نوال مصطفى
نوال مصطفى


حبر على ورق

نوال مصطفى تكتب: «بخيتة»

نوال مصطفى

الأربعاء، 28 يونيو 2023 - 09:20 م

كانت بخيتة فتاة صعيدية سمراء، من أسرة بسيطة الحال، انتظرت أن يأتى ابن الحلال وتتزوج مثلما حدث مع إخواتها البنات الأربعة، لكن القدر كان له كلمة أخرى، فات «بخيتة» قطار الزواج، وتوفى والداها، فلم تجد فى الدنيا ونيسا ولا حبيبا، فكرت كيف يمكنها أن تعيش وقد ذهب مصدر الحب والرعاية، وليس لديها وظيفة ولا شهادة، فهى لم تدخل مدارس أصلا.

عندما تزوج شقيقها، طلب منها أن تبحث عن مكان آخر تعيش فيه، فلم تكن زوجته تطيق وجودها معهما فى الدار، تألمت»بخيتة» التى لم يكن لها حظ من اسمها أبدا، وفكرت كيف تحفظ كرامتها، ولا تتذلل لشقيقها لكى يبقيها معه فى بيت أبيها وأمها بعد أن استولى عليه، واعتبره ملكا شخصيا له.

كانت «بخيتة» تحب التجول فى الشوارع، ومطالعة وجوه الناس، وفاترينات المحلات التجارية، وفى يوم وجدت سيدة توجه لها الكلام «مالك يا بنتى؟ أنت نفسك تشترى العباية دى ومعكيش فلوس؟» تنبهت «بخيتة» إلى صوت السيدة القادم من خلفها، تلعثمت فى الكلام، فلم ترد، تعاطفت معها السيدة بقوة، فتحت حقيبة يدها، وأخرجت مبلغا كبيرا، ودسته فى يد «بخيتة»، اندهشت الفتاة المسكينة، وتسمرت فى مكانها، لا تدرى ماذا تفعل؟ ولا كيف تتصرف؟ قالت للسيدة»لا شكرا، أنا مش عايزه حاجة» فردت السيدة باصرار» لا هتخدى الفلوس دى، وتدخلى المحل تشترى العباية اللى نفسك فيها» أبقى ادعى لى بس ربنا يسترها معايا ويشفى ابنى المريض.

فتحت «بخيتة» كف يدها فوجدت خمسمائة جنيه، كاد قلبها أن يتوقف من الفرحة، وجدت كلمات الدعاء لهذه السيدة الكريمة تنطلق وحدها من حنجرتها عبورا إلى شفتيها، جملا تكونت بتلقائية، جعلت السيدة تمضى سعيدة فى طريقها عائدة إلى بيتها.

وقفت «بخيتة» أمام المحل مترددة، هل تدخل وتشترى العباية بهذا المبلغ الكبير؟ إنها لم تمسك فى يدها مثله طوال حياتها، أم تحتفظ به، و تبحث عن غرفة تسكن فيها ؟ فى النهاية قررت الاحتفاظ بالمبلغ الضخم بالنسبة لها، و ظلت طوال اليوم تبحث عن أرخص مأوى يمكنها أن تستأجره، وجدت غرفة صغيرة جدا فى بدروم عمارة قديمة، أخذ منها السمسار المبلغ الذى جاءها من السماء كنفحة إلهية، وأخيرا نامت الفتاة المسكينة نومة شبه آمنة.

في اليوم التالى، قامت «بخيتة» من نومها، لتخرج إلى الشارع من جديد، فقد أصبح هو بيتها وملاذها، بين الوجوه التى لا تعرفها تجد الونس، مع الكثير من المضايقات التى اعتادت مواجهتها مرة بصرامة، ومرة بتوسل، واستعطاف، وبين التجول وسط فاترينات المحلات التجارية التى تعرض الملابس الجميلة، ذات الألوان المبهجة.

ومرة ثانية تجد رجلا فى عمر والدها يدس فى يدها عشرة جنيهات، ويومئ برأسه دون كلام، تفرح «بخيتة» بالجنيهات العشرة وتذهب إلى عربة الفول على ناصية الشارع لتشترى ساندوتشين تسد بهما جوعها.

تلمع الفكرة فى عقلها، تتفنن فى اتقان دور الضحية، المشردة، تشترى ملابس قديمة باهتة لكى تمارس بها مهنتها التى تفوقت فيها، تكسب كثيرا جدا، لكنها لا تريد أن تشترى بما كسبته ملابس جديدة ولا أن تغير من أسلوب حياتها حتى لا تفقد مصدر رزقها، وسبب سعادتها، وإحساسها بنجاحها وتفوقها فى مهنتها التى اخترعتها.

ظلت «بخيتة» تدخر كل ما تكسبه من التسول المحترف، المبتكر، حتى وصلت إلى سن الستين، وفى يوم من الأيام استيقظ أهل الحارة التى تسكن فيها على صراخه، كانوا يعطفون عليها جميعا، ويساعدونها بقدر ما يستطيعون، جرى الجميع نحوها فى ذعر، فوجدوها منهارة، سألوها ماذا حدث؟ قالت: ابن الكلب الحرامى سرق فلوسى كلها! نظر الجميع إليها بدهشة، ثم إلى الشاب الذى يحمل حقيبة سفر كبيرة ويجرى بأقصى سرعة، ثم يقفز فى سيارة ميكروباص تقف فى انتظاره!

- هذه قصة فيلم مستوحاة من أحداث واقعية، كتبتها وسجلتها حتى لا يطمع أحد فى استخدامها.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة