د.هيثم الحاج على يكتب : آدم الأول رفض الجاهز وفخ الاحتمالات
د.هيثم الحاج على يكتب : آدم الأول رفض الجاهز وفخ الاحتمالات


هيثم الحاج علي يكتب: آدم الأول رفض الجاهز وفخ الاحتمالات

أخبار الأدب

الأحد، 21 مايو 2023 - 12:01 م

منذ بدايتها لا تعدنا رواية «آدم الأول» لمحمد الباز، الصادرة مؤخرا عن دار «ملهمون»، بتقديم أية إجابات نهائية، لكنها تؤكد على مدار صفحاتها أنها فقط تحاول مداعبة الأسئلة الوجودية الكبرى فى ثوب جديد، ربما يبدو أكثر شجاعة من معظم محاولات الإجابة واضحة الهدف، وهى تحاول ذلك فى إطار روائى، على الرغم من اقترابه من شكل البناء المسرحى المعتمد على الحوار عنصرا أساسيا مع وحدة الزمان والمكان، هذا الإطار الروائى هو ما يصنع الفخ المعد للمتلقى كى يبدأ مع شخصيتى الرواية فى التساؤل.

يبدأ هذا الفخ فى نسج نفسه منذ العنوان (آدم الأول) الذى يطرح بما لا يدع مجالا للشك اسما معروفا للجميع، ليتكون انطباع أولى لدى القارئ أنه أمام رواية تاريخية، غير أنه يفاجأ منذ الصفحة الأولى أنه أمام أحداث معاصرة، فى فصل تقديمى على لسان الصحفية سعاد عبد الحكيم صديقة البطل الصحفى يوسف الراوي، وأن الأحداث كلها تدور فى

ليلة رأس السنة قريبة، وأن البطل الصحفى سيقابل فى أثناء جولته السنوية متأملا كورنيش النيل شخصا سنعرف أنه آدم الأول، الذى سُمح له – فى حيلة خيالية تمنطقها الرواية – النزول للاطمئنان على نسله عند رأس كل سنة.

اقرأ ايضاً| محمد سليم شوشة يكتب : تغريبة القافر: جماليات الغرائبى  وفنتازيا الطبيعة

إنها التقنية نفسها التى استدعت الأجداد فى حديث عيسى بن هشام للمويلحى، وفى رجعة أبى العلاء للعقاد، الذى يتحدث عن «حقيقة متبرجة فى ثوب خيال وليست خيالا مسبوكا فى قالب الحقيقة»، حتى ليمكن لنا اعتبار هذه الجملة واحدة من مفاتيح حل إشكال هذا النص الروائى، الذى يبدأ نفسه بالحديث عن أن كل البدايات مؤكدة لكن كل النهايات محتملة، وهى الجملة التى تعقب الفصل التقديمى على لسان سعاد، لتبدأ الفصول السبعة – لاحظ الدلالة الميثولوجية للرقم بالطبع - التى تأتى جميعها على لسان يوسف، أو قل لتبدأ الحقيقة التى تبدو فى ثوب الخيال الروائى.

الهيكل البنائى: الهروب من أسر التقاليد

يمكننا اعتبار آدم الأول كتابا فلسفيا يتخذ الشكل الروائى قناعا فنيا جاذبا له، بما يجعل القارئ منذ البداية فى بؤرة الصراع الذهنى والفكرى الذى يلف الرواية بكاملها، فعلى المستوى الفعلى لا يوجد فى المجال الحيوى للرواية سوى ثلاث شخصيات يوسف وآدم وسعاد، وهى من الشخصيات التى تظهر فعليا على مسرح الأحداث الذى يتكون من مكانين فقط هما شقة يوسف التى يدور فيها الحوار الطويل بين يوسف وآدم، وكوبرى قصر النيل، ولا يوجد سوى حدث مركزى واحد هو الحوار، كما أن الرواية يقوم بسردها صوتان، صوت سعاد فى المقدمة وصوت يوسف الذى يحكى الحوار من وجهة نظره على مدار النص كله، ويتخلله بعض الاسترجاعات السردية لمشاهد خاصة بحياته.

وهكذا استطاعت الرواية أن تصنع لنفسها إطارا حكائيا تستطيع من خلاله التعامل مع كل الخطوط السردية الممكنة التى يمكن إضافتها من خارج هذا الإطار، لتصبح كل هذه الخطوط خطابات من الممكن مناقشتها، حيث تكون بمثابة الأطروحات القابلة للنقاش، بحيث يمكن ببساطة نفيها أو إثباتها، وهى فى الحالين سواء، اعتمادا على كونها مجرد عناصر تكون الحديث/ الجدل بين الشخصيتين، دونما انحياز لأى وجهة نظر منهما، وربما يكون ذلك الإضافة السردية المهمة التى استطاعت هذه الرواية تقديمها، بحيث يبدو الأمر كله مطروحا بحياد كامل للقارئ ابتداء من فكرة الممكنات والاحتمالات التى ارتكزت عليها الرواية منذ بدايتها.

اللغة وصناعة بؤر الصراع

سبعة فصول إذن من الحوار الذى يطرح تساؤلاته الخاصة لتحريك الراكد العقلى من أجل الخروج من أسر الإجابات الجاهزة حول قضية طالما شغلت العقل البشرى عبر تاريخه، لكن الهدف من هذا الجدل يبدو أبعد من ذلك السطح، وهو الأمر الذى يتضح عند النظر إلى التكوين اللغوى الذى تقوم عليه الرواية منذ البداية، حين تصنع لنفسها بنية تعتمد على صناعة بؤر للصراع داخل هذا الحوار الذى قد يبدو سكونيا نظرا لاتكائه على التاريخ، هذه البؤر تمثلها جمل مركزية تتوزع على مدار الرواية لتتدرج القراءة وتتصاعد حدة الإثارة مع كل جملة مركزية من تلك الجمل التى يوردها السارد على لسان إحدى الشخصيتين أو يرويها واحد منهما على لسان شخصية تاريخية أخرى مثل النبى آدم، أو فاروق حسنى أو جون ميلتون، وهى كلها جمل تتكئ على مراجعها التاريخية التى يتم اقتباسها منها لصناعة الخطاب الخاص للرواية، ولتبدو حركة الأحداث/الحوار بعد كل جملة مختلفة الإيقاع، ففى حين يقول فاروق حسنى إن «الحقيقة تافهة لكننا لا نريد أن نصدق ذلك» ص30، فإن آدم يصرح «لقد منحنا الله الحياة لنعيشها كما هى لكننا نبددها فى البحث عن معنى لها» ص59، أو يتساءل يوسف «هل آدم حقيقتنا التى نحن عليها أم خيالنا الذى نريد أن نكون» ص93.

وهكذا يبدو تركيب هذه الجمل/ المراكز فى الرواية مشكلا لخط تصاعدى يربط بين الجملة الافتتاحية «كل البدايات مؤكدة. كل النهايات محتملة» وبين الجملة الختامية «لا يوجد شيء – لا يوجد شيء على الإطلاق» على لسان يوسف الذى تبدو تلك هى كلماته النهائية قبل موته الذى تعمدت الرواية غموضه.

الرواية والعلاقة مع الماضى

إذا كانت الرواية تبنى نفسها عن طريق حوارات راهنة تدور فى الحاضر الموازى، فإن الحوارات نفسها تمثل ارتكازا حيويا على مقولات الماضى وشخصياته، لتظهر مجموعة من الشخصيات داخل حدث الحوار محركة لزمن خاص استطاعت الرواية تبنيه، ليمثل فى الوقت ذاته مجال الحركة الحقيقى للرواية، وتلك الشخصيات ذاتها هى التى تفجر المقولات التى تقوم بتعويض سكون الحوار لتمنحه حياة يمكنها تفجير الطاقة السردية داخل هذا السكون، وهو الأمر الذى اعتمد التوثيق العلمى والتاريخى الذى بدا مستفيدا بقوة من خطاب التحقيق الصحفى – وهى مهنة البطل والكاتب معا – وبحيث يكون الاعتماد على مصادر مثل الرازى وابن عباس وجون ميلتون والقرطبى والطبرى ناهيك عن الكتب المقدسة وكتب السنة، أمرا يحرك التساؤلات الوجودية من مجالها الفكرى إلى مجال آخر أكثر إنسانية والتصاقا بالإنسان المعاصر، وهو ما يدفع بعناصر أخرى للاشتباك مع ما يدور داخل مجال النص الروائى، مثل الأفلام (المومياء ومحامى الشيطان) والحفلات الموسيقية ودلالة إقامتها (حفلة الألفية على سفح الهرم)، وهو الأمر الذى يدفع بالقارئ للحركة نحو هذه الأسئلة الكبرى لا بهدف البحث عن إجابة تقليدية، ولكن بهدف إعادة النظر فى جدوى بعض هذه الأسئلة ذاتها، ومحاولة إيجاد معنى أكثر إنسانية للوجود، حيث إن «الإجابات تكون واضحة أمامكم لكنكم تدورون حولها أملا فى الوصول إلى إجابة تريحكم» كما يقول آدم فى صفحة 81 من الرواية.

وكل هذا يجعل من هذا النص عنصرا لمحاولة الاتساق مع التاريخ لكنه فى الأساس يستهدف الوصول إلى تواؤمه الخاص مع الحاضر لتبدو تلك الأسئلة الخلافية المزمنة هامشا للتاريخ الإنسانى حين يجب التساؤل حول أشياء لها علاقة أكبر بالحياة، أو كما يصرح آدم «العذاب هو ما يشغلكم، الجنة لا تحتل فى حياتكم أى قدر من اهتمامكم» ص162.

يستغل هذا النص الروائى إذن حرفية كتابة استغلت الحوار وسبكه وربط الفلاش باك بالحاضر وصناعة الخبر والتحقيق الصحفى والتدبيج المكثف للغة لصناعة رؤية جديدة للعالم تستغل كل ما يمكن أن يطرح نفسه على النص الروائى من أجل تفجير طاقة جديدة للحياة، وهى وإن كانت قد اقتربت من منطقة يمكن اعتبارها ملغمة، فهى قد نجحت فى الوقت ذاته فى إبطال مفعول هذه الألغام جميعها عن طريق أنسنة تلك المطلقات التى ارتكزت عليها، ووضعها فى إطارها السردى الجذاب.  

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة