حسن رجب الفخراني
حسن رجب الفخراني


«السوق».. قصة قصيرة للكاتب حسن رجب الفخراني

صفوت ناصف

الجمعة، 21 يوليه 2023 - 04:16 م

كل الديكة اعتلت أسطح المنازل وبدأت في إيقاظ الكون والترحيب بالملائكة , صياحها يهز جنبات القرية التي خدرها الجوع وأسكرتها الفاقة, والكل يغط في سبات الوهم والهم, ربما تكون هي من توقظ ديكة الفجر لتؤذن فاليوم سوق البندر وهو الذي تنتظره أسبوعيا كأنه سراج النور الذي يمحو ظلمة حياتها القاسية تجمع علي عجل البيض من وراء دجاجها الهزيل وتحلب معزتها الوحيدة لتملأ قارورة من الحليب الأصفر من الضرع الجاف .

تلقي بجسدها المتهالك وفي حضنها ثروتها البسيطة فوق مساحة ضئيلة , هي ما تبقى لها من مزاحمة النساء ممن علي شاكلتها فوق أرضية عربة الكارو الخشبية , ببطء مقيت تقطع المسافة بين القرية وسوق البندر وفي خيال كل واحدة منهن رجاء وأحلام ووجل من الساعات المقبلة وما يحمله الليل لهن من وجوه مبهمة بلا ملامح .

تتذكر أن اليوم هو موعد سداد قسط القرض , الذي اقترضته لشراء المعزة التي لديها ,  تخشى أن تخفق يوما في السداد , تعرف أن ذلك معناه أن يلقي بها إلى غياهب لا يعلمها إلا خالقها .

رغم البؤس الذي تاهت في دهاليزه, إلا أن ذلك لم يستطع أن يمحو بعض أطلال من جمال بائد , وحزن عميق أخفقت عيون المها أن تبدده , كثيرون حاولوا أن يشاركوها حياتها وهي تأبى مرة تلو الأخرى , حتى مرت بها الأيام ثقيلة , والأمل تمزقت كل خيوطه .

لم يعد أحد يطرق بابها مرة أخرى.

واكتفت بأولادها , وذكراه قبل أن يغرر به الردي ويقتنصه في حين غفلة.

كادت أن تسقط حين مرت عجلة الكارو علي صخرة ملقاة في قلب الطريق الترابي المجدب , والصهد يسل الوجوه الكالحة .

هي كأنها شجرة بلا جذور , فتحاول قدر طاقتها أن تحفر ولو بأظافرها تاريخ لها ولفروعها الغضة.

لا تنسي أن ابنتها الكبرى خطبتها غدا من أحد شباب القرية الذين تزوجوا الغربة , لا بد من تجهيز رداء يليق بتلك المناسبة لهم جميعا , و سماط يمتد ببعض الأطعمة  البسيطة.

هي تعي أن حائط الدنيا قد مال بشدة عليها وهي لا تزال أسفله تئن من وجعها وقهرها إلا أنها تأبى أن تنكسر أو تنحي لتلك الرياح العاصفة.

قدرها ان تنال من الحياة فتاتها , وأن تكون تلك المعزة والدجاجات التي لديها قوام حياتها , لا تنسي بعض النقود الهزيلة التي تلقي إليها كمساعدة من الحكومة والتي لا تغني ولا تسمن من جوع , تتقبلها علي مضض و تغمغم فيما بينها وبين نفسها

: نواة تسند الزير.

ترفض أي عطايا أو هبات, كرامتها لا تترك لها مساحة للقبول.

هبطت من الكارو وحاولت أن تجد لها مكانا في صدر السوق, علها فيه تجد فرصة أكبر في بيع ما لديها سريعا, قبل أن تهجم الشمس علي الرؤوس التي يغمرها التيه, والحالمة بلقمة خبزا مقدد.

تقترب منها بعض النسوة العجائز, إحداهن تبتاع بعض البيض البلدي, وأخرى تأخذ قارورة الحليب .

ما تبقى لديها بعض البيض وتفرغ يديها من حمل هذا الأسبوع , ترسمت ابتسامة حائرة علي الشفاه التي مزقها الجفاف ثم توارت خلف ملاءة الاحتياج .

كل حركة البيع والشراء في السوق تسير علي وتيرة واحدة , جل النساء اللاتي يفترشن الأرض قد أكل الحرمان علي ظهورهن وأقام الأعراس, ومن يشترين علي تلك الشاكلة .

و في برهة انقلب الحال , وبدأ الجميع في الفرار ورجال الشرطة يقذفوا بأقدامهم البكماء في الجميع فيكسر بيض هذه وينسكب حليب أخري ويعلو الصراخ المكتوم وتنفجر شلالات الدمع من الأحداق وصوت يأتي إليها من بعيد محذرا

: الهروب, البلدية لا تعرف الرحمة.

همت بالهروب بما تبقي لديها من أمل في تلك الحياة حين امتدت إليها يدا باطشة وصاحبها يصرخ فيها

: إلى أين تهربين , هل ظننت أن تلك الأرض ليس لها من يملكها.

نظرت إليه وقد أحست بالانكسار يعصف بكيانها وصورة ابنتها العروس تتراقص في مخيلتها.

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة