كى يطَّلع على ألغاز الحياة فى المستقبل، واعترف رابع أنَّه لولا أنَّ السيد «داروين» أغراه بتصديقه، ما التحق قَطُّ بالنادي.

قال هذا المُنتحر العجيب: «لم أحتمل أن أكون سليل قرد».

وإجمالًا، لكَمْ أصابت الخيبة الأمير بسبب تصرفات وأحاديث الأعضاء.

قال فى نفسه: «لا يبدو الأمر بالنسبة لى مسألة تستحق كل هذا الهياج. ذلك أنَّ الرَّجُل إن عقد النية على الانتحار؛ فلينتحر باسم اللـه كأيِّ رجلٍ نبيل. هذه البلبلة والكلام الكبير لا مجال لهما».

فى غضون ذلك كان «الكولونيل خيرالدين» فريسةً لأقتَم المخاوف؛ ذلك أنَّ النادى وقوانينه كانا لا يزالان لغزًا، لذلك طفق يتفحَّص الموجودين بالحجرة بحثًا عمَّن يستطيع أن يُريح عقله، حتَّى وقعت عيناه على الرَّجُل المشلول ذى العوينات القوية، كان الرَّجُل مفرط الثبات، فالتمس «خيرالدين» من الرئيس دائب الحركة من وإلى الحجرة تحت ضغط العمل، أن يُقدِمه للسيد الجالس فوق الأريكة.

أوضح الرئيس له أنَّ مثل هذه الشكليَّات لا لزوم لها داخل النادي، ومع ذلك قدَّم السيد «هامرسميث» للسيد «مالتوس». 

حدِّج السيد «مالتوس» الكولونيل بفضول، ثُمَّ طلب منه الجلوس إلى يمينه.

قال الرجل: «أنت وافد جديد وتبتغى مزيدًا من المعلومات؟ جئتَ للمصدر الصحيح. مضى عامان منذُ زرتُ هذا النادى الرائع أول مرَّة».

استردَّ الكولونيل أنفاسه من جديد؛ ذلك أنَّه ما دام السيد «مالتوس» قد ظلَّ يتردَّد على المكان طوال عامين كاملين، فلا شيء يُخشى منه تقريبًا على الأمير فى ليلةٍ واحدة. لكن الدهشة أصابت «خيرالدين»، وارتاب فى الأمر.

فهتف: «يا اللَّـه! عامان! أعتقد، بل أرى أنِّى أصبحت فى الحقيقة مادةً للمزاح».

أجاب السيد «مالتوس» بلطف: «على الإطلاق. الحقُّ أنِّى حالة غريبة؛ فلستُ انتحاريًّا ألبتَّة بالمعنى الصحيح للكلمة، بل عضوٌ شرفيٌّ إن صحَّ التعبير. أزور النادى مرتين فى الشهر فحسب، وقد يسَّر لى عجزى ولطف الرئيس هذه الاستثناءات الصغيرة التى أُسدِّد ثمنها مسبقًا رغم ذلك. ولكَمْ كان حظِّى فريدًا فى الوقت نفسه!».

قال الكولونيل: «ائذن لي؛ إذْ ينبغى أن أطلب منك مزيدًا من الوضوح. لا بُدَّ أنَّك تذكر أنى لا أزال غيرَ مُلمٍّ تمامًا بقوانين النادي».

أجاب الرجلُ الكسيح: «على العضو العادى الذى يأتى إلى هُنا بحثًا عن الموت مثلك، أن يأتى كل مساء إلى أن يختاره القدَر. ويستطيع؛ إن كان مُفلسًا، أن يحصل على المسكَن والطعام من الرئيس. أظنُّهما مناسبين جِدًّا ونظيفين، لكنها ليسا فاخرين بطبيعة الحال نظرًا لضآلة الاشتراك ‹إن جاز لى أن أتكلم عن نفسي›. إضافة إلى أنَّ صحبة الرئيس شهيَّة فى حدِّ ذاتها».

هتف «خيرالدين»: «أحقًّا! الحقُّ أنَّه لم يَسْتهوِنى كثيرًا».

قال السيد «مالتوس»: «آه! لأنَّك تجهل الرجل: الصديق الأكثر طرافة! ما أجملَ قصصَه! وما أقسى سخريتَه! خبير بأمور الدنيا لدرجةٍ تُثير الحسد، ونعلم فيما بيننا، أنَّه رُبَّما يكون الوغدَ الأشدَّ فسادًا فى العالم المسيحي».

فسأله الكولونيل: «واستمرارًا أيضًا، مثلك، إن كان لى أن أقول ذلك من دون إساءة؟».

أجاب السيد «مالتوس»: «واقع الأمر أنَّ استمراريته يفصلها بَوْنٌ شاسعٌ عنِّي. لكَمْ رأف بى اللـه وأنجاني، لكنِّى ميت لا محالة. أمَّا فهو فلا يلعب الآن، يراوغ ويعقد الصفقات لصالح النادى ويُجرى ما يلزم من تدابير. إنَّ هذا الرَّجُل يا عزيزى السيد هامرسميث هو روح البراعة ذاتها. لقد ظل فى لندن طوال ثلاث سنوات يزاول رسالته الناجعة والرفيعة؛ كما أرى، من دون أن يُثير أدنى شكّ. أظنُّه مُلْهَمًا. لا شكَّ أنَّك تتذكَّر القضية الشهيرة التى وقعت قبل ستة أشهر، الخاصة بالسيد الذى مات مسمومًا من غير قصد داخل إحدى الأجزخانات؟ كانت هذه واحدة من أقل نفائسه وأهوَن حِيَله، ورغم ذلك، كَمْ هى بسيطة! وكم هى مأمونة!».

قال الكولونيل: «أنت تُدهشني. هل كان ذلك السيد المنكوب أحد...» وكاد أن يقول «الضحايا»، لكنَّه عدل عن ذلك فى الوقت المناسب، وقال: «أعضاء النادي؟».

وخطر بباله بغتة أنَّ السيد «مالتوس» نفسه لم يتكلَّم قَطُّ بنبرة المفتون بالموت، فأضاف على عَجَل: «أشعر أنِّى لا أزال لا أفهم. تتكلَّم عن المراوغات وعقد الصفقات؛ لأى غاية! وما دمت غير راغب فى الموت شأن جميع البشر، فلابد أن أعترف أنِّى لا أستطيع أن أتخيَّل ما جاء بك إلى هنا بالأساس؟».

أجاب السيد «مالتوس» بمزيدٍ من الحيويَّة: «بالحقُّ نطقت أنَّك لا تفهم. هذا النادى يا سيدى هو معبد الانتشاء. آهٍ لو تُطيق صحتى الواهنة مزيدًا من الإثارة، آنَئذٍ لوجدتنى ضيفًا دائمًا على المكان هُنا. لشدُّ ما اقتضى الكفُّ عن الاسترسال فى المجيء إلى هُنا؛ والذى أعدُّه المجون الختامي، كل ما لديَّ من اِلتزام ناجم عن دُربة على صحة مُعتلَّة وحِميَة دقيقة. لقد جربت كل المُتع يا سيدي...» ووضع كفَّه فوق ذراع «خيرالدين» مُتابعًا: «كلها من دون استثناء، وأقسم بشرفى أنَّه ما متعة منها بُولغ فى تقديرها زُورًا أو على نحوٍ صارخ. لكم يتلهَّى البشر بالحبّ، لكنِّى أُنكر الآن أن يكون الحبُّ عاطفة عاتية، بل الخوف. بالخوف علينا أن نتلهَّى إن اشتهينا تذوُّق أقوى مباهج العيش. اغبطني، اغبطنى يا سيدي...»، وأضاف ضاحكًا: «لكَمْ أنا جبان!». 

تمكَّن «خيرالدين» بجهد بالغ من منع نفسه من إبداء تعبير عن الاشمئزاز من هذا البائس التعيس، وجاهد نفسه كى يواصل استفساراته.

سأله: «تُرى يا سيدي، كيف استمرَّ الحماس على هذا النحو البارع؟ وأنَّى يغيب اليقين؟».

فأجابه السيد «مالتوس»: «ينبغى أن أصارحك بطريقة اختيار ضحية كل مساء. وليست الضحية وحدها، بل طريقة اختيار عضو آخر عليه أن يُصبح الأداة بين يدَى النادي، وكاهن الموت الأكبر فى تلك الحالة». 

قال الكولونيل: «ربَّاه! وهل يقتلُ أحدُهما الآخَر وقتئذ؟».

أومأ «مالتوس» برأسه وقال: «بهذه الطريقة يتخفَّف الانتحار من مشقته».

فهتف الكولونيل: «اللَّهُم ارحمنا! وهل قد تغدو أنت.. أو أنا.. أو الـ.. أقصد صديقي.. هل ينقلب أيٌّ مِنَّا هذا المساء إلى قاتل ينحر عنق أخيه ويُزهق رُوحًا لا تزال حيَّة؟ تُرى هل من المعقول أن تكون مثل هذه الأمور جائزة بين بنى آدم؟ آه! أى خزى وأى عار!».

وكان على وشك النهوض بسبب الفزع، لولا أن وقعت عيناه على عينَى الأمير اللتين كانتا مُسلَّطتين عليه من الطرف الآخر للحجرة بنظرةٍ كلها تجهُّم وغضب. وسرعان ما استعاد «خيرالدين» اتِّزانه.

قال: «ومع ذلك، لِمَ لا؟ وما دمت قلت إنَّ اللعبة ممتعة؛ ناهيك عمَّا سيجري، فسألتحق بالنادي!».

تلذَّذ السيد «مالتوس» باستغراب وتأفف الكولونيل أيَّما تلذذ. كان يحظى بغطرسة شيطان، وقد سَرَّه أن يرى رجلًا آخر يُفسح مجالًا لعملٍ سخيّ، وأحسَّ سادرًا فى الغِيّ، أنَّه يعلو على مثل هذه الانفعالات. 

قال: «هَأنتَ الآن؛ بعد أن تجاوزت لحظات الاندهاش الأولى، تستطيع أن تتذوق مَسرَّات جماعتنا. تستطيع أن ترى كيف يؤلف بين إثارة طاولة قِمَار والمبارزة ومُدرَّج روماني. لشَدُّ ما أتقن الوثنيون عملهم، ولكم أُجِلُّ دَقَّة تفكيرهم. لكن الأقدار ادَّخرت لبلد مسيحى الوصول لهذه الإثارة المفرطة والخالصة والقاطعة للمشاعر. ستعى إلى أيِّ حدٍّ كم تبدو كل أشكال المتعة مبتذلة بالنسبة إلى رجل تذوق يومًا هذه المتعة. إنَّ اللعبة التى نزاولها...»، قال مُتابعًا: «مفرطة السهولة. ورق لعب، لكنِّى أحسُّ أنَّك على وشك أن تشهد مباراة. هلَّا أعنتنى على النهوض؟ فأنا كسيحٌ لسوء الحظّ».

وحقيقة الأمر أنَّ السيد «مالتوس» حين شرع فى وصفه، كان مَصْرعَا بابٍ آخر ينفتحان، وانطلق الحاضرون يهرولون الواحد تلو الآخَر إلى داخل الحجرة المُلاصقة. كانت مماثلة فى جميع النواحى للحجرة التى جاءوا منها، عدا الأثاث الذى كان مُختلفًا بعض الشيء؛ إذْ كانت طاولة خضراء طويلة تشغل المنتصف، وإليها جلس الرئيس يخلط أوراق لعب بمهارة كبيرة. كان السيد «مالتوس» يمشى بصعوبة كبيرة؛ رغم اتِّكائه على عصا وعلى ذراع الكولونيل، فجلس الجميع عداهما والأمير الذى انتظرهما حتى يدخلا الحجرة؛ ومن ثَمَّ جلسوا عند الطرف الأقصى من الطاولة.

همس السيد «مالتوس»: «اثنتان وخمسون ورقة لعب. ترقَّب ورقة الآس البستونى فهذه علامة الموت، والآس السّباتى الذى يُعيِّن المسئول فى تلك الليلة. استمتعا، استمتعا أيها الشَّإبَّان!»، ثُمَّ أضاف: «لديكما عينان قويتان، وتستطيعان أن تتابعا اللعبة. أمَّا أنا فيا حسرتاه! إذْ لا أستطيع التمييز بين الآس والاثنين من مكانى على الجانب الآخر من الطاولة».

واستكمل حديثه بوضعِ زوجٍ آخَر من العيونات.

قال مُفسِّرًا: «ينبغى على الأقل أن أراقب الوجوه».

أبلغ الكولونيل صديقه على عَجَلٍ بكل ما عرفه من العضو الشَّرَفيّ، وبالخيار المُروِّع الذى ينتظرهما. أحسَّ الأمير بقُشَعْريرَة قوية وانقباض قلبه، فابتلع ريقه فى صعوبةٍ بعينين زائغتين كأنَّه فى متاهة.

همس الكولونيل: «لا تزال أمامنا فرصة للفرار، لسنا فى حاجة إلا لقرارٍ جَسُور».

لكن المُقترح استنهض هِمَّة الأمير، فقال: «صه! أَرِنى مدى مهارتك فى اللعب كأى رجلٍ نبيل، أيًّا تكون المجازفة».

وتفحَّصَ المُحيطين به. بدا مطمئنًا رغم أنَّ قلبه كان يخفق بقوة، وإحساسه بصهد مؤلم فى صدره. كان الأعضاء شديدى الهدوء والإصرار، كلهم يكسوهم الشحوب، لكن ليس بنفس قدر شحوب السيد «مالتوس» الذى كانت عيناه جاحظتَيْن، فى حين راح رأسه يتمايل لا إراديًّا فوق عموده الفقري. أمَّا كفَّاه، فوجدتا طريقهما الواحدة تلو الأخرى إلى فمه، حيثُ تشبَّثتا بشفتيه الرماديتين المرتعدتين. لكَمْ كان جليًّا أنَّ العضو الشَّرَفيّ كان يتلذذ بعضويته على نحوٍ مُروِّع.

هتف الرئيس: «أعيرونى انتباهكم يا سادة!».

وشرع يوزع بطاقات اللعب بأناةٍ على الموجودين، متوقفًا برهةً إلى أن يكشف كل رجل عن بطاقته. ساوَر التردد الجميع تقريبًا، وكنت ترى بين الحين والآخر تعثُّر أصابع أحد اللاعبين غير مرَّة، قبل أن يتمكَّن من إنجاز الخطوة المصيريَّة. ومع اقتراب دور الأمير، كان شعوره بالإثارة يقوَى ويصبح خانقًا. على أنَّه كان ذا طبيعة مُقامِرة، وقد أدرك بكثيرٍ من الاستغراب أنَّ ثَمَّة درجةً من درجات المتعة تُخالط مشاعره. وجاءت من نصيبه بطاقة التسعة السباتيَّة، وذهبت الثلاثة البستونيَّة إلى «خيرالدين»، أمَّا «البنت» فكانت من نصيب السيد «مالتوس» الذى عجز عن منع خروج تنهيدة ارتياح. على الفور بعدئذٍ تقريبًا تسلَّم الشَّابُّ صاحب فطائر الزُّبْد بطاقة الآس السباتي، فتجمَّدت أوصاله من الرعب ولا تزال البطاقة بين أصابعه. لقد جاء إلى هُنا كى يُقتل، لا ليَقتُل. وقد نسى الأمير فى غمرة تعاطفه الغامر مع موقف الشَّابِّ، الخطر الذى لا يزال يُحدِّق به وبصديقه.

وزَّع الرئيس دورةً أخرى من البطاقات من دون أن تظهر بطاقة الموت. حبس اللاعبون أنفاسهم وبدا عليهم الإعياء. تسلَّم الأمير بطاقة سباتية أخرى، و»خيرالدين» بطاقة ديناري. لكن حين قلَبَ السيد «مالتوس» بطاقته صدرت من فمه شهقة فزع؛ كأنَّ شيئًا تحطَّم، ونهض من مقعده ثُمَّ عاد يجلس مرةً أخرى من دون أى أثر لشلَل. كانت بطاقة الآس البستوني. هَهى عادة التلهِّى بالأهوال تُعاود العضوَ الشرفي.

تدفق الحديث مرةً أخرى فى نفس التوقيت تقريبًا، وخفَّف اللاعبون من صرامتهم وشرعوا فى النهوض من حول الطاولة والعودة على مهل مثنى وثُلاث إلى حجرة التدخين. ومطَّ الرئيس ذراعيه وتثاءب كأى رجل أنهى عمله اليومي. أمَّا السيد «مالتوس» فجلس فى مكانه، ووضع رأسه بين كفَّيْه اللتين أسندهما فوق الطاولة، ثملًا وبلا حراك، لقد تحطَّم شيءٌ ما.

فرَّ الأمير و»خيرالدين» من دون تأخير، وتضاعف الفزع الناجم عمَّا شهداه فى الظلام البارد.

صاح الأمير: «ما أقسى أن يكون المرء مُلتزمًا بقسَمٍ فى مسألةٍ كهذه! وأن يسمح باستمرار تجارة الموت بالجملة هذه فى تحقيق الربح والإفلات من العقاب! فقط لو كنت أجرؤ على التفريط فى تَعهُّدي!».

فأجاب الكولونيل: «هذا مُحال بالنسبة إلىك يا سُموَّ الأمير؛ فشرفكم هو شرف بوهيميا. أما أنا فلديَّ من الجرأة؛ ورُبَّما الصلاحية، للتفريط فيما يخصُّني».

قال الأمير: «يا خيرالدين، لئن يتلوث شرفك فى أى مغامرة تتبعنى بها، فلن أسامحك ولن أسامح نفسى أبدًا؛ وهو ما أظنُّه سينعكس عليك كثيرًا».

فردد الكولونيل: «سمعًا وطاعةً يا سمو الأمير. هلَّا غادرنا هذه البقعة الملعونة؟».

قال الأمير: «بلى. باللـه عليك استدعِ حنطورًا، وهيَّا نحاول نسيان ذكرى وصمة هذه الليلة تمامًا».

لكن اللافت للنظر أنَّ الأمير تروَّى فى قراءة اسم القصر قبل أن يُغادره.

وفى الصباح التالي، ما إن أفاق الأمير حتَّى جلب له الكولونيل «خيرالدين» إحدى الصحف اليوميَّة، وقد حدد الفقرة التالية:

«حادث مُقبض، فى قرابة الثانية صباح اليوم، سقط السيد بارثولوميو مالتوس الذى كان يسكن فى المنزل رقم 16 بشارع شيبستوبليس، ويستبورن جروف، أثناء عودته من حفلٍ فى منزل أحد أصدقائه، على الحاجز العلوى بميدان ترافالجار، فتهشَّم رأسه وانكسرت ساقه وذراعه ومات على الفور. كان السيد مالتوس بصحبة صديق، وكان مشغولًا بالبحث عن حنطور وقت وقوع الحادث المؤسف. ويُعتقد أنَّ وقوع السيد مالتوس الذى كان مُصابًا بالشَّلَل، رُبَّما يكون قد حدث نتيجة نوبة أخرى من نوبات التشنُّج. كان السيد المنكود معروفًا بالأوساط المُحترمة، وستكون خسارته مؤسفة على نطاقٍ واسعٍ وعميق.»

قال «خيرالدين» بلهجةٍ جادَّة: «لو أنَّ لروحٍ أن تنطلق إلى الجحيم مُباشرة، فهى روح ذلك الرجل الكسيح».

دفن الأمير وجهه بين كفَّيْه وظلَّ صامتًا.

فاستطرد الكولونيل: «يكاد نبأ موته يُصيبنى بالبهجة. لكنِّى أعترف أنَّ قلبى ينزف على صديقنا الشَّابِّ صاحب فطائر الزُّبْد».

هُنا رفع الأمير رأسه وقال: «يا خيرالدين، هذا الصبى المنكود كان بريئًا بالأمس مثلى ومثلك، ثُمَّ أصبح آثمًا هذا الصباح. لكَمْ يلتاعُ قلبى بين الضلوع حين أفكِر فى الرئيس. لا أدرى كيف سأفعل ذلك، لكن ما دام اللـه فى السماء فلن أدَعَ هذا الوغد يُفلت من عقابي. ما أقسى تجربة لعبة الورق تلك، وما أقساه من درس!».

فقال الكولونيل: «تجربة لن تتكرر أبدًا».

لم ينطق الأمير حرفًا فترةً طويلة، فأحسَّ «خيرالدين» بالقلق.

قال: «مُحال أن يكون مرماك هو العودة إلى هُناك. لقد تكبَّدت ورأيت ما لا يُطاق من الفزع. ما يفرضه عليك منصبك الرفيع يحُول بينك وبين تكرار المُخاطرة».

رَدَّ الأمير «فلوريزيل»: «فى حديثك كثيرٌ من الحقيقة، وإصرارى لا يسرُّ كثيرًا. لكن واحسرتاه! ففى ثياب أعظم الحُكَّام، تُرى ماذا يوجد إلا محض إنسان؟ ما أحسستُ يومًا بضعفى مثل الآن يا خيرالدين، لكنَّ الأمر أقوى مِنِّي. إذْ هل أستطيع أن أكفَّ عن الانشغال بمصير شاب منكود تناول عشاءه معنا قبل ساعات؟ هل أستطيع أنْ أدعَ الرئيس يواصل عمله الشنيع من دون حساب؟ وهل أستطيع أن أبدأ مغامرة مفرطة الفتنة من دون أن أصل إلى نهايتها؟ كلَّا يا خيرالدين، أنت تطلب من الأمير أكثر مما يُطيقه. الليلة؛ مرةً أخرى، نعاود الجلوس أمام طاولة نادى الانتحار».

فجثا «الكولونيل خيرالدين» على رُكبتيه وصاح: «هلَّا قتلتنى يا سمو الأمير؟ روحى ملكٌ لك افعل بها ما تشاء، لكن لا تطلب مِنِّى أن أقرَّ هذه المجازفة المُروِّعة».

هُنا رَدَّ الأمير ببعض اختيال: «أيها الكولونيل خيرالدين، إنَّ حياتك مِلكٌ لك قطعًا. كل ما التمستُه هو الطاعة، لكن لا حاجةَ لى بها متى تُصبح الطاعة جبرًا. وأضيف كلمة واحدة لما قلتْ: إلحافك فى هذه المسألة كافٍ ووافٍ».

فنهض القيِّم على الإصطبلات الملكيَّة على الفور.

قال: «مولاى الأمير، هلَّا أذنت لى بألَّا أرافقك هذا الأصيل؟ فلستُ أجرؤ؛ بحكم مسئولياتي، على دخول ذلك المنزل القاتل قبل أن أرتِّب شئونى على أكمل وجه. وأعدكُ يا مولاى أنَّك لن تلقَى اعتراضًا آخَر من خادمك الأشدِّ تفانيًا وامتنانًا».

فرَدَّ الأمير «فلوريزيل»: «عزيزى خيرالدين، لكَمْ يؤسفنى أن تضطرنى إلى تذكيرك بمقامي. رتِّب يومك كيفما تراه مناسبًا، لكن عُدْ إلى هُنا بنفس التنكُّر قبل الحادية عشرة».

لم يشهد النادى فى هذه الليلة الثانية جمهورًا غفيرًا مثل الليلة السابقة؛ ولم يَكُن حاضرًا وقت وصول «خيرالدين» والأمير ما يتعدَّى ستة أفراد فى حجرة التدخين. وقد انتحى الأمير مع الرئيس جانبًا كى يُهِّنئه بحرارة على مصرع السيد «مالتوس».

قال: «لكَمْ أحبُّ اللقاء مع شخصٍ بارع، ولا ريب أنِّى أجد بك كثيرًا من تلك البراعة. فحرفتُك ذات طبيعة شائكة للغاية، لكنِّى أراك أهلًا لسياستها بنجاح وكتمان».

حرَّكت تلك الإطراءات التى أثمرتها قريحةُ سُموِّ الأمير شيئًا داخل الرئيس. وكان يُقرُّ بها بشيءٍ من التواضع.

قال الرئيس: «يا لمالتوس المسكين! لكَمْ سيبدو النادى غريبًا من دون وجوده. إنَّ أغلب زبائنى الدائمين يا سيدى من الغِلْمان؛ غلمان حالمون لا تناسبنى مُخالطتهم. لا أعنى بذلك أنَّ السيد مالتوس لم يَكُن حالمًا بعض الشيء، لكنه كان من النوع الذى أستطيع استيعابه».

فقال الأمير: «ما أيسرَ أن أتخيَّل قدر إشفاقك على السيد مالتوس، فقد أُغرمت بطباعه الطيبة شديدة الأصالة».

وكان الشَّابُّ صاحب فطائر الزبد داخل الحجرة، لكنَّه كان مُغتمًّا وصامتًا. وقد حرص رفيقاه السابقان على دفعه للمشاركة فى الحديث، من دون جدوى.

على أنَّه هتف: «ليتنى ما جلبتكما إلى هذا المقام المشئوم! هيَّا انصرفا؛ إذْ لا تزالان طاهرَى اليد. آه لو كنتما سمعتما صرخات العجوز أثناء سقوطه، وقعقعة عظامه فوق الرصيف! اطلبا من اللـه؛ إن كان لا يزال فى قلبيكما شفقة على شخصى المُحطَّم، أن يكون الآسُ البستونيُّ من نصيبى الليلة».

جاء بضعةُ أعضاء آخرون خلال السويعات القليلة التالية، لكن النادى لم يستقطب أكثر من دَزِّينَة الأشرار الذين تحلَّقوا حول الطاولة. وعاوَد الأميرَ إحساسٌ ببعض نشوة تخلَّلت شعوره بالخوف، لكن ما حيَّره هو رؤية «خيرالدين» أكثر رصانةً من الليلة الفائتة.

قال الأمير فى نفسه: «لشدُّ ما يُثير العجب ما لتوافر الإرادة من أثرٍ جسيمٍ على روح الشَّابّ».

قال الرئيس: «أَعيرونى انتباهكم أيها السَّادة»، وبدأ بتوزيع ورق اللعب.

وزَّع الرئيس ورق اللعب ثلاث مرَّات على كل الحاضرين، من دون ظهورِ أيٍّ من الورقتين المَعنيَّتين. واندلع حماسٌ جارفٌ عند بدء توزيع الورق للمرَّة الرابعة؛ ذلك أنَّ الورق المُتبقِّى لم يَكُن كافيًا إلا لهذه الدورة الأخيرة. وكان الأمير الذى يفصله شخص واحد على يسار الرئيس، سيتلقَّى البطاقة قبل الأخيرة حسب التوزيع المعكوس المتبَّع بالنادي. تسلَّم اللاعب الثالث آسًا أسود، الآس السباتي، وتسلَّم التالى بطاقة ديناري، والتالى قلبًا، وهَلُمَّ جَرًّا، لكن ما من أحد تسلَّم الآس البستوني. وأخيرًا، قلب «خيرالدين» الذى جلس إلى يسار الأمير بطاقته، وكانت آسًا، لكن آس القلوب. 

 أبصر الأمير «فلوريزيل» مصيره يتحدد أمامه فوق الطاولة؛ فكاد قلبه يتوقف عن الخفقان. كان شُجاعًا، لكن العرق غطَّى وجهه. كان احتمال قتله يساوى بالضبط احتمال نجاته. قلب البطاقة. كانت الآس البستوني. وملأ رأسَهُ زئيرٌ صاخب، وطفقت الطاولة تسبح أمام عينيه. وسمع اللاعب عن يمينه ينفجر فى نوبة ضحك هى خليطٌ بين الجذل والخيبة، ورأى المحيطين يتفرقون سريعًا، لكن عقله كان مليئًا بأفكارٍ أخرى. أدرك كَمْ كان سلوكه أخرقَ وآثمًا. فهَهو فى كامل صحته، وعنفوان شبابه، والوريث الشرعى للعرش، قد خسر فى رِهان مستقبله ومستقبل بلاد مِقدامة وبارَّة. هتف: «يا اللـه! سامحنى يا اللـه!»، فتلاشت فوضى حواسِّه، واستعاد وقاره بعد هُنَيْهة.

لكن لكَمْ أدهشه اختفاء «خيرالدين»؛ ذلك أنَّ جميع من كانوا فى حجرة اللعب غادروا باستثناء قاتله المُقدَّر الذى كان يتشاور مع الرئيس، والشَّابِّ صاحب فطائر الزبد الذى اقترب من الأمير وهمس فى أُذُنه: «أدفع مليونًا؛ لو كنت أملكها، لقاءَ حظِّك».

ولم يسَعْ سُموّ الأمير سوى التفكير؛ بعد أن غادر الشَّابُّ، فى أنَّه مستعد لبيع فرصه لقاء مبلغ أقل بكثير.  

انتهى الاجتماع الهامس الآن، وغادر صاحب بطاقة الآس السباتى الحجرة وقد لمعت عيناه بالفطنة، ومدَّ الرئيس يده إلى الأمير المنكوب أثناء اقترابه منه.

قال: «لكَمْ أسعدنى لقاؤك يا سيدي، وأن أكون فى موضعٍ أستطيع من خلاله أن أُسْدِى لك هذه الخدمة الزهيدة. على الأقل لن تستطيع أن تشكو من التأخير. فى الليلة الثانية، يا لها من ضربة حظّ!».

حاول الأمير الرَّدَّ لكن من دون طائل؛ إذْ كان فمه جافًّا وبدا لسانه مشلولًا.

سأله الرئيس بجزع مُصطنَع: «هل تشعر ببعض الغَثيَان؟ أغلب السادة ينتابهم الشعور ذاته. هلَّا تناولت قليلًا من البراندي؟».

أومأ الأمير بالإيجاب، فملأ الآخر كأسًا من الخمر على الفور.

أفرغ الأمير الكأس، وهتف الرئيس: «يا للمسكين العجوز مالتوس! لقد شرب قرابة نصف اللتر من دون أن يخفف عنه ذلك بما يكفي!».

فقال الأمير وقد أحسَّ ببعض انتعاش: «أمَّا أنا فأكثر قابليةً للشفاء، وهَا أنَا قد استجمعت نفسى من جديد فى الحال كما ترى. ومن ثَمَّ ائذن لى بسؤالك، إلى أين أتجه؟».

قال الرئيس: «ستمشى فى شارع «ستراند» باتجاه المدينة، وعلى الرصيف الأيسر، إلى أن تقابل السيد المُحترم الذى غادر الحجرة منذ قليل. وهناك سيبلغُك باقى التعليمات حيث ستتفضَّل بطاعته؛ ذلك أنَّ النادى يخوِّل لهذا الشخص تلك الليلة ما له من صلاحيات. والآن...»، أضاف: «أرجو لك سيرًا سعيدًا».

 أربكت التحية «فلوريزيل» قليلًا، وغادر. مرَّ بحجرة التدخين حيثُ ألفَى أغلب اللاعبين لا يزالون يحتسون الشمبانيا، التى سبق أن طلب بعضها هو شخصيًّا وسدد ثمنها، ولكَمْ أدهشه اكتشاف أنَّه كان يسبُّهم بينه وبين نفسه. ارتدى قُبَّعته ومعطفه السميك داخل المقصورة، واصطفى مظلَّته من أحد الأركان. خذله اعتياد تلك التصرُّفات وفكرة أنَّها المرَّة الأخيرة التى يزاولها فيها، وزجَّ به إلى نوبة ضحك بدا وقعُها ثقيلًا على أذنيه. استشعر بعض تردد فى مغادرة المقصورة، فاستدار بدلًا من ذلك صوب النافذة. وأعاده مشهد المصابيح والظلام إلى نفسه.

قال فى نفسه: «هيَّا، هيَّا، لا بُدَّ أن أكون رجلًا وأنتزع نفسى من هُنا».

وانقضَّ ثلاثةُ رجالٍ عند ناصية شارع «بوكسكورت» على الأمير «فلوريزيل»، ودفعوه ببعض خشونة إلى داخل عربة انطلقت بهم بعيدًا فى الحال؛ إذْ صار هناك راكب بالفعل.

قال صوت مألوف: «هلَّا صفح سُموُّ الأمير عن غلوائي؟».

فارتمى الأمير فى حضن الكولونيل يغمره إحساسٌ بالارتياح.

وهتف: «كيف أشكرك على ما فعلت، وكيف تحقق هذا؟».

لكَمْ كان مُستعدًّا للسير حثيثًا صوب هلاكه، ومع ذلك ملأه الانصياعُ لقسوةٍ وَدُودَة، والعودة للحياة والأمل من جديد، بالابتهاج.

أجاب الكولونيل: «فى الواقع، يكفى أن تشكرنى من خلال تجنُّب مثل تلك المهالك فى المستقبل. أمَّا بالنسبة إلى سؤالك الثاني، فقد رتَّبت كل شيء بأبسط الطرق. ذلك أنِّى اتفقت ظهر اليوم مع تَحرٍّ معروف، تعهَّد لى بالسرية وتقاضى أجره، وقد اضطلع خدمك بالنصيب الأوفر من المهمة. إذْ أحاطوا بمنزل شارع بوكسكورت منذ خيَّم الليل، وهذه العربة؛ وهى إحدى عرباتك الخاصة، بقيت فى انتظارك قرابة ساعة».

سأله الأمير: «وماذا عن المخلوق الشقى الذى كان من المفترض أن يقتلني؟».

أجاب الكولونيل: «كبَّلناه بالقيود عند خروجه من النادي، وهو الآن ينتظر حُكمك عليه فى القصر، حيثُ سينضم إليه شركاؤه فى الإثم».

فقال الأمير: «لقد أنقذتَ حياتى يا «خيرالدين» رغم أوامرى الصريحة، وما أجملَ صنيعَك! أنا لا أدين لك بحياتى فقط بل بدرس، وأنِّى لا أستأهل منزلتى إن لم أظهر الامتنان لمعلِّمي، ولك أن تختار الوسيلة».

ساد الصمتُ هُنيهةً واصلت العربة خلالها الانطلاق عبر الشوارع، وغرق الاثنان فى أفكارهما إلى أن كسر «الكولونيل خيرالدين» الصمت قائلًا: «لقد أصبح لدى مولاى الآن طائفة لا يُستهان بها من المساجين. بينهم مُجرم واحد على الأقل لا محيصَ من أن تأخذ معه العدالةُ مجراها. لكن قَسَمنا يحُول بيننا وبين الاستعانة بالقضاء، وإن حنثنا بالقسَم فالحصافة تحُول بيننا وبين القضاء بنفس القَدْر. فهل تأذن لى يا مولاى أن أستفسر عن عزمك؟».

أجاب «فلوريزيل»: «قُضى الأمر. سيخوض الرئيس نِزالًا لا محالة، ولم يبقَ إلا اختيار غريمه؟».

فقال الكولونيل: «لقد أذنتَ لى يا مولاى أن أُحدِّد مكافأتي؛ فهل تأذن لى أن أطلب أن يتولَّى أخى هذه المَهمَّة؟ ما أشرفه من عمل، لكنِّى أؤكد لك يا مولاى أنَّ الغلام سيُبلى بلاءً حسنًا».

قال الأمير: «أنت تطلب مِنى معروفًا فظًّا. لكنِّى مُلزم بألَّا أرفض لك طلبًا».

قبَّل الكولونيل يدَ الأمير بحرارةٍ بالغة، وهَهُنا استوت العربة أسفل المدخل المقوَّس لدار الأمير المَهِيبَة. 

وبعد ساعة، استقبل «فلوريزيل» بثيابه الرسمية المُزينة بكل أوسمة بوهيميا، أعضاء نادى الانتحار.

قال الأمير: «أيها الحمقَى واللئام، لقد أوقعَ كثيرٌ منكم فى هذه الشدة النقصُ فى الأموال؛ لذلك سيقوم مُوظفيَّ بتوفير الوظائف والأجور لكم. أمَّا أولئك الذين يكابدون إحساسًا بالذنب فعليهم اللجوء إلى ملك أسمَى وأسخَى مِنِّي. لكَمْ أُشفق عليكم أبلغ مما تتصورون، وغدًا ستروون لى حكاياتكم، وبقدر صراحتكم تكون قدرتى على مداواتكم من فواجعكم. أمَّا بالنسبة إلىك...» والتفت نحو الرئيس مُردفًا: «فليس عليَّ إلا أن أؤذى شخصًا بمواهبك مستعينًا بكل ما يتيسر من مؤازرة، لكن بدلًا من ذلك لديَّ تسلية أقدمها لك. فهَهُنا...» ووضع يده فوق كتف شقيق «خيرالدين» الأصغر، مُضيفًا: «أحد ضباطى الذين يرغبون فى القيام بجولة متواضعة فى البرّ، وألتمس منك معروفًا أنْ ترافقه فى هذه الرحلة. تُرى...»، وأبدل نبرته متابعًا: «هل تُجيد التصويب بالغَدَّارة؟ لأنَّك قد تحتاج إلى ذلك الإجراء. ذلك أنَّ على الرجلين اللذين يسافران معًا أن يكونا جاهزين لكل الاحتمالات. وائذن لى أن أضيف أنَّك إن حدث وغبت بأى حال عن عين السيد «خيرالدين» الشَّابّ، فإنَّ لديَّ دائمًا من أضعه تحت تصرُّفك من أهل الدار، ولكَمْ أنا معروف يا سيدى الرئيس ببصرى الحاد وذراعى الطويلة».

وبهذه الكلمات اختتم الأمير حديثَه الصارم. وفى الصباح التالى نهل أعضاء النادى من جُودِه، وانطلق الرئيس إلى أسفاره بإشراف من السيد «خيرالدين» واثنين من الأتباع الأوفياء البارعين المدربين على نحوٍ جيدٍ فى دار الأمير الذى لم يكتفِ بذلك؛ بل غرس عملاءً حَذِرين داخل منزل «البوكسكورت»، وكان الأمير «فلوريزيل» يفحص بنفسه سائر الخطابات والزائرين الذين يقصدون نادى الانتحار أو أحد مسئوليه.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة