نجيب محفوظ
نجيب محفوظ


كنوز| دروس أكتوبر

عاطف النمر

الأربعاء، 11 أكتوبر 2023 - 09:23 م

نجيب محفوظ

 ست سنوات، رأيتُ المصرى خلالها يسير فى الأسواق مرتديًا قناع الذل، يثرثر ولا يتكلم، يقطب بلا كبرياء، يضحك بلا سرور، ويساير الزمان بلا مستقبل، من حوله عرب متقاربون وقلوبهم شتى، وأصدقاء من العالم يعطفون عليه بإشفاق لا يخلو من زراية، وعدونا يعربد، يأسرنا فى السماء، يتحدانا فى الأرض، ضربة فى سوريا، لطمة فى لبنان، وأسأل النفس الحزينة ما العمل، ما المصير؟ 

القتال منا يُقال محال، والاستسلام محال، والاستنزاف لا يتوقف، ثم رُدت الروح بعد معاناة الموت ست سنوات، روح مصر تنطلق بلا توقع، تتجسد فى الجنود، بعد أن تجسدت فى قلب ابن من أبر أبنائها، اتخد قراره ووجه ضربته، ووقعت المعجزة، انتقل الجيش من الغرب إلى الشرق، ذهل الأصدقاء والأعداء، استرد المواطن كبرياءه، سارت مصر من عصر إلى عصر، ومن عهد إلى عهد، ومن موت إلى خلود.

أيها الزعيم.. لقد وفرت السلاح، الإنسان لا يحارب بالسلاح وحده، سلّحت شعبك قبل ذلك بالقانون والديمقراطية والحوار الحر، رُدت إلينا الروح والعصر والمستقبل، إنها ثورة وليست معركة، المعركة صراع ينتهى بالنصر أو بغيره، أما الثورة فوثبة روحية تمتد فى المكان والزمان حتى تتحقق حضارة، ثورة لأنها لم تكن مجرد تدبير محكم وتنفيذ متقن، لكنها رمز لثورة الإنسان على نفسه وتجاوزه لمخاوفه ومواجهته لأشد قوى الشر عنفًا وتسلطًا.

6 أكتوبر ثورة فتحت لنا الطريق بلا نهاية، وليس العبور إلا أول قفزة فى تيار تحدياته، وليس النصر إلا أول نصرعلى عقبة من عقباته، وهو طريق يصادف الماضى فيه النجاح والفشل، والنصر والهزيمة، والتقدم والتقهقر، ولكن كل أولئك مواقع وعلامات، نمر بها ونتعلم منها، ولا نتوقف عن التقدم أبدًا، ثورة 6 أكتوبر، ثورة تحرير مصر الحديثة، ثورة الإرداة والعقل والروح، والدرس المستخلص هو الدور الذى لعبه الإيمان فى الصراع، الإيمان روح الأمة، تستيقظ وتنام، تأكل وتشرب، تجتهد وتجاهد، تتحدى وتقاتل، تخاصم وتهادن، باسم الله، بمناجاة الله، وفى سبيل الله، لذلك فإن مسئوليتها حيال هذا الإيمان خطيرة باعتباره جزءًا لا يتجزأ من شخصيتها، عليها أن تدعمه وتقيمه على أسس راسخة مضيئة، وتنقيه من الخرافات، وتصونه من الانحرافات، وتسمو به إلى الدرجات العليا من الصفاء والنقاء، الإيمان رسالتها الذاتية فى وطنها الذى كان أول وطن يُدعى فيه إلى عبادة الواحد الأحد منذ عهد إخناتون، وطنها الذى كان بعد ذلك مهد الرسالات السماوية، وميدان جهاد الأنبياء والمرسلين. فرسالتها هى رسالة الحب والإخاء لجميع عباد الله، لا نفرق فى ذلك بين أغلبية وأقلية، ولا تعيش فيها الأقلية بفضل حماية الأغلبية وتسامحها ولكن بصفتهم أعضاء متساوين فى الحقوق والواجبات فى وطن مقدس واحد، وحّد أهله حب الأرض والشوق إلى ذى الجلال، جميعهم مواطنون مؤمنون من درجة واحدة، لا تمييز بينهم إلا بالكفاءة والخلق.

والدرس المستخلص هوالانتفاع الذكى من العلم على جميع المستويات، القيادة السياسية تعمل بتخطيط منهجى دقيق غزت به حصونًا منيعة كانت تقف حتى الأمس القريب مع العدو، وألفت بين قلوب عربية شتتها نزاع هوائى فتحقق إنجاز مهّد الأرض لمعركة المصير التى شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء بقوة تكتيكاتها والكفاءة العسكرية العملية التى أهّلتها لمعركة عصرية معقدة، الجنود لم يهجموا ويصمدوا بقوة الإرادة والروح ولكن باستيعاب للأسلحة الحديثة، لا نجاح فى حرب أو سلم بغير العلم، إنه الباب الذى لا دخول إلى العصر إلا من خلاله.
«الآداب» البيروتية 1973

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة