الدكتور فراج أبو الليل
الدكتور فراج أبو الليل


«أيام خشبية» قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبو الليل

صفوت ناصف

الجمعة، 16 فبراير 2024 - 03:00 م

قبَّل يد والدته ، توسل إليها أن تسامحه ، نظر للبرواز ذواللون الأزرق المعلق علي أحد جدران الغرفة ، انتفض من الخوف، ثم فاضت روحه إلى خالقها .. كانت لحظة خانقة .. لم تستطع الأم الصراخ ولا البكاء، الصدمة ألجمت فمها، نظرت بيعينيها الذابلتين تبحث عن سند في تلك الحجرة، لم تشاهد إلا الحجارة التي تغير لونها الأبيض للأسود المتسخ، سمعت صرخات زوجته التي شجت ثوبها من الألم، لم تدر أمه بنفسها ويدها تصفع زوجته بقوة .. وخرجت صرخة مكتومة عالية "قتلتيه بأنانيتك".. سقطت زوجة ابنها علي الأرض، ارتطم جسدها النحيف بالتراب بلا صوت كأنها ريشة ضئيلة بلا وزن يذكر، ثم خيم الصمت القاتم.

كان يوماً حاراً من أيام برموده حيث حصاد القمح، ترك ثابت الغيط والعمال تحمل السنابل الصفراء إلي جرن القمح وهرول للمنزل .. ينغز حماره بعصاه حتي يسرع .. وصل لبيته الحجري ذو الدورين، سقفه الخشبي تلون باللون البني المحروق، تعود أن ينظر إلي قرني الخروف المحنطة والمعلقة علي باب بيته الخشبي أيضاً، كل شئ في ذلك البيت صنع من الخشب والحجارة والجص، تحول ساكنيه أيضاً إلي أشجار خشبية ذات ألوان غامقة، ذهب اللون الأخضر تدريجياً، كنت كلما مررت بتلك الدار، أجده ووالدته "سكينة" يجلسان علي دكة خشبية من شجر السنط الأحمر، أسمع صوت قرقعة الشيشة ذات القلب المصنوع من ثمار جوز الهند، كان سعال أمه يغطي علي صوت الدخان أحياناً، ألقى السلام عليهما، لا تسمع منهما سوي صوتاً خافتاً وواهناً أو ميتاً مثليهما، أحياناً أتوقف مدعياً بأن شيئاً سقط مني حتي أشاهدهما عن قرب، لقد تقاسما التجاعيد والشعر الأبيض والسكون حتي اسميهما، ساكن وثابت لا يتغير، حتي بعدما ترك العمل في أبعدية الباشا، لم يدخلا في  دائرة أصحاب الحظوة الذين حصلوا علي خمسة أفدنة زراعية، ظلا منبوذان خارج  الدائرة، سرق الصمت منهما سنوات العمر، ظل جسده الهزيل يعافر في أراضي الغير، كأنه والفقر توأمان ملتصقان، لا ينفصلنا إلا بموت إحداهما.

اقرأ أيضا|الإحصاء: 88.863 ألف دولار صادرات مصر من الأحجار الكريمة

مرة واحدة فقط التي قالا لي تفضل أشرب شربات الورد الأحمر، تحول لون بيتهما للأبيض والأصفر الفاقع، كانت الضحكات عالية والطبل والمزمار الصعيدي يصدح في فناء الدار، كأني أشاهد الدار للمرة الأولى، خضار الزرع وأشجار النخيل العالية تحيط بالمنزل الحجري، تزينت طيور البط وهي تسبح في الترعة التي أمامه، شاهدت مدي جماله وسط البساط الخضر مسترخي بين أحضان شريط من نهر النيل الفائض، لكن أفراح الحياة لا تدوم طويلاً .. ذهبت معه .. ذهبت بحسرة وبلا رجعة، كانت الصرخات تعلو في الفضاء كئيبة وميتة .. فقد مات طفله الوحيد .. هكذا عادت الدار للون الأسود والصمت، لم تمر أيام علي الهزيمة، ثم تكور "ثابت" علي سريرمن جريد النخيل، مريضاً ووحيداً، حاولت زوجته أن تخفف عنه،  حاولت أن  تنجب له الولد، حتي يصلب عوده المحني، حتي يمحو طعم الهزيمة من فمه الجاف، قالها بصوت مهزوم كنت أختبئ من عيون الناس، كنت أخاف من الشجار مع من يسرق قمح الأرض، كنت انحني مقوساً ظهري للأسفل بلا سبب، تعودت علي النظر للأسفل حيث الأرض، ليس ضعفاً بل لأن الأرض هي الباقية، كتمت أمه دموعها الحبيسة بين جدان الفضاء القاتم .. مات ابنها الوحيد .. تركها كجزع شجرة مقطوعة، شجت جلبابها الأسمر، صرخت وثارت  "سكينة" ..  جرت داخل الدائرة لا تدري أن تذهب..  تكلمت بصوت عالي، صعدت كلماتها الغاضبة، فهزت تلك الأشجار الخشبية فى قلب المدينة الصامتة، جعلت نبضات ذلك القلب يتسارع غاضباً هو الآخر، خرجت يد زرقاء من البرواز المعلق فى غرفته .. دفعتها بظهر بندقية قديمة.. غرقت في الترعة التي أمام البيت، فعاد ظلام الصمت مرة آخري، يجري وراء الشمس بعصاه الغليظة.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة