قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل
قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل


«سيناء… عتبات الجنة101 » 1 قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل

صفوت ناصف

الخميس، 26 أكتوبر 2023 - 08:33 م

إهــــــــداء

إلى المصريات ..

الأم التي تدعوا لفلذة كبدها بالحياة الأبدية وهى تعلم الحقيقة!

.. الزوجة التي تحمل جنينا لن يرى والده أبدا وتتحول  رجلا (!)

الابنة التي ترفع رأسها فخرا لذكرى والدها…

من أجل الوطن ...

 

«الفرح…»

 

تتعالى أصوات خطواتها المتسارعة .. بين المطبخ وشباك غرفتها في لهفة يكاد يختفي منها القليل، وبعناء تجتهد الجميلة فاطمة في الابتعاد عن نظرات خالها المراقب لها من وراء جريدته الصديقة له والملازمة له ما دام قابع على كرسيه المميز بالمفرش الصوف المصنوع منذ أكثر من عشرين عاما على يد رفيقة عمره ووحيدته عزيزة تلك الممشوقة الفارعة البارعة الجمال ذات العينين الزرقاوتين ابنة المنصورة الوافدة مع زوجها وصديق عمرها إلى القاهرة ليعيشا سوياً مع فاطمة التي أبت مغادرة منزلها أو موطنها كما تناديه في أشعارها الحزينة المليئة بالرثاء على والديها وأخيها التي افتقدتهم في حادث .. تقذفه بعيدا عن مخيلتها ويرتد إليها بنفس السرعة والقوة ليبقى مشهداً حزيناً يشكل خلفية دائمة لكل صورة تذهب إليها عينيها الزرقاوتين الشاحبتين بالحمرة القديمة .

 

ما زالت تتحرك ببطء من المطبخ وتعاندها قطع الأثاث التي تقف في مسار خطواتها المضطربة تعاندها إلا من كشف توترها بين الحين والآخر وتعطى مساحة زمنية مناسبة تسمح لخالها باختلاس نظرات سريعة تسجل ملامح بطه من الداخل حتى تقطع تلك الاختلاسات زوجته عزيزة وتقول بحنو الأم وذكاء المرأة ..

 

" كفاية يا بنتى دوختينا معاكى .. يوسف زمانه جاى مع أبوه بالبدلة الميرى " يقاطعها متحمسا للاشتباك في الحديث واقتناص فرحته لاصطياد ابنته بطه وهى فريسة العشق ..

" مين يوسف ؟! وايه البدلة ديه ؟! .. ووو

تتبرأ فاطمة لتحسم تلك الموقعة لصالحها :

- أيوه يا أبو خليل ده الضابط يوسف جارنا وحق الجار علينا نفرح له .. وتنظر بعين مليئة بالخبث والدهاء وهى تعدو صالة منزلها الضيقة إلى خالها ممسكة بكلتا يداها بكلثومية في عتاب رقيق .. وهو ليضمها إلى صدره مخفياً داخل حضنه الدافئ خجل عروسته بطه مرسلاً إليها برسائل تهدئه وطمأنينه من خلال يديها الحانيتين المفرودتين بكرم المودة ليربت على كتف بطه وهى تغوص في حضنه تبحث عن حنان أبيها الراحل علها قد وجدته مع خالها أبو خليل كما يحلو لها أن تناديه .

وتنظر إليهما في ود يخلو من الغيرة عزيزة رافعة عينيها إلى السماء ممسكة بصدرها بكلتا راحتيها تتمتم : " يا رب فرحنا " .

 

في الشارع يأج الطريق ويفيض الرصيف بالفرحانين من الأهل والجيران بقدوم عريسهم الضابط يوسف اليوم هو أول يوم تخرجه في الكلية الحربية، هذا الشاب المحبوب من كل شبر من أرض شارعه وتلقى أم حبيب بكامل جسدها من الشباك المتهالك تشير إلى الثالوث صلاة للرب وتدعى لصديق ابنها بحماية الرب له ..

 

 وينادى عليها من وسط الجمع حبيب صارخاً وواضعاً يده أعلى فاه من وسط الجمع ليوجه صوته لأمه فقط ..: "  يا ماما احدفي الورد والميه المصليه لحسن حد يحسد يوسف .. بسرعة .. بسرعة يا ماما .." .

 

ويجرى عم جمال صاحب محل البقالة الذي فتح عليه الله من وسع بعد سفر ابنه وليد للخليج ومراسلته لوالده بتحويلاته لمعظم راتبه الشهرى ليستثمره في دكانه الكبير الفارغ ويحوله إلى سوبر ماركت .. ويفتتح عم جمال معلبات العصائر لكل المجاميع الذين يشكلون حشداً مبالغاً فيه داخل الصورة حتى أن صاحب الفرح لم تعد بطه تراه وتكتفي بتمتمات تدعوا بها على المحيطين حولها لاعاقتهم رؤيتها المباشرة له .

 

ومن بعيد تتستر خلف وشاحها مخفية شفتاها التي تدعو وتتلعثم في قراءة القرآن وتبحث في ذاكرتها عن باقى آيات المعوذتين التائهتين عنها في صدمة الفرحة وفزع الحسد .. أم يوسف تقف لا تحملها قدماها تتكئ على أخته نورا أمام البوابة الحديدية ممسكة باللفائف المشكلة من الحديد المطعم بالصاج المزركش والمدهب حديثاً استعداداً لقدوم العريس يوم تخرجه، حيث اتفق الوالد بإيعاز من أم يوسف كل نصيبه في الجمعية التي نظمتها منذ ستة أشهر لهذه المناسبة لتغيير الباب الخشبى للمنزل إلى باب حديد جديد ودهان مدخل المنزل واثارته وزراعة شجرتين يمين ويسار مدخل المنزل مدهونتين بما يتبقى من ألوان علم مصر المميزة لسور السلم .

 

تطلق أم يوسف يديها متخللة الرسومات الزخرفية الحديدية ملوحة بشدة في الهواء منادية بصوت رخيم: "يوسف .. حضرة الضابط يوسف" راجيه أن تحمل تلويحاتها موجات صوتها الضعيف الخافت إلى آخر الشارع ليسمعها صغيرها الذي لم يعد كذلك .

هى حتى الآن لم تلحظ البذلة عيناها تشتاق ولا ترى لامتلائها بالدموع ولبعد المسافة عن هذه العجوز .. فتغمض عيناها حتى ترى صغيرها كما حلمت به وبالهيئة التي زارها بها كثيراً في منامها .

 

تتشابك جفونها تحرس صورة وليدها حتى لا يراه غيرها وكأنه ما زال في رحمها وما زالت مخيلتها حبلى بحلم الضابط وكأنه في مرحلة الولوج .. هو حقيقة إنما هى لم تصدقها بعد .. تتعاقب مراحل عمره منذ ولادته رضيعاً .. طفلاً .. مراهقاً .. شاباً فارتاحت إلى أن تفتح عيناها كطلق الولادة لترى حملها أمامها حقيقة .. إلا وتجد حضناً حانياً وصوتاً باكياً ويدين تحيط بكامل ظهرها تشد عليها وتشد فيه حتى اشتبكتا من جديد .. لم تفتح عينيها بعد ..

 

إلا أن يوسف أخذ يقبل يدها وهي كذلك وتتعالى الزغاريد من أفواه متناغمة متنافسة في اللحن والطول والقوة والنعومة والمجاملة أيضاً هن نساء الشارع الحبيبات لأم يوسف يقومن برد الجميل والوفاء بالواجب، تجذبه أمه إلى أعلى تحت إبطها تخفيه من أعين الناس .. كادت أن تصطدم بجدار السلم هى لا ترى ولا تعي إلا بهذا الجزء منها هذا الضابط .. تجره إلى أعلى .. هو يقول : " بالراحة يا أمى .. حاضر .. طالع .. حاضر .. على مهلك .. خليكى ورايا يا نورا .. امسكى ماما وتتوافد المجاملات عن الجيران على المنزل وتعلوا أصوات الغناء من النوافذ لمشاهير الأغانى الموافقة للمناسبة ويشرع عم أحمد بفرش الشارع بصوان كبير تمهيدا تقديم واجب غذاء مجاملة منه لوالد الضابط يوسف .

 

وما أن ترى بطه هذا الصوان العظيم وقيام العم أحمد بذبح عجل حنيذ على عتبة منزل الحاج أبو يوسف كقربان تقرب وعربون مودة .. إلا وتغتاظ روافدها وتأبى أن تسحب الدماء المنسكبة إلى وجهها الملتهب احمراراً حتى تنفث دخانها الساخن في الهواء فلا حقتها أمها معاتبة: " هو فيه ايه لده كله .. ليه يا بنتى بالراحة على نفسك .. استغفرى ربك .

 

بطه : يا ماما لو بابا كان عايش مش هو اللى كان دبح وجامل الحاج أبو يوسف .

عزيزة: اشمعنا يعنى ما كل الناس جاملوه واحنا كمان ما معانا يا بنتى صناديق العصير لبيت خالتك أم يوسف .

بطه: لاء .. هو عم أحمد مهتم وهو الوحيد اللى قدم أكيد هدية وأكيد مجاملة لعم أبو يوسف علشان بنته حوريه طبعا .

عزيزة: يا بنتى كل شئ نصيب .. ما حدش عارف بكره فيه ايه !

بطه : يوووه .. أنا دايما كده ماليش نصيب .

عزيزة : ربنا يجعله من نصيبك ان شاء الله .. اجرى وبشرى الصابرين يا عروسة.

بطه: (متهكمة) عروسة .. ها .. هى مين بقى العروسة دية ؟ مبروك عليكى يا حورية حضرة الضاط…(؟) اوف…(!)

يتبع..

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة