د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد


الموقف السياسى

قوت المصريين.. وقوتهم

د. أسامة السعيد

السبت، 25 مايو 2024 - 07:00 م

من حقنا أن نحلم.. بل من واجبنا أن نحلم بغد أفضل، لكن ذلك الغد لن يأتى وحده، بل علينا أن نعمل من أجله اليوم، وما رأيناه خلال أقل من أسبوعين فى مشروع «مستقبل مصر»، وفى «توشكى الخير» ليس سوى جزء بسيط من حلم كبير.

قد يكون الفارق فى اللغة بين كلمة «قوت» التى تعنى الأرزاق والمقدرات الضرورية، وبين كلمة «قوة» التى تعنى القدرة على الفعل وتوفير الحماية، أن الأولى بتاء مفتوحة، بينما الثانية بتاء مربوطة، بينما فى الواقع العملى، لا أعتقد أن ثمة فارقًا بين المفهومين، فالقوت لازم للقوة، والقوة ضرورية لتوفير قوت الناس.

وقديمًا قالوا «من لا يملك قوته.. لا يملك قراره»، وهى مقولة أثبت التاريخ والواقع صدقها الكامل، بل كان التأثير على قوت الناس أحد أسباب النيل من قوة الدول والعبث بمقدرات الشعوب.

من هنا تأتى أهمية الهدف الاستراتيجى التى وضعته «الجمهورية الجديدة» بإعادة بناء القوة الشاملة للدولة، دون إغفال لبعد، أو تغليب لجانب على حساب آخر.

كان البعد الاقتصادى، وتوفير احتياجات المواطنين أحد أبرز التحديات التى واجهت الدولة المصرية على مدى قرون طويلة، في ظل معادلة صعبة بين موارد محدودة فى الأرض الصالحة للزراعة، فى بلد يعيش أهله منذ آلاف السنين على أقل من 7% من مساحة أرض صحراوية مترامية الأطراف، وحصة محددة من المياه تحكمها اتفاقات تاريخية، فى مقابل ثروة بشرية كبيرة، ومعدل نمو متسارع، يتجاوز أدوات السيطرة.

وللأسف حتى تلك الرقعة الزراعية الصالحة للزراعة لم تكن ثابتة، بل كانت لعقود متوالية عُرضة للتناقص بفعل البناء العشوائى والتوسع غير المخطط للكتلة السكنية، وسط ضعف لأدوات المواجهة من جانب الدولة، وعدم القدرة على تقديم البديل المناسب لاستيعاب حركة النمو العمرانى، فضلًا عن غياب الأدوات التمويلية لإحداث طفرة حقيقية فى قدراتنا الإنتاجية لسد الفجوة بين احتياجات المجتمع، وبين ما ننتجه من غذاء، إذ بلغت الفجوة - وفق بعض التقارير الرسمية

ما يزيد على 60 % من احتياجاتنا الغذائية، نستوردها سنويًا من الخارج، وفى مقدمتها أهم سلعة استراتيجية فى حياة المصريين وهى القمح، الذى يُصنع منه «العيش» الذى يعنى في قاموس المصريين «الحياة».

وهنا تتجلى -فى مواجهة هذا التحدى- قيمة الإرادة، وأيضًا القدرة على الإدارة، وهما مفتاحان ضروريان لمواجهة أى تحديات، فالإرادة السياسية التى عبر عنها الرئيس عبد الفتاح السيسى مع توليه المسئولية عام 2014 بأن يتم توفير كل ما تحتاجه الدولة لبناء قوتها الشاملة، وفى المقدمة منها امتلاك المصريين لقوتِهم، حتى يصنعوا قوتَهم.

■ ■ ■

وأتوقف هنا عند مجموعة من الأرقام التى يجب أن تحظى بأعلى قدر من الإبراز والانتباه، والتى تم عرضها أمس خلال الاحتفال المبهج بحصاد سنابل الخير من توشكى الخير ومجموعة من المواقع التى صارت - بسواعد الرجال- جنانًا خضراء، بعدما كانت صحراء قاحلة.

توقفت طويلًا أمام الرقم المتعلق بحجم المساحة المزروعة فى توشكى، والتى لم تزد على 400 (أربعمائة) فدان فى عام 2017، بينما بلغت فى يناير من العام الجارى 420 ألف (أربعمائة وعشرين ألف) فدان، والأرقام هنا صحيحة ولا أخطاء طباعية فيها، نعم قبل 7 سنوات كانت المساحة لا تتجاوز فى تلك المنطقة بضعة مئات من الأفدنة، فإذا بها تصل اليوم لمساحة تتجاوز رقعة محافظات كاملة.

دلالة الرقم هنا لا تكمن فى تلك المفارقة العددية، بل فى حجم الجهد الذى بُذل حتى نحقق تلك النقلة، استثمارات ضُخت، وأفكار طُرحت، وأيادٍ عملت، وآلات حُشدت، وطاقات استثمرت، حتى يتحقق ذلك الحلم، الذى ظنه البعض مستحيلاً، لكن المستحيل لم يكن يومًا مصريًا.

وهنا أستعيد كلمة للرئيس عبد الفتاح السيسى، فى مناسبة سابقة حول مشروع توشكى، عندما قال إن «المشكلة لم تكن فى الرؤية أو التخطيط، وإنما فى عدم القدرة على التنفيذ»، وهذا يعنى أن الإرادة، تحتاج بالضرورة إلى إدارة كى تنتقل من خانة النية والعزم، إلى مربع الفعل والواقع.

من أجل إعادة إحياء مشروع توشكى، بعد سنوات من الإهمال والنسيان، كان على الدولة أن تستخدم 8 آلاف طن من المتفجرات لتحطيم جدار هائل من الجرانيت وضعته الطبيعة حائلاً دون وصول المياه إلى ملايين الأفدنة القابلة للاستصلاح الزراعى، لكن عزم الرجال وصدق الإرادة حطم الموانع، وزرع الأمل والحياة فى قلب الصحراء الجرداء.

وبعد ذلك كان لابد من توفير استثمارات ضخمة لتحويل الرمال الصفراء إلى بساتين خضراء، وهى تكلفة كبيرة، وفى مدة زمنية قصيرة، فما بناه المصريون فى آلاف السنين فى الوادى والدلتا علينا أن نضاعفه فى سنوات معدودة، ليس فقط لمجابهة تحديات الواقع المتراكمة، بل استجابة لسؤال المستقبل فى دولة من المتوقع أن يتجاوز تعدادها بعد نحو ربع قرن 180 مليون نسمة.

أضافت الدولة خلال العقد الماضى نحو مليونى فدان إلى الرقعة الزراعية، وواجهت محدودية المياه بأساليب جديدة لإعادة التدوير، للاستفادة من كل قطرة مياه فى زراعة وحياة جديدة تضيف لمقدرات المصريين، وتضاعف قدرتهم على مواجهة تحديات بالغة التعقيد والتطور وبخاصة على المستويين الإقليمى والدولى، فما يجرى خارج الحدود، لم يعد شأنًا خارجيًا، بل صار - حرفيًا - يمس رغيف العيش ويتدخل فى حياتنا اليومية.

■ ■ ■

كان على الدولة أن تتبع «استراتيجية المسارات المتوازية»، فى مواجهة التحديات والمهددات الداخلية والخارجية على حد سواء، عبر بناء قدرات اقتصادية قادرة على مواجهة ضغوط تفرضها السوق العالمية وتذبذباتها اللامتناهية، وبين أزمات إقليمية تضاعف فاتورة المواجهة، وتضعنا أمام خيارات لا تقبل القسمة على اثنين، وبين تحولات دولية صارت أقرب إلى العواصف الهوجاء لا يمكن لأحد أن يستقرئ مساراتها ومآلاتها.

ولم تكن العبارة التى لخص بها الرئيس السيسى حديثه بالأمس، وهو يؤكد على ضرورة بذل المزيد من الجهد والعمل والإبداع فى مواجهة التحديات، والتى شدد فيها على أن «الدول تُدار بالجدية والمسئولية والفهم» سوى تجسيد لعدة حقائق يدركها المصريون عن أداء الدولة فى السنوات العشر الأخيرة، فقدرة الدولة على مواجهة التحديات على عدة جبهات لم تكن - ولن تكون أبدًا - بالأمر الهين، فقد واجهنا إرهابًا يحاول أن ينال من إرادة وتماسك المصريين، دون أن تفقد الدولة بوصلتها نحو الإصلاح والتحديث، وفى ظل بيئة إقليمية ودولية مضطربة، واشتعال للأزمات على المحاور الاستراتيجية للدولة فى اتجاهاتها الأربع.

كل ذلك فرض على الدولة المصرية قرارات صعبة، كانت بمثابة «العلاج» بديلاً عن المسكنات التى قد تهدئ الوجع، لكنها حتمًا ستؤدى إلى تفاقم المرض، ومن هنا كان الانحياز دائمًا للأصلح مهما بدا صعبًا أو قاسيًا، ومن هنا أيضًا تأتى أهمية المكاشفة والمصارحة بحقائق الأمور.

ومن الحقائق القاسية أن تعداد السكان فى مصر زاد بنحو 25 مليون نسمة خلال السنوات الـ13 الأخيرة، وهو رقم يتجاوز أضعاف تعداد سكان دول كاملة فى إقليمنا، هذه الزيادة تحتاج إلى موارد هائلة لتقديم الحد الأدنى من الخدمات (المسكن والملبس والمأكل) فما بالنا إذا أردنا الحديث عن جودة تلك الخدمات.
وصحيح أن الحكمة الصينية تقول: إن كل فم يولد له يدان تعملان، لكن تلك اليدين بحاجة إلى من يغذيها ويربيها ويعلمها ويوفر لها المأوى المناسب والتعليم الجيد حتى تستطيع أن تعمل.

والصين نفسها صاحبة أكبر تجربة نمو فى العقود الخمسة الأخيرة، لم تستطع أن تحقق ما وصلت إليه إلا باتباع سياسات سكانية صارمة، لتحجيم النمو السكانى فى مقابل النمو الاقتصادى.

وهنا تكمن الرسالة التى يجب أن نعيها جيدًا، فالمسئولية والجدية والفهم، لا تقتصر فقط على مؤسسات الدولة، بل يجب أن تمتد كذلك للمجتمع باختلاف مؤسساته، ولكل مواطن، أفرادًا وجماعات، فلا يمكن أن نتبع نفس الأساليب القديمة التى أدت إلى ما عشناه على مدى عقود من مشكلات وتحديات، ثم ننتظر أن تتغير الأحوال إلى الأفضل، فلا يمكن أن تستمر المفاهيم القديمة المتعلقة بالنمو السكانى والتعليم والاعتماد على مؤسسات الدولة فى توفير مختلف الاحتياجات، ثم نطالب بأن نكون مثل الصين أو كوريا الجنوبية أو سنغافورة، فتجربة هذه الدول لم تقتصر على ما تقوم به مؤسسات الدولة، بل واكبها أداء منسجم لا يقل أهمية، من جانب المجتمع.

من حقنا أن نحلم.. بل من واجبنا أن نحلم بغدٍ أفضل، لكن ذلك الغد لن يأتى وحده، بل علينا أن نعمل من أجله اليوم، وما رأيناه خلال أقل من أسبوعين فى مشروع «مستقبل مصر»، وفى «توشكى الخير» ليس سوى جزء بسيط من حلم كبير لتوفير قوت المصريين كى يمتلكوا قوتهم، وهذا الحلم يستحق أن نبذل من أجله كل ما نستطيع من جهد وصبر وتماسك، بإرادة صلبة وإدارة علمية واعية، فبهذا تُبنى الأوطان، وتتحقق الأحلام.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 

 

 
 
 
 
 

مشاركة