الكاتبة نهى الرميسي
الكاتبة نهى الرميسي


«غصن الزيتون لا شرقي ولا غربي» قصة قصيرة للكاتبة نهى الرميسي

صفوت ناصف

الأربعاء، 22 نوفمبر 2023 - 08:17 م

 

أعرفكم بنفسي: أنا ابن الشوارع، بل ابن للأزقة والحارات، أنا لست ممن يجلسون بجوار مدفأة الشتاء، ولست ممن ينعمون بالنسائم في قيظ الصيف.

أنا أطعم من بقايا الناس، من النفايات التي تملأ الخرابات، وتعلمون كم هي كثيرة في موطني.

يؤسفني أيضا أن أؤذى مسامعكم لأخبركم بأنني كثيرا ما أصاب بالجرب، ولكنني أشفي بفضل أشعة الشمس القاتلة.

سوف تسألونني إذن متى وأين التقيت به؟

الحكاية يا سادة: أنه رآني ذات يوم وأنا أقفز وأتواثب بين الأرصفة ومكبات القمامة فتتبعني بنظره _وهذا ما عرفته منه بعد ذلك _

نعم جذبه إلى شيء ما، لا أعلمه ولا هو يعلمه، قال إنه ظل يتابعني بناظريه حتى صدمتني سيارة مسرعة هوجاء، بينما كنت أتسكع في عرض الشارع، وبالطبع لم يعيرني صاحب السيارة أدنى انتباه ...بينما هو انتبه لي، أقال عثرتي وربط رجلي بعدما اطمأن أن ليست هناك إصابات أخرى.

كيف اطمأن إلىّ رغم مظهري المقزز؟ لست أدرى

كيف لم يخش على نفسه شر العدوى أو الجرب؟ لست أدرى

أخذني معه، لم يكن حاله أفضل كثيرا من حالي؛ فهو يقيم في خيمة إيواء

ليس من محتواها سرير أو كرسي كالذي تعرفونه، ولا من بينها حتى فرشا وأغطية، بل إن أنفس محتوياتها هو ذاك المذياع المتهالك الذى يربطه بأستك مطاطى، ويكيل له الضربات كلما أراد له أن ينطق، فإذا نطق جاءه بما لم يرد وأعلن عليه ما لا يسره ولا يرضيه.

كم استمعنا سويا لنشرات الأخبار التي تبثها إذاعتنا والإذاعات الأخرى،

تعلمت منه الكثير فكان يسمع ويحدثنى معلقا على ما سمع وكأني أفهم ما يقول، لا أنكر أنني في بداية الأمر حسبته مجنونا أو مختلا، ولكن سرعان ما قامت بيننا صداقة اعتاد هو فيها أن يتحدث إلى، وعودني الشغف بعلمه لأستزيد.

علمني أن الدنيا ليست بلدتنا هذه؛ التي أدرك شوارعها وأزقتها ومجاهلها، بل أعلم عدد الحفر وأكوام الركام في كل ركن فيها.

قال لي إن القمامة هناك خلف الشريط الأخضر مليئة بالخيرات، حدثني عن تلك الخيرات، فعلمت أن هناك ما يدعى (الهوت دوج فضلا عن البرجر، والبيتزا، والسوسيس) ولكنى أصدقكم القول: كنت كلما أشعر بالجوع يسيل لعابي لتلك الأطعمة الشهية، وتمنيت الذهاب إلى هناك لأطعم وأشبع.

حدثني عن أشياء جعلتني أجبن وأخاف؛ أنا الذي لا أخشى شيئا في هذه الحياة، فلطالما أفزعني بالكلام عن: قنابل ذكية، وأخرى عنقودية، وفوقها تلك الذرية، وغيرها أسلحة بيولوجية، وطائرات مارقة مخفية، وصواريخ عابرة للقارات؛ ولكنها غير مدوية، وسفائن، وزوارق، وحاملات طائرات، وغواصات نووية، وغيرها الكثير من الأسلحة النارية.

حدثني أنه رأى الخنجر المسموم في يد صاحب القضية، وسألني: ترى في ظهر من يغرس خنجره؟ أفزعني صراخه وهو يجيب، يغرس خنجره المسموم في ظهر أنصاره، واستطرد قائلا: لقد صنع أجداده الخنجر ليصيب قلب الأعداء في المواجهة، لكنه طوره ليصيب الأصدقاء من الخلف.. ثم يعلو صوته مرة أخرى صائحا متحدثا بسرعة لا أكاد ألاحقها قائلا:

نعم لابد وأن يطوره ليساير تيار التقدم التقني الجارف، كم يد قصيرة امتدت لتشارك في هذا التطوير المذهل، لكنه حرص على الخنجر حرصه على الهوية فهو لديه رمز الانتماء، وقد طلاه بكل ما أصاب من ومضات الغزو الفكري الجبار .

ثم جلس وقال بلهجة ملؤها الأسى شممت فيها رائحة البكاء:

يا له من رجل عبقري العقيدة والرجاء.

كثيرا ما كان يحلم ويصحو ليحدثني عن حلمه، كان يحلم في كل يوم ألف حلم وحلم، إلا حلما واحدا لم يأته أبدا ...تمنى لو يراه، أتاه صلاح الدين وأتاه صقر قريش بل أتاه الأنبياء في حلمه تترى، لكن حلما واحدا لم يأته أبدا!! تمنى لو يراه.

وفي صباح أحد الأيام وجدته ينهض من نومه ويقف خلف شق في جدار الخيمة، يرقب حال الجو.

لم يكن الجو صحوا أو مشمسا ولم يكن الجو غائما أو ممطرا، وإنما كان الجو ملونا بلون أحزانه، يحمل ما يحمله من غبار معتق الأنفاس، لم تكن هناك شمس ولا قمر ولا حتى نجوم، ولكن كانت تتنزل هناك الحمم والبراكين من السماء على رؤوس الأنام .

لم يسمع للرعد صوتا ولم ير للبرق خطفا، إنما سمع أزيز اللهيب، لفحت النيران وجهه وكست الأدخنة عيناه.

لم يدر سببا منطقيا لما أصابه، لم يدر سببا لهذا الحزن الأسود الذي أطل من عينيه، ماذا عساه أن يكون الأمر؟

مات الأحبة والصحاب؟

ماذا بعد؟

ماهي القضية؟

أتت الحرب في بلاده على الأخضر واليابس فأصبح بلا مأوى ولا وطن؟ وماذا في هذا؟

أذاقه العدو الغاصب مرارة الذل والتسول والهوان؟

وأيضا ما الجديد؟ أين القضية؟

القضية يا قوم، أنه لم تعد لديه قضية، كل الحوادث هانت لديه فما عادت تجدى الثورة وردود الأفعال.

كل ما أصبح لديه هو أن يتكور حول نفسه داخل دوامات الكآبة واليأس.

داعبني بعض الأمل حين وجدته يتمتم ببضع كلمات

آه كم اشتقت لسماع صوته الذي اعتدت عليه حتى لو كان مكبلا بالهموم والأحزان.

وأخيرا علت شفاهه ابتسامة ممزوجة بالحسرة والألم، وهمس في نشوة شجية رقراقة:

جاءتني البشارة من خلفي.. رزقت بمنصور، نعم منصور العاشر، وما الفائدة لقد ضاع قبله خمسة من المنصورين فداء للقضية.

هذه الكلمات الهادئة لم أكن أدر أن العاصفة خلفها، فلقد صرخ مستطردا كالإعصار الهادر: نعم خمسة منصورين، ولدوا خلف حجر، وماتوا وفي يدهم حجر، كم قذفوا بقلبي صوب الجندي المتدرع بأصوات اللوبي المتربص في حلق العدل .

كم مرة أصابوا الجندي بقلبي

وكم مرة رد عليهم بالعوزى

ظل على حالته هذه وهو إما شاخصا في الأفق أو زائغ العينين مسترسلا في خواطره الهائجة، الهادئة، البائسة.

وفجأة وقبل أن يرتد إلى طرفي، رأيت أعمدة الخيمة تتساقط فوقنا،

ورأيته وهو يتقيها بيديه ويصرخ.

داهمنا الجنود على الفور يجرونه من بين أنقاض الخيمة،

سحبوه بعيدا بينما تداعبه أرجلهم ركلا وكعوب البنادق دكا وسحقا.

نظرت أمامي فوجدتهم قد اقتلعوا شجرة الزيتون التي طالما رأيتها بجوار الخيمة، أمسكت بقشة من بقاياها وجريت خلفهم علهم يلتفتون إلى أو ينتبهون إلى مرادي في السلام.

وحين اكتشفت حمقى تركت القشة على الفور وأطلقت صيحات عالية.

فالتفت أحدهم إلى ورمقني بنظرة، بينما جذبه زميله مستهزئا:

ماذا بك؟ هيا بنا.. إنه مجرد كلب ينبح.

      

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة