رجل يساعد المرأة على ارتداء الكورسيه عام 1910م وتتضح السخرية فى الصورة
رجل يساعد المرأة على ارتداء الكورسيه عام 1910م وتتضح السخرية فى الصورة


إيرينى سمير حكيم تكتب : ختان عقول الإناث

أخبار الأدب

الخميس، 17 أغسطس 2023 - 02:38 م

كما فكَكَّت «ما بعد الحداثة» النص، ونحَّت سُلطة مؤلفه عليه، فككت ما بعد الحداثة الأسوار المقامة حول جسد المرأة، التى للحبس والتى للحماية معاً، ونحَّت سلطتها عليه، وأصبح المجتمع المتلقى لمظهرها، هو ما يُحدِّد ما تكون عليه كيفما يشاء، ولم تُرجِع المرأة إلى قيود الرجعية وحسب، بل سجنتها فى أسوار شفافة من حرية زائفة وثقافة مُضلِّلة، فأصبحت المجتمعات المتبنية للأفكار ما بعد الحداثية، تختن الأنثى بأقنعة جديدة للختان، بينما فى الوقت ذاته، ترجم الختان التقليدى، وتشجبه. 


والختان هنا بمعناه المعنوى المستوحى من ختان الجسد، هو ذاك التقليم الذى يحدث للمرأة فكرياً وجسدياً، فى صور شتَّى، ولا يُحَد أو يتمركز فى أماكن من العالم بعينها، بل إنَّه يخرج من أماكن ومصادر معتقدات متعددة، مُستهدِفاً مناطق مختلفة فى جسد الأنثى، للتشذيب والتقزيم، فالختان فى واقعه ليس بهذا الوجه المكشوف دائماً، فللختان أقنعة ساحرة مُغرية، تُصاغ تفاصيلها بخداع أكثر تحضراً ورُقياً، ولكنَّه يظل ختاناً ينتحل صورًا أكثر لباقة، ليُخاطب العالم الحديث بلغته الفكرية الجديدة، حول أفكاره وادعاءاته فى تحرير المرأة ومساواتها مع الرجل! وكما يقيد الختان التقليدى شرط قبولها بقطع جزء من جسدها وتشويهه، هكذا تفعل أقنعة الختان الأخرى فى ظل سيادة الأفكار الما بعد حداثية، ومنها شروط الجمال والقبول فى المجتمعات المختلفة، التى تجعل المرأة فى أماكن متفرقة من العالم، تحت لعنة النبذ والتقليل والإذلال، إلى أن يتم تشويه إحدى مناطق جسمها هى الأخرى، فيبدأ الرضا عليها تدريجياً، حسب مدى تعاونها مع مُشوِّهيها، بالاستسلام والتضحية والبذل!


وجميــع هذه الأقنعة الخبيثة يكون لها نفس المتطلبات من الأنثى، وهى اختتان العقل أولاً، وتقييد الحرية معنوياً وجسدياً ثانياً! بالرغم من أنَّ هناك أقنعة للختان تشبه الوجه التقليدى، فتكون عنيفة، وقيودها واضحة، إلا أنَّ هناك أيضاً أقنعة للختان لطيفة، ذات مظاهر مُقنَّعة للقيود، تحت زينة مُقنَّعة بالحرية الزائفة، مثل تلك التصرفات الهوجاء التى تُنفَق فى طريق الصراع الطويل المدى للجمال، التى تؤدى إلى مشاكل صحية خطيرة جداً، وتشوهات لا تقل دمامة عما يفعله الختان التقليدى، ومن أضرار تلك القيود الناعمة، على سبيل المثال، أضرار عمليات التجميل! خاصةً أضرار بطلة العمليات التجميلية الأولى فى حياة النساء حول العالم وهى: عمليات تكبير الثدى! والتى تحمل للمرأة التى تقوم بها عدة مخاطر، منها: 


تعرُّض حشوات السيليكون للانفجار، كما ورَد فى نتائج بعض الحالات، وإن كان على المدى البعيد من موعد العملية، حيث يحدث تمزُّق أو ثقب فى غلاف الحشوة، وتكون النتيجة تسرب مادة السيليكون الموجودة بها، مما يتسبب فى آلام كبيرة وتورم، وحدوث تصلُّب وتكتل للثدى.


ومثال على الفضائح الطبية لهذا النوع من العمليات فى دول العالم المتقدم، نجد هذا متجلياً فى قضية ضخمة رُفِعَت فى باريس، من قِبَل 2700 امرأة قُلنَ إنَّهن قد عانين من آثار صحية طويلة الأمد، بعد خضوعهن لعميات زرع غرسات فى أثدائهن. 


وكذلك أضرار عمليات شدّ الوجه، التى من الممكن أن تتسبّب فى تورّمات وظهور الندوب، وقد يصل الأمر إلى تلف الأعصاب أو قطعها خلال العملية! مما يؤثّر على انعدام الإحساس فى هذه المساحة من الجسم، أو عدم قدرة الحالة على إبراز تعبيرات وجهها المختلفة، كما أنَّ هناك مخاطر النزيف والعدوى البكتيرية، وفى حالات نادرة فقدان الجلد!


وبالإضافة إلى ما سبق، يَلزَم الإشارة هنا إلى دوامات العمليات التى يستدعيها الفشل فى عمليات تجميل سابقة، ففى ظل وجود مضاعفات خطيرة ومُشوِّهَة، تضطر المرأة لعمل المزيد من

العمليات الجراحية التجميلية أو العلاجية، لتعالج مظاهر وأعراض هذه المضاعفات التى تعرضت لها إثر العملية الأولى، وهكـذا، والأمثلة على هذا فى نماذج كثيرة جداً، خاصةً من المشاهير، سواء فى العالم العربى أو الغربى، وتزدحم مواقع الإنترنت بالمعلومات عنها، والجدير بالذِكر أنهن لم يجنين الإعجاب ولا حتى التعاطف أو الشفقة، بل رُجِمنَ بالتنمُّر وتقليل الشأن!

ومن العجيب فى عالم الجمال النسائى العبثى هذا، أنَّه بينما تخضع هندية أو مصرية مثلاً، لعمليات تبييض البشرة، بدافع هوس الحصول على بشرة تلك البيضاء القابعة فى بقعة بعيدة عنها فى الأرض، فإنَّ أمريكية أو أوروبية على سبيل المثال أيضاً، تجدها مهووسة بالحصول على السمار، والحصول على اللون البرونزى، كتلك الشرقية أو هذه السمراء الجميلة فى مكان آخر لم تُخلَق فيه مثل هذه المحظوظة!


وهذا بالطبع يحدث لأنَّ الجمال هدف متحرك أولاً، ويتحدد اللون المُحبَّب بحكم ندرة وجوده بين نساء المجتمع، فيصبح لون البشرة المرغوب هو غير الشائع، وللعلم فإنَّ وسائل التبييض والتسمير للبشرة جميعها، تحمل أضراراً جسدية كبيرة تصل إلى تسمم الكبد والكلى، وتذهب إلى سرطان الجلد.


إنَّ كل هذه المخاطر التى تذهب إليها هؤلاء النسوة بكل تلك القناعة، وهذا القدر الكبير من الثقة بالنفس الممزوجةِ بالألمِ واللذةِ، تكشف لنا كم هنَّ مختونات عقلياً، ويذهبن فى طريق الختان، نحو تفعيلات أكثر وأكثر للختان فى أجسادهنّ، بقناعة المُتحررات المُخدَرات، كالعبدات اللواتى قَطَعنَ فى سذاجة الانتصار، رُبُط العبودية، بينما صكّ عبوديتهن مازال فى حوزة المُستعبِد! أى الختـــان ومعاونيه، وهما العالم الاستهلاكى، والمجتمعات النرجسية!

والحقيقة أنَّ القدرة على التحكم بأريحية فى مقاليد مثل هذه الاختيارات، والاستمتاع بممارستها، والتمرُّغ فى نتائجها الخَطِرة المؤذية، لا يكون إلا عن حرية زائفة، حرية جوهرها عبودية، عبودية لمقاييس جمال مُختلَّة، يدعمها وعى زائف، مُحاط بأصفاد التحرر الخادع، وهو: أخطر أنواع الأصفاد الثقافية، التى لا تتيح لصاحبها فرصة البحث عن الحرية الحقَّة أو التنوير والارتقاء، فهذه الأصفاد الخادعة تُقيِّد كل فكرة وحركة فى هذا الاتجاه، لأنَّها تَحجُب عنه هذه الرغبة وهذا الشعور بالاحتياج، بسبب العازل العنيد التى ترسِّخه فى أساسات الوعى، حيث الثقة المزيفة فى النفس وفى قَدر التثقف، وصحة المعلومات التى تدفعة للاستمرار فى هذا العبث، بلا أدنى شعور بالذنب تجاه مقاييس التوازن والحرية الحقيقية.


وهذا يُرجعنا إلى نقطة تحجيم المرأة، وتقزيم فكرها وأهدافها، فقد تم حصار الفكر الأنثوى فيما بين فكرتى، الشعور بالدونية والرغبة فى الإرضاء، وهذا فكر جاهلى ورجعى بحت، ولكن هذه المرة يُمرَّر للأنثى باستخدام قناع التحضر وحرية ما بعد الحداثة، لتظل دائماً الأنثى بهذه النظرة المحدودة عن كيانها، لذلك ليس من العَجَب أن نجد نموذجاً فجَّاً لهذا المُنتَج المجتمعى الغبى، متمثلاً بوضوح فظّ فى حالة «بلوندى بينيتت»، امرأة أمريكية من كاليفورنيا، وهى إحدى المهووسات بالدمية «باربى»، اللائى يريدن أن يصبحن مثلها فى شكلها، وهن كثيرات، إلا أنَّ هذه المرة، فتلك المدعوة «بلوندى»، تعتقد أنَّ العمليات الجراحية فى تحقيق ذلك، تعتبر هى الخطوة الأولى فقط، حيث تريد أن تصبح مثل «باربى» فى كل شىء، لذا خضعت لجلسات تنويم مغناطيسى من أجل التقليل من معدل ذكائها ولتصبح حمقاء مثلها! حيث تتخيل أنَّ دمية «باربى» غبية الشخصية!


ولقد نشأت جذور هذا الاستغلال الاستهلاكى للأنثى، بمسمى حريات ما بعد الحداثة، فى بوتقة أناقة ورقى مرحلة الحداثة، والتى استغلَّت مظهر الأنثى بدورها، لتقيدها بختان أنيق، يُشذِّب حضورها ويُحجِّم دورها فى المجتمع، وذلك بموضة «الكورسيهات»، ذاك المشدّ الراقى الذى يغلِّف صاحبته بمظهر رقيق، لكنَّه فى جوهره ختان قاسٍ وعنيف! وتبدأ القصة عندما تغير الهدف من تشكيل الملابس على الجسم، إلى تشكيل الجسم نفسه، باستخدام ملابس دورها هو أن تقوم بذلك، من هنا ظهَر دور الكورسيه! وكان التقليد المُشدّد عليه حينذاك هو أن ترتدى النساء الكورسيهات طوال الوقت، وحتى فى ساعات النوم، للحفاظ على اللياقة البدنية لشكل الجسم. 


وغالباً ما كانت صدور وخصور النساء المحاطة بالكورسيهات، تتعرَّض للربط بإحكام شديد، لدرجة أن تنفسهن كان ضعيفاً، مما أدى إلى الإغماء فى بعض الحالات، حيث تؤثر تلك الدرجات العالية من الربط على معدل ضربات القلب، وتَدفُّق الدم والعرق والتمثيل الغذائى. وهكذا كما رأينا، فالختان اللطيف، الترفيهى، ليس ممتعاً، بل مُضرّاً ومُشوِّهاً، كما الختان التقليدى العنيف، بل إنَّ هذا النوع من الختان مُكلِّف تكلفة مفتوحة السعر، فبقدر ما يُدفَعَ فيه، بقدر ما يزيد الدَين على مُسدِّدتِه أكثر وأكثر! وهذا وإن دلّ على شىء، فيدل على أنَّ الختان ليس إجبارياً فى كل حالاته وصوره، بل اختيارياً أيضاً!


وهذا يُنذِرنا كم أن الختان حربائى الأوجه وخادع، فها هى الأقنعة المذكورة، تبدو متناقضة مع الختان التقليدى فى الظروف والأهداف، إلا أنَّهم أوجه متعددة لحقيقة واحدة فى جوهر الأمر، فجميعها مُضِّر، جميعها مُقيِّد، جميعها مُشوِّه، لحياة المرأة وجسدها، لنجد أخيراً أنَّ رجعية الجهل وحرية ما بعد الحداثة فى النهاية، يتفقان معاً على ختان الأنثى!.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة