عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الأسبوع

المساعدات الدولية فى زمن الكوارث الطبيعية

الأخبار

السبت، 16 سبتمبر 2023 - 08:56 م

عبدالله البقالى

تصر بعض الأوساط الفرنسية على تعمد تسييس قضية المساعدات، التى اقترحتها فرنسا لمساعدة المغرب لمواجهة آثار الزلزال المدمر، الذى تعرض له المغرب قبل أيام، ولم يكن مفاجئًا بالمرة تسخير كتيبة من الإعلام الفرنسى فى الخلاف العميق بين الرباط وباريس فى هذه القضية الساخنة، ولم يكن مفاجئًا أيضًا أن تتعمد بعض من وسائل الإعلام هذه ممارسة الضغط والابتزاز ضد المغرب من خلال استهداف المؤسسات الدستورية، من ملكية وحكومة، فى محاولة لإجبار الرباط على الاستسلام والرضوخ للأمر الواقع.


فما إن حدث الزلزال المدمر فى عمق جبال الأطلس المغربية، حتى سارع الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إلى إعلان استعداد فرنسا لتقديم الدعم اللازم للمغرب فى هذه المحنة، ولم يكن وحيدًا فى هذه المبادرة، بل بادرت أكثر من ستين دولة ومنظمات إنسانية بإعلان استعدادها لإسناد المغرب فى هذه الظروف الدقيقة والصعبة، بتقديم مساعدات مالية ولوجيستيكية وتقنية، وكانت روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واليابان وهولندا وغيرها كثير من الدول التى عرضت خدماتها على المغرب.


وبدت الحكومة المغربية متريثة فى التفاعل مع هذا الحجم الهائل من الطلبات، حيث صرحت بأنها بصدد إنجاز تقييم شامل للحاجيات وللمتطلبات، وفى ضوء ذلك ستختار العروض المناسبة، واكتفت فى البداية بالموافقة على طلبات قطر والإمارات العربية المتحدة وإسبانيا وبريطانيا، وأرجأت الرد على الباقى إلى حين الوقوف على المتطلبات والاحتياجات.
فرنسا وحدها من بين الستين عرضًا، الذى توصلت بها الحكومة المغربية شعرت بالإهانة من جواب الرباط، ومنذ الوهلة الأولى تسابقت الأوساط الإعلامية الفرنسية إلى تبرير الموقف المغربى بالخلافات السياسية العميقة بين الرباط وباريس، التى وصلت مستوى أزمة صامتة عمرت لفترة طويلة لحد الآن، وجزمت بأن الرباط رفضت المساعدات الفرنسية بخلفيات سياسية. وحدث أن أقدم الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون على سابقة فى تاريخ العلاقات الدولية بأن وجه خطاباً مباشراً من باريس إلى الشعب المغربى، وكأنه كان يشعر لحظتها أن جغرافية رئاسته تمتد إلى التراب المغربى.


ويبدو أن القضية فى عمقها تتجاوز التبسيط الساذج الذى اعتمدته الأوساط الفرنسية فى تعاملها مع هذه القضية، والتى تستند إلى قناعة تصنف المساعدات الدولية فى لحظات الكوارث، منة ومنحة من القوى العظمى لشعوب وأمم تتوسل وتستجدى هذه المساعدات.وبالتالى فإن هذا الفهم يفرغ قضية المساعدات الدولية من محتواها الإنسانى، التضامنى، ويحولها إلى لحظة من لحظات الزمن السيئ الذى يطبع العلاقات الدولية الراهنة، وإلى ممارسة ملغومة من الممارسات الاستعمارية المتجاوزة والبائدة.
ولم يكن المغرب وحيدًا فى إعمال هذه المقاربة، وليس الأول ولن يكون الأخير. ونتذكر فى هذا السياق أن الحكومة الأرمينية رفضت عقب الزلزال الذى ضرب البلاد سنة 1988 مساعدات المنظمات غير الحكومية، فى حين وافقت على المساعدات الدولية. عكس الحكومة الهندية التى قبلت إثر الزلزال الذى هز البلاد سنة 1993 بمساعدات المنظمات غير الحكومية فى حين لم تر داعيًا ولا حاجة لقبول مساعدات الدول.ونتذكر أيضًا أنه عقب الزلزال الذى ضرب منطقة بومرداس بالجزائر سنة 2003 طلبت السلطات الجزائرية من جميع فرق المساعدة الأجنبية مغادرة التراب الجزائرى بعد أقل من ثلاثة أيام بعد حدوث الزلزال. وبذلك فإن المغرب لم يخترع العجلة فى هذا المجال بل اعتمد مقاربة موجودة ومعمول بها، تضع قضية المساعدات الدولية فى لحظة الكوارث الطبيعية فى سياقها الطبيعى والحقيقي، الذى يخلصها من المقاربة التقليدية المسيئة لقيم الإنسانية.
والحقيقة أن هذا التباين فى الرؤى فى قضية إنسانية محضة تكشف تبايناً آخر حول مفهوم السيادة الوطنية التى تتجلى أيضا فى القرارات السيادية التى تتخذها حكومات الدول. وهو التباين الذى ينحو بهذا الخلاف نحو الخطورة البالغة . ذلك أنه من حق الحكومات فى العالم، بما فى ذلك حكومات الدول التى تصنف بالنامية والمتخلفة، تقدير الأوضاع المترتبة عن الكارثة أو الأخرى المتعلقة بها واتخاذ القرارات السيادية التى تراها مناسبة ولائقة، ولا حقَّ لأى دولة أو قوة أخرى مصادرة هذا الحق، أو اتخاذ القرار بالنيابة عن حكومات الدول المعنية، بما فى ذلك لحظات الأزمات والكوارث، حيث تنظم القواعد المعمول بها فى هذه الحالات، والتى لا تخرج عن خيارين اثنين لا ثالث لهما. أولهما أن تطلب حكومة الدولة المتضررة من الكارثة الإنسانية المساعدة الدولية بصفة مفتوحة، بسبب أنها ليست قادرة وحدها على مواجهة وتحمل تبعات وآثار الكارثة، وتطلب مساندة فعلية من المجتمع الدولى. وثانيهما وفى حالة إحجام الدولة المعنية عن طلب المساعدة الدولية، تتقدم حكومات الدول والمنظمات الدولية المختصة بطلب تقديم المساعدة عن طريق البعثات الدبلوماسية للدولة المعنية. وفى هذه الحالة تنتقى الدولة المعنية العروض المناسبة لها، وتتجاوب مع تلك الملائمة لاحتياجاتها. وهكذا فإنه لا معنى لممارسة الضغط والابتزاز ضد دولة ما، لأنها مارست حقها السيادى المطلق فى اتخاذ ما تراه مناسبًا من قرارات فى حالات الأزمات والكوارث، اللهم إذا كانت لذلك أهداف أخرى بعيدة عن البعد الإنسانى للمساعدات الدولية.
من حق المغرب، وغيره من الدول التى قد تتعرض لكوارث مستقبلاً، أن ترى نفسها مؤهلة لمواجهة آثار كارثة إنسانية، وأنها تتوفر على ما يكفى من الإمكانيات والمؤهلات لمواجهة آثار وتداعيات الكارثة الإنسانية، وأنها قادرة على تكريس استقلالها الذاتى فى هذا الصدد، وهو الاستقلال الذى يحفظ كرامة الشعب فى مواجهة أشكال الاستجداء والتوسل والتجارة بالمأساة، ويحميه من كثير من الممارسات الخطيرة، التى لا تتردد بعض الأوساط التجارية فى الإقدام عليها، منتهزة ظروف وأجواء المأساة لتحقيق أهداف تجارية رخيصة من قبيل الدعاية، لمنتوجاتها التجارية أو حتى تجريب بعض الأدوية الجديدة أو الفاسدة فى أجساد المنكوبين جراء الكارثة. وهذا ما يطرح قضية مسئولية الدولة، ليس فقط فى مساعدة ونجدة المواطنين ضحايا الكارثة، بل مسؤوليتها فى حماية المجتمع برمته من الممارسات المشبوهة سواء كانت أفعالاً أو أهدافاً سياسية مسيئة.


 هذا الفهم العميق لقضية المساعدات الدولية هو الذى تتعمد الأوساط الفرنسية الرسمية والإعلامية تغييبه أو التعتيم عليه، وعرض القضية على أنها خلاف سياسى محض بين الرباط وباريس. وهذه ليست الحقيقة، لأن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير.
 

 


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة