الناقد الفني سمير غريب
الناقد الفني سمير غريب


«الأخبار» تحاور رموز الفكر حول «تجديد الخطاب الثقافى»

الناقد الفني سمير غريب: لدينا خوف غير مبرر من التاريخ

حازم بدر

الأحد، 24 سبتمبر 2023 - 06:57 م

قبل نحو 25 عاما، كان الناقد الفنى سمير غريب يسأل، ونحن طلاب الفرقة الثالثة بقسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، نجيب عن أسئلته، ضمن مادة «النقد الفنى والأدبى»، التى كان يقوم بتدريسها فى الكلية، ولكن الوضع تبدل قبل أيام، عندما حل الرجل ضيفا على سلسلة حوارات «تجديد الخطاب الثقافي»، التى نقوم بتنفيذها فى «الأخبار»، إذ أصبح الطالب هو من يسأل، والأستاذ يجيب.. وكما كان الرجل جريئا فى محاضراته التي كان يستعرض خلالها نظريات النقد الفني، دون أن يبخل على طلابه بآرائه في القضايا ذات الاهتمام العام، كان كذلك فى حواره معنا الذى امتد لساعة ونصف الساعة.

وعلى وقع إرهاصات العاصفة، التي كانت تعصف بالآذان، خرجت من الرجل آراء عاصفة كان يقولها دون أن يحسب حسابات المكسب والخسارة، وهل ستجد قبولا واستحسانا عند البعض أم لا، ولم يترك لى محاولات تفسير هذه الجرأة، إذ بادرني قائلا: «لقد تحررت من كل المناصب، وأستطيع الآن أن أتكلم بما أراه صوابا»..

وإلى نص الحوار،،

دعنا نبدأ من ملاحظة، وهى أننا كثيرا ما نسمع ونقرأ مصطلح «تجديد الخطاب الدينى»، لكننا نادرا ما نقرأ مصطح «تجديد الخطاب الثقافى».. لماذا؟
دعنى فى البداية، أسجل ملاحظة تتعلق باستخدام «كلمة خطاب»، فهى كلمة عربية تعنى، إما أنك تكتب خطابا لشخص ما، أو أنك تتحدث إلى الناس، ولكن عندما يكون المقصود «إعادة صياغة فكر معين»، كما فى هذه الحالة، يصبح استخدام هذه الكلمة غير دقيق، ولكن الترجمة من الفرنسية إلى العربية، وضعت الكلمة في السياق الخاطئ، ولا أدرى ماذا يمنع لو قلنا التجديد الثقافي، بدون كلمة «خطاب».

ربما لأن الاستخدام دائما ما يكون مقرونا كما أوضحت فى سؤالى بـ «الخطاب الدينى»، ولن يكون مقبولا وفق ما تطالب أن نقول «التجديد الدينى»؟
تظهر علامات الدهشة والتعجب على وجهه قبل أن يقول متسائلا: ولماذا نقول في الأساس التجديد الديني، فنحن عندما نقول «التجديد الثقافى»، فهذا يشمل كل شيء، بما ذلك «الدين»، فالدين هو أحد مكونات ثقافة الإنسان.

كيف؟
 نحن نقول إن «الدين المعاملة»، وهذا يعنى أن السلوك يجب أن يكون متسقا مع تدين الشخص، ولكن المفهوم الأوسع هو أن السلوك ينبئ عن ثقافة الشخص، بما فى ذلك تدينه، ولذلك، فإن المجتمعات المتقدمة، ستجدها مجتمعات ذات ثقافة متقدمة، فالثقافة مصطلح حي، يتضمن ثقافة متقدمة، وأخرى متخلفة، وأخرى بين هذا وذاك.

عندما نقول تجديد بدون كلمة «خطاب»، التى تثير تحفظك، فهذا يعنى أن الوضع الحالى غير مرضٍ، فما مشكلة الوضع الراهن؟
بنبرة حزينة يقول: ليس لدينا مفكرون أو مثقفون، فنحن في النصف الأول من القرن الواحد والعشرين، أكثر تراجعا في النواحي الثقافية من النصف الأول من القرن العشرين.

لماذا هذه النظرة المتشائمة؟
بابتسامة باهتة يقول: بدون الدخول فى تفاصيل، وقد يخرج علينا البعض بطرح أسماء يظن أنها لامعة، ولكن السؤال هو عن تأثير تلك الأسماء فى المجال العام، فمصر كان لديها مفكرون فى اتجاهات مختلفة، فكان لدينا زكى نجيب محمود ومحمود أمين العالم، وهما على طرفي نقيض، وكان لدينا الكاتب لويس عوض، وما تحدثه مقالاته من تأثير.

ربما لأن آليات العصر تغيرت، وأصبحت وسائل العرض والوصول للناس متعددة، عبر وسائل التواصل الاجتماعى وغيرها، فلم يعد المجال قاصرا على أسماء بعينها يمكن أن تحدث التأثير؟
تتحول ابتسامته الباهتة إلى ابتسامة ساخرة وهو يقول: هذه محاولة للالتفاف على أصل المشكلة، والتي هى باختصار، التجديد الثقافى يحدث، عندما يكون هناك تعبير فكرى وثقافى وفنى حر، والدولة يجب أن تشجع على هذا التعبير.

الحقبة الملكية

ولما لم تناد بذلك فى فترة الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، وقد كنت أحد المسئولين البارزين فى وزارة الثقافة؟
يصمت لوهلة قبل أن يقول: دعنا ننطلق فى البداية من الحقيقة التى ذكرتها آنفا، وهى أن مصر فى النصف الأول من القرن العشرين، كانت أكثر تقدما من الناحية الفكرية والثقافية من النصف الأول من القرن الواحد والعشرين، فكل الإبداع فى الأدب والفنون بأشكالها المختلفة، انطلق خلال الحقبة الملكية، ثم حدث التراجع فى الفترة الناصرية عندما تبلور عند الرئيس الراحل جمال عبد الناصر التوجه الفكرى نحو الاشتراكية، فتسبب ذلك فى مصادرة لحرية الفكر، وأصبح هناك توجيه للفكر فى اتجاه معين، وبعد عبد الناصر، جاء الرئيس أنور السادات بفكر مختلف، استخدم فيه الجماعات الدينية، لتحجيم الناصريين، وكان مقتله المفاجئ رسالة تشير إلى سيطرة تلك الجماعات، وجاء مبارك الذى بدأ بداية رائعة بالإفراج عن سجناء الرأى، لكن نظامه أصابته الشيخوخة فى النهاية، وجميعهم لم يستوعب أن التقدم يحدث بالديمقراطية، وهذا هو الدرس المستفاد من الثورة الفرنسية، فهذه الثورة هى السبب الرئيسى ليس فقط فى تقدم فرنسا، ولكن فى تقدم أوروبا كلها، لأنها أرست مبادئ حرية الرأي والفكر والديمقراطية.

ولماذا لم تفعل ثورة يناير ذلك؟
يضحك قبل أن يقول متعجبا: ثورة؟!. هى ليست ثورة بالمعنى العلمى، هى انتفاضة لتغيير الواقع، لكنها لم تحدث تغييرا جذريا فى المجتمع يجعلنا نسميها ثورة، وبالمناسبة الثورات لا يحكم عليها فى وقتها، فالثورة الفرنسية شهدت فترات صعود وهبوط، لكنها فى النهاية أرست قواعد، لذلك فى النهاية نستطيع أن نقول إنها أثمرت، فهل تستطيع الآن أن تقول بعد مرور تلك السنوات أن ثورة يناير أثمرت؟!

إنجازات السنوات العشر

استطعت أن تتهرب بذكاء من سؤالى السابق، لكن سأعيده مجددا بصيغة أخرى: ماذا عملت لتطبيق هذه الأفكار التى تنادى بها وقد كنت أحد المسئولين البارزين فى وزارة الثقافة مع الوزير فاروق حسنى، خلال فترة الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك؟
يبتسم نافيا التهرب، ثم يستأذن للرد على مكالمة تليفونية مهمة، تحدث خلالها باللغة الفرنسية بطلاقة، ليعود قائلا، وهو يهم بالجلوس على مقعده: عملنا كثيرا خلال فترة فاروق حسنى، وأنا هنا لا أدافع عن فاروق، الذى كان صديقا، قبل أن يصبح رئيسى فى العمل، ولكنى أتحدث بناء على ما شهدته وشاركت فيه، وبالمناسبة، أنا لا أدعى أن الأوضاع كانت مثالية، فأصداء التغير الذى شهدته مصر منذ ثورة يوليو 1952، والتى تحدثت عنها سابقا، كانت مستمرة، ولكننا حاولنا إحداث حركة ثقافية، خصوصا فى السنوات العشر الأولى من تولى فاروق حسنى مسئولية وزارة الثقافة، لأن استمراره فى المنصب كان خطئا كبيرا، مثلما كان استمرار مبارك لفترة طويلة كان خطئا.

بمناسبة إنجازات فاروق حسنى، يتردد أن أحدها، وهو صندوق التنمية الثقافية، كان الهدف منه إنشاء كيان يتولى مسئوليته صديقه سمير غريب؟
يمتعض وجهه قبل أن يقول بنبرة حادة بعض الشيء: هذا كلام فارغ، وغير منطقى، فهل من المعقول أن الوزير يستحدث مؤسسة بملايين الجنيهات من أجل صاحبه، فماذا سيفعل بالمؤسسة إذن إذا اختلف مع صاحبه؟ أو أن صاحبه أحيل للتقاعد؟، والحقيقة أن فاروق حسنى كان يفكر فى إنشاء هذه المؤسسة قبل أن يصبح وزيرا، بل إنه كان يفكر فى أن يصبح وزيرا، قبل أن يتولى مسئولية الوزارة، وهذا طموح مشروع.

يبدو لى أن علاقتك مع فاروق حسنى كان يختلط فيها الجانب الشخصى باعتبارك صديق الوزير مع الجانب الرسمى باعتبارك أحد مرءوسيه؟
لا أنكر أنى دخلت الوزارة من باب الصداقة، حيث بدأ فاروق حسنى عهده بمعارك ضارية وهجوم عنيف ضده، لأسباب كانت شخصية، وليس سياسية أو ثقافية، وكان بحاجة لمساندة، فانتدبنى للعمل معه كمستشار صحفى، وفى هذه المرحلة كانت العلاقة بيننا لا تزال فى إطار الصداقة، لكن بعد ذلك تم دفعى للعمل التنفيذى.

بمناسبة دفعك للعمل التنفيذى، كانت أحد الانتقادات اللاذعة التى وجهت للوزير فاروق حسنى، هى الاستعانة بك مديرا لدار الكتب والوثائق القومية، وكانت كل الانتقادات تتركز حول جلوسك على مقعد توفيق الحكيم، فهؤلاء كانوا لا يرونك رمزا فكريا لهذا المنصب، فهل تلتمس لهم العذر الآن، وقد قلت سابقا خلال الحوار، أننا نعانى من عدم وجود رموز فكرية مؤثرة؟
يشير بإصبع الإبهام مشيدا بالربط بين تلك القضية القديمة وموضوع الحوار، قبل أن يقول ساخرا: أنا لم أذهب لدار الكتب كاتبا، لكنى ذهبت إليها مديرا، فهذا عمل إدارى شأنه شأن أى عمل آخر توليت مسئوليته فى وزارة الثقافة، وبالمناسبة، أنا لم أكن راضيا عن تولى هذه المسئولية، بل إنى اعتبرتها عقابا من الوزير لى، لأنه أخذنى من زخم صندوق التنمية الثقافية، الذى كنت أول مديرا له، إلى مكان «مطفى».

يكفيك أنك جلست على مقعد توفيق الحكيم؟
يضحك قبل أن يقول: مجددا ستقول لى مقعد توفيق الحكيم، بالمناسبة توفيق الحكيم وهو مدير لدار الكتب عندما كان موقعها فى باب الخلق، وليس الموقع الحالى، كان نادرا ما يدخل إلى الدار، وكان مكانه المفضل فى المقهى المقابل للدار، وكانت «البوستة» تأتيه فى المقهى ليوقعها، فمسئولية هذا المكان، لم تكن تحتاج كاتبا، لكنها كانت تحتاج مديرا، وكما قلت لك هذا لم يكن مكانا مفضلا لى، بل كنت أعتبر نفسى منفيا إلى مكان «مطفى» بعد أن كنت فى أوج المجد المهنى فى وزارة الثقافة.

لا أستسيغ وصف «مطفى»، فأنت كنت مديرا لمكان عريق؟
مع احترامى وتقديرى لدار الكتب، كمكان له ماض عظيم وواقع مؤثر، لكن ما أقصده بـ «مطفى»، أنه لم يكن مسلطا عليه الضوء إعلاميا، مثل هيئة قصور الثقافة وقطاع الفنون التشكيلية، وغيرها من قطاعات وزارة الثقافة.

إذا أردنا أن نربط ذلك بموضوع حوارنا، فهل هذا الانحسار الإعلامى عن مكان مهم كدار الكتب، يعكس وضعا ثقافيا متدهورا؟
يؤمئ بالرفض قبل أن يقول: ليس لهذا الانحسار علاقة بالوضع الثقافى، لكن له علاقة بطبيعة عملها، كمكان يرتاده الباحثون بشكل خاص، فطبيعة عمل هذا المكان يتسم بالهدوء، ولا يدعو للصخب، ومع ذلك، فقد استطعت خلال تولى هذه المسئولية جذب الأنظار لدار الكتب عبر مؤتمرات وندوات ومعارض، كما ساعدت فى تأسيس اتحاد دور الوثائق العربية.

وثائق ثورة يوليو

أحد أهم الهيئات التابعة لدار الكتب ما يعرف بالوثائق القومية، فكيف ترى قانون الوثائق الأخير؟
يطلق تنهيدة عميقة قبل أن يقول بنبرة صوت مرتفعة: من الجيد أنك تطرقت لهذا الموضوع، فرغم أن أقصى مدى للحفاظ على سرية الوثائق هى 50 عاما، وفق القانون، ولا يتم الوصول لهذه المدة الطويلة، إلا بقرار بعد مضى 30 عاما على الوثائق، إلا أننا للأسف نجتهد، ليس فى الحفاظ على الوثائق، ولكن فى إخفائها، فأنا لا أستسيغ أن وثائق ثورة يوليو غير منشورة حتى الآن.

ربما يكون السبب فى أنها قد تعيد الاعتبار لأشخاص ظلمهم التاريخ، مثل محمد نجيب مثلا؟
يرد بنبرة صوت حادة ومرتفعة: وما المشكلة أن تعيد الاعتبار له ولغيره، نحن نتحدث عن حدث كل من شاركوا فى صناعته توفاهم الله، فما المشكلة إذن؟.. أليس من الأفضل أن نتيح الوثائق فنعرف الحقائق مجردة، فنحن للأسف نعرف تاريخنا من المذكرات الشخصية، وهذه المذكرات مهما ادعى أصحابها الحياد والموضوعية، فمن المؤكد أنهم لن يدينوا أنفسهم.

وما تفسيرك للحرص على إخفاء هذه الوثائق؟
يلتقط هاتفه المحمول ليستخدم تطبيق الآلة الحاسبة قبل أن يقول: أنا لست متميزا فى الحسابات، فدعنى استخدم الآلة الحاسبة، فنحن الآن فى عام 2023، وعنما نطرح ذلك التاريخ من عام 1952، إذن فقد مر على ثورة يوليو 71 عاما، وهذه فترة تتعدى الـ50 عاما، التى هى أقصى فترة فى القانون، بنحو 21 عاما، ألا يكفى ذلك، كى نفرج عن هذه الوثائق.

أهمية الانشغال بالماضي

البعض يرى الانشغال بالماضى نوعا من الفلس، وأن علينا ونحن نتحدث عن التجديد الثقافى أن ندعو المثقف للانشغال بالحاضر، وهذا ما يطلق عليه «المثقف العضوى»، أى المهموم بمشاكل مجتمعه؟
يمتعض وجهه قبل أن يقول: لا أتفق مع هذه الرؤية، فالانشغال بالماضى لا يتعارض مع التجديد الثقافى، ولن أقول لك العبارة الشهيرة «من ليس له ماض، ليس له حاضر»، ولكن سأقول لك إننا بحاجة إلى معرفة ما حدث فى الماضى القريب، حتى وصلنا إلى هذا الحاضر، وبصراحة إذا كنا سنخاف من أشياء حدثت قبل أكثر من 50 عاما، فهذا يعنى أن لدينا مشكلة فى حاضرنا.

وأنت مدير لدار الكتب والوثائق القومية.. هل كان متاحا لك الاطلاع على تلك الوثائق التى تطالب بإتاحتها للاطلاع؟
 صراحة لم أطلب الاطلاع عليها.

معقول، أنت فى الأساس قادم من خلفية صحفية، وتحت يديك كنز من المعلومات، ألم تستغل تلك الفرصة؟
ربما كان الأمر مثيرا عند عملى الصحفى، ولكن التحول للعمل الحكومى والمهام الإدارية يولد ضغطا لم أملك معه رفاهية القيام بذلك.

درس العمل الحكومي

هل تشعر أنك ظلمت نفسك بتحولك من العمل الصحفى إلى العمل الحكومى والإدارى بوزارة الثقافة؟
 يصمت لوهلة قبل أن يقول: لا.. بالعكس فقد استفدت كثيرا من عملى الحكومى، فالصحفى يظن أنه يعرف كل شيء، ولكن الحقيقة عندما تدخل فى دهاليز العمل الحكومى تكتشف عالما آخر من البيروقراطية، بما يجعلك تشعر أنك لم تكن تعرف شيئا.

أخيرا: بما أنك توليت لفترة من الزمن مسئولية جهاز التنسيق الحضارى، فكيف ترى الجدل المثار حاليا حول هدم بعض الأضرحة فى منطقة القاهرة التاريخية؟
تعليقى الوحيد على هذه القضية هو تطبيق أحكام قانون جهاز التنسيق الحضاري، فلنرى ما ينص عليه القانون، ونلتزم بتطبيقه.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة