يوميات عقيمة: كيف يسرد رجلٌ حكايةً نسوية!
يوميات عقيمة: كيف يسرد رجلٌ حكايةً نسوية!


يوميات عقيمة: كيف يسرد رجلٌ حكايةً نسوية!

أخبار الأدب

الإثنين، 24 يونيو 2024 - 02:49 م

د. أحمد هاشم

لم يأنس منير الحايك، الكاتب اللبنانى المعروف، مذ عرفته من ثلاثين عاماً، ما قلّت خشونته من مواضيع الاضطرابات الاجتماعية، ضيق الحياة وشّدة الأزمات الوطنية ، بل اختار منها ما عسُر حلّها، فتجلّت كتاباته، أصالةً فى مقاربة جديدة للقيم، ركناها: حرية التفكير والإضافة.

يعود منير الحايك برواية جديدة بعنوان «يوميات عقيمة» صادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون فى بيروت 2023. هذه الرواية، التى تمزج بين التجربة الشخصية والتحليل الاجتماعى، تقدم نظرة عميقة على موضوعات المرأة والأسرة والمجتمع فى العالم العربى.

الشخصية الرئيسية: فاطمة وقصة الأمومة
فى «يوميات عقيمة»، نتعرف على فاطمة، الفتاة الريفية اللبنانية التى تعيش تحولات حياتية كبيرة بين قريتها الصغيرة وزواجها من حسان، الأرمل الخمسينى، والانتقال إلى كندا. استطاع الحايك من خلال شخصية فاطمة أن يخلق مداراً للتأمل، مداراً للمناقشة، فاستخدم تقنية الاسترجاع بمهارة ليأخذنا عبر مراحل مختلفة من حياة فاطمة: من مراهقتها إلى شبابها ثم إلى حياتها كزوجة وأم. هذه التقنية تساعد فى بناء عمق شخصيتها وفهم الدوافع التى تقودها.

فاطمة تجسد صراع المرأة مع قضايا الإنجاب والأمومة فى بيئة تكتنز حقيقةً ألا وهى أن التسامح ينطوى على نقيضه وهو عدم التسامح، وهنا تقع المفارقات وما تنطوى عليه من تجاذبات فى هوية المجتمع. الرواية تسلط الضوء على معاناتها النفسية والجسدية خلال عملية طفل الأنبوب، مما يعكس تجربة الحايك الشخصية مع هذه العملية. الحايك يعرض التفاصيل بشكل حساس، مما يجعل القارئ يشعر بمعاناة فاطمة وكأنها جزء من حياته الخاصة.

القضايا الأخلاقية والدينية: التبرع بالبويضات والنطف
الرواية تتناول موضوعات أخلاقية ودينية معقدة، تعقيدات، أبرز جوانب أضرارها أنها جعلت الإنسان الأكثر بؤسًا بين الكائنات الحية، وخاصة تلك المتعلقة بعمليات التلقيح الصناعى والتبرع بالبويضات والنطف. الحايك يقدم هذه القضايا فى سياق اجتماعى وثقافى يثير التفكير، ويطرح أسئلة حول ما هو مقبول أخلاقياً ودينياً فى مجتمعاتنا. النقاش حول هذه القضايا يتجاوز السطحية، حيث يعرض الحايك تأثير هذه العمليات على العلاقات الأسرية وعلى مفهوم الأمومة نفسه.

من خلال شخصية حسان، اليسارى السابق الذى تخلّى عن أفكاره الثورية وهرب إلى كندا، يُظهر الحايك كيف يمكن للهزائم الشخصية والسياسية أن تؤثر على الحياة العائلية. حسان، الذى كان يأمل فى تحقيق تغيير اجتماعى، يجد نفسه محاطًا بتحديات جديدة تتعلق بزواجه وأبوته المتأخرة. هذه التناقضات فى شخصية حسان تعكس الصراعات الداخلية التى يعانى منها، وتضيف عمقًا للسرد.

الشخصيات الثانوية وتأثيرها على السرد
شخصيات مثل سلامة، صديقة فاطمة، ووداد، شقيقتها، تلعب دورًا مهمًا فى تطوير الأحداث وتقديم زوايا جديدة للنظر إلى القضايا المطروحة. سلامة ووداد تمثلان أصواتًا مختلفة تتفاعل مع تجربة فاطمة وتضيف طبقات جديدة من التعقيد إلى السرد. الحايك يعرض هذه الشخصيات بطريقة تبرز تفاعلاتها الإنسانية وعمق علاقاتها بفاطمة.

شخصية سعد، المتحرش، تقدم بُعدًا إضافيًا للرواية. الحايك يختار عدم الإفصاح عن تفاصيل شخصية سعد، مركزًا فقط على فعل التحرش نفسه. هذا الاختيار الأدبى يعزز من فكرة أن التحرش لا يمكن تبريره بأى حال من الأحوال، ويجعل القارئ يتعامل مع هذه القضية بشكل مباشر ودون مبررات.

النقد السياسى والاجتماعى
بجانب الموضوعات الأساسية للرواية، يتناول الحايك بعض القضايا السياسية والاجتماعية بشكل سريع لكنه مؤثر.

فالسياسة والقضايا الاجتماعية تضيفان طبقات من التعقيد فى الشخصيات والحبكات. يمكن أن تكشف تفاعلات الشخصيات مع هذه الموضوعات من خلال دوافعهم ،مخاوفهم وتطلعاتهم ، مما يجعلها أكثر ارتباطا ومتعددة الأبعاد. يتطرق الحايك إلى موضوع الميراث وما يرافقه من تمييز ضد النساء، وهو ما يعكس واقعًا لا يزال يثير الكثير من الجدل فى المجتمعات العربية. كما يتناول الحايك الأزمة اللبنانية، مما يضفى بعدًا سياسيًا واجتماعيًا للنص، ويبرز تأثير الأزمات الوطنية على الأفراد والعائلات، وخاصة فى سياق هجرة الشباب اللبنانى بحثًا عن مستقبل أفضل.

الحرفية فى التعامل مع المكان
جدير بالذكر أن الحايك يتعامل بحرفية عالية فى عدم التركيز على كندا كمكان رئيسى للأحداث. بدلاً من ذلك، تبقى كندا خلفية غير مرئية تقريبًا، مما يبرز التركيز على الشخصيات وتفاعلاتها الداخلية والخارجية بغض النظر عن المكان الجغرافى. هذا الاختيار يعزز من العالمية التى يمكن أن يشعر بها القارئ تجاه الرواية، حيث أن الأزمات الإنسانية والنفسية التى تمر بها الشخصيات تتجاوز الحدود الجغرافية وتلامس القلوب فى أى مكان.

اللغة واللهجة المحكية
من العناصر المميزة فى «يوميات عقيمة» استخدام الحايك للغة متينة، تتخللها اللهجة اللبنانية المحكية فى الحوارات. هذا المزيج يجعل النص أكثر واقعية وقربًا من القارئ، حيث أن اللهجة المحكية تدخل بشكل سلس ورشيق، مما يعكس الحياة اليومية للشخصيات بشكل دقيق. الحوارات باللهجة اللبنانية لا تؤثر سلبًا على تماسك اللغة الأدبية، بل تضيف إليها بعدًا حيويًا يعزز من شعور القارئ بالتواجد فى قلب الأحداث، ويزيد من عمق التفاعل مع الشخصيات.

خلاصة: تصوير واقعى ومؤثر لأزمات المرأة فى المجتمع
«يوميات عقيمة» ليست مجرد رواية عن تجربة شخصية، بل هى عمل أدبى يتناول قضايا اجتماعية وثقافية عميقة. منير الحايك ينجح فى تقديم رواية تمزج بين التجربة الشخصية والتحليل الاجتماعى بمهارة، مما يجعلها قراءة ضرورية لفهم التحديات التى تواجه المرأة فى المجتمعات العربية. الرواية تطرح أسئلة مهمة حول الأمومة والزواج والعلاقات الأسرية، وتقدم نقدًا لواقع المرأة فى هذه المجتمعات، مما يجعلها عملًا ذا قيمة أدبية واجتماعية عالية.

فى النهاية، أستذكر ما قاله جلال الدين الرومى «ما لم تبكِ الغيمة، من أين للبستان أن يبتسم»، فجاءت «يوميات عقيمة» كعمل أدبى يعكس بصدق وواقعية التحديات التى تواجهها النساء فى المجتمعات العربية، ويقدم نقدًا عميقًا ومؤثرًا لهذه القضايا من خلال سرد قصصى مشوق ومؤثر. منير الحايك يثبت مرة أخرى قدرته على التقاط تفاصيل الحياة اليومية وتحويلها إلى نصوص أدبية تحمل فى طياتها قضايا إنسانية واجتماعية عميقة.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة