دوستويفسكى وتولستوي
دوستويفسكى وتولستوي


كهف الشيطان بين روسيا والغرب ودوستويفسكى وتولستوى والاستخدام السياسى للأدب

أخبار الأدب

الخميس، 27 يونيو 2024 - 12:33 م

د. أشرف الصباغ

العلاقة بين الكاتبين الروسيين فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكى (11 نوفمبر 1821- 9 فبراير 1881) وليف نيكولايفيتش تولستوى (9 سبتمبر 1828- 20 نوفمبر 1910) ليست مجرد علاقة بين كاتبين كبيرين من حيث الأسلوب والسرد والجماليات، وليست مجرد علاقة بين مواطنى دولة (إمبراطورية) واحدة، الأول مفكر اجتماعى، والثانى فيلسوف، جمع بينهما الإبداع الأدبى، حيث تجلت أفكار كل منهما وتوجهاته الأيديولوجية والجمالية، وتجلت عناصر الإلهام فى عالميهما. المسألة، فى حقيقة الأمر، أكثر تشابكا وتعقيدا، لأنها تشكل خريطة العقل الروسى من جهة، وفضاء الروح الروسية من جهة أخرى. وبين هذين الطرفين تكمن التناقضات الأساسية التى تقوم عليها العديد من الاستقطابات الفنية والجمالية والروحية، ثم السياسية والقومية والعقائدية. 

الغرب يدرك هذه التناقضات جيدا ويفهمها ويستثمرها. والروس يعرفون هذه العلاقة المعقدة والمركبة بين عالمى الكاتبين وتوجهاتهما ورؤاهما السياسية والقومية والعقائدية ويفهمونها ويدركون أبعادها. 



لم تكن هناك أى علاقة شخصية بين دوستويفسكى تولستوي. ووفقا للوثائق والشهادات والسير الذاتية للكاتبين ولزوجتيهما وللمقربين منهما، لم يكن تولستوى يغادر عزبته «ياسنايا بوليانا» فى جنوب موسكو كثيرا، أو بيته فى موسكو نفسه. بينما دوستويفسكى لم يكن يغادر سان بطرسبورج إلا لسفرة قصيرة هنا أو هناك داخل روسيا أو خارجها.

لم يحدث أن جمعت بين الكاتبين فعالية أو ندوة أو مؤتمر كمشاركين على منصة أو متحدثين فى موضوع أو قضية على الرغم من أنهما عاشا فى عصر واحد وفى جيل أدبى واحد، إذا جاز التعبير. ومع ذلك فقد كان بينهما العديد من الأصدقاء المشتركين مثل الكاتب إيفان جونشاروف وإيفان تورجينييف والكاتب المسرحى ألكسندر أوستروفسكى والشاعر والناقد والناشر نيكولاى نيكراسوف، وكذلك الفيلسوف والناقد الأدبى نيكولاى ستراخوف.

كان من الممكن أن يلتقى دوستويفسكى مع تولستوى وجها لوجه وبشكل شخصى، ويتحدثان إلى بعضهما البعض أيضا، فى مناسبتين: الأولى، كانت فى مارس 1878، فى بطرسبورج، عندما تواجد تولستوى فى إحدى محاضرات الفيلسوف الروسى فلاديمير سولوفيوف، وكان دوستويفسكى متواجدا أيضا مع زوجته آنَّا جريجوروفنا فى نفس القاعة.



والمناسبة الثانية، عندما تواجد دوستويفسكى فى موسكو، فى مايو 1880 للمشاركة بكلمة فى احتفالية لإزاحة الستار عن تمثال الشاعر الروسى ألكسندر بوشكين. ووفقا لمذكرات كل من زوجة دوستويفسكى آنَّا جريجوريفنا، ونيكولاى ستراخوف- الصديق لمشترك للكاتبين- جاء دوستويفسكى إلى موسكو قبل الفاعلية بعشرة أيام كاملة للسفر إلى «ياسنايا بوليانا» للقاء تولستوى. ولكن الأخير كان فى حالة نفسية سيئة آنذاك، وقالوا إنه على حافة «الجنون»، فتعطل مشروع اللقاء.

كان كل من تولستوى ودوستويفسكى يعرفان بعضهما البعض ككاتبين، ويكنان لبعضهما البعض ما لا يعرفه أحد إلا عن طريق مذكرات أطراف ثالثة، أو عن طريق تفسير وتأويل ما كان يتناثر عن أى من الكاتبين فى رسائلهما أو فى شهادات أطراف ثالثة ورابعة.

ولكن لم يحدث أن ارتكب أحدهما تجاوزات بحق الآخر، أو حمل ضغينة للآخر. ربما تحدث تولستوى عن بعض أعمال دوستويفسكى بعبارات متفرقة وبتحفظات جمالية ومنهجية، والعكس.

لكن الأكثر تعقيدا، هو مسارا الكاتبين وتوجهيهما وعالميهما اللذان يقفان فى مواجهة بعضهما البعض، ومن ثم يتم بناء الكثير على كل منهما، واستخدام كل منهما بشكل سياسى وقومى وعقائدى. وهو ما يعرفه الغرب جيدا، ويعرفه الروس جيدا أيضا، ويتناوشان ويتحاربان به ويتصارعان عليه بشكل لا يقل ضراوة عن صراعهما السياسى الذى يحمل العديد من التهديدات. 

فى نوفمبر 2009، اختارت مجلة «نيوزويك» الأمريكية ملحمة «الحرب والسلام» لتولستوى كأفضل كتاب فى كل العصور ولدى كل الشعوب. وشغلت الملحمة المركز الأول ضمن قائمة من عشر روايات تضمنت عملا لكل من جورج أورويل وفلاديمير نابوكوف وجيمس جويس ووليم فوكنر وفيرجينيا وولف وهوميروس وجين أوستن ودانتى. أى أن الصحافة الأمريكية المؤثرة قامت فى عام 2009 بتوجيه الرأى العام الثقافى فى اتجاه أثار الكثير من التساؤلات بعد عامين فقط من خطاب الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى مؤتمر ميونيخ للأمن. 

بداية انسحاب تولستوي
منذ عام 2007، وبعد أن قررت موسكو مواجهة الغرب، خلال كلمة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى مؤتمر ميونيخ، بدأت أسهم ليف تولستوى تتراجع لصالح صعود أسهم فيودور دوستويفسكى. وبدأت الاتجاهات القومية الروسية المتشددة تتسيد الساحة من كتاب ومفكرين وصحفيين.

وكان ظهور عدد مجلة «نيوزويك» فى عام 2009 بشأن أهمية ملحمة «الحرب والسلام» لتولستوى، اختبارا مهما، أو ربما إقرارا من الغرب، على توجه روسيا نحو التشدد القومى.

وبالتالى، طرحت الجريدة الأمريكية ليس بالضبط رواية تولستوى، وإنما توجه تولستوى ككاتب وفيلسوف كونى ينظر إلى العالم بانفتاح وتسامح، لعل البعض يفهم من بين السطور أن هناك تحولات سياسية وعقائدية تجرى فى روسيا.

ولكن يبدو أن الوقت كان متأخرا. فقد تراجع تولستوى وعالمه وفلسفته وطريقه، وبدأ دوستويفسكى يظهر كمفكر اجتماعى قومى عقائدى بكل ما يحيط ذلك من بروباجندا واحتفالات داخل روسيا وخارجها، فضلا عن إذكاء الروح القومية وبروز تعاليم القوميين الروس المتشددين من كتاب ومفكرين. 

ومن جهة أخرى لم يكن موضوع مجلة «نيوزويك» حول رواية «الحرب والسلام» بريئا تماما، وإنما كان ينطوى على بعض الخبث. لأن الرواية كانت قد كتبت قبل أكثر من قرن ونصف القرن.

وبالتالى، فعندما تتحدث الأوساط الأدبية العالمية عن رواية كتبت قبل أكثر من 160 عاما باعتبارها أعظم رواية فى كل العصور ولدى كل الشعوب، فإننا هنا أمام كارثة حقيقية حلت بالأدب الروسى. بمعنى أن روسيا لم تنجز شيئا ملموسا فى مجال الأدب بعد تولستوى، أو بالأحرى بعد أدب القرن التاسع عشر، باستثناء أعمال الكتاب الخمسة الذين حصلوا على جائزة نوبل فى الأدب خلال العهد السوفيتى (بونين وباسترناك وشولوخوف وسولجينيتسين وبرودسكي). وأعمال هؤلاء لا علاقة لها بالواقعية السوفيتية أو الواقعية الاشتراكية، وإنما تنتمى بدرجات كبيرة إلى الواقعية الروسية فى القرن التاسع عشر، أو تتجاوزها لاتجاهات أخرى أوروبية فى جوهرها وجمالياتها.

النقطة الأخيرة فى غاية الأهمية، لأن غالبية المثقفين والصحفيين وكتاب المقالات العرب مغرمون جدا بالأدب الروسى. وهذا أمر جيد وواقعى ومبرر. ولكن هناك دوما خلط شديد، وعدم دقة وتحديد، بل وهناك عملية تسييد لصور ذهنية لا يفرزها إلا العقل السلفى الذى يسحب الماضى على الحاضر، ويسعى لإعادة الحاضر إلى الماضى. فالواقعية الروسية فى القرن التاسع عشر كانت مرحلة، تلتها مرحلة الواقعية الاشتراكية.

وبعد انهيار التجربة السوفيتية، ظهرت مذاهب ونزعات أدبية مختلفة، بدأت بنشر ما كان ممنوعا من كتابة السبعينيات والثمانينيات، ونشر ما كتبه جيل الثمانينيات والتسعينيات إلى وقتنا هذا. ولكن لم يظهر أحد بعد لوضع سياقات نقدية لما كتب بعد انهيار الاتحاد السوفيتى. ولم تظهر بعد كتابات نقدية يمكنها أن تفرز ما كتب فى علاقته بالمدارس والمذاهب الأدبية أيا كانت. ربما يأتى ذلك فى أوقات لاحقة. لكن الواضح حتى الآن هو أنه لا يوجد تيارات أدبية عامة، ولا ملامح سردية أو جمالية يمكن وضعها ضمن سياقات ومعايير ومذاهب أدبية.

هناك فقط أسماء متفرقة يعيش غالبية أصحابها خارج روسيا. وهناك أيضا محاولات فى الداخل الروسى الآن لصناعة أدب يكاد يشبه أدب دوستويفسكى ولكن على أرضية المجد القومى والعزة الوطنية والشعارات التى تمجد الإنجازات وتصنع المزيد من الصور الذهنية عن الشعب السلافى الأرثوذكسى العظيم المتكاتف. 

التمهيد لعودة القطب الروسى وضغوط القوميين ومظلومياتهم
فى حديث شخصى مع الكاتب الشاب آنذاك، زاخار بريليبين، عقب ظهور عدد مجلة «نيوزويك»، قال: «لم يتبق لدينا إلا الأدب الكلاسيكى الروسى فقط، إلى جوار النفط طبعا، كماركة مسجلة عالمية. أدبنا الكلاسيكى يباع جيدا فى أوروبا. ولو كنت مكان لجنة التحكيم لوضعت روايات روسية فى قائمة العشر الأوائل. لدينا جوجول وبوشكين وليرمونتوف وتشيخوف، ولدينا الدون الهادئ لشولوخوف- كل هؤلاء لديهم أعمال تفوق القدرات البشرية. وبالنسبة لى أرى أن الدون الهادئ لشولوخوف هو كتاب كل العصور والشعوب». 

الكاتب الشاب، الذى اتضح فيما بعد أنه ينتمى إلى مجموعات القوميين الروس، وذهب بعد سنوات طويلة للحرب فى أوكرانيا، رأى أن ملحمة «الحرب والسلام» رواية كتبت منذ أكثر من قرن ونصف القرن، وفازت بالمركز الأول فى قائمة ما. غير أنه أشار فى أسى واضح إلى أن 100 عام ليست مدة طويلة.

ومن ثم طرح سؤاله الذى اتسم بمرارة واضحة: «هل توقفت عجلة الإبداع عند هذا الحد؟ وأجاب: «لا. هناك بلاتونوف وبولجاكوف وشولوخوف وعشرات الكتاب الروس فى المرحلة السوفيتية كتبوا روايات أكثر من عظيمة. الفكرة أن غالبية هذه الروايات صدرت فى الاتحاد السوفيتى وكان الغرب يأخذ موقفا معاديا لها».

وأوضح أن «الأدب الروسى المعاصر قد يكون فى مستوى أدب القرن التاسع عشر. ولكن المشكلة تكمن فى أن روسيا لم تعد مهتمة بالقضايا الكبرى. ففى القرن العشرين كانت روسيا أحد قطبين، وكان يهمها كل ما يجرى فى العالم، ويتعلق بمصالحها. أما الآن فهى دولة عادية جدا، مثل دول كثيرة غير مؤثرة. وبالتالى فهذا ينعكس على الأدب والفن والمجالات الأخرى».

إن اختيار ملحمة «الحرب والسلام» أثار الكثير من الدهشة والتأمل والتساؤلات حول الوضع الحالى للأدب الروسى المعاصر والحديث. وهناك من اتفق مع هذا الاختيار الذى تشكل بنتيجة ذوق الأمريكيين أساسا، ولكنه رأى أن هذا الاختيار مناسب تماما للقرن التاسع عشر. ولكن الكتاب الأهم فى كل العصور ولدى كل الشعوب فى القرن العشرين هو رواية «العجلة الحمراء» للكاتب ألكسندر سولجينيتسين» صاحب نوبل (1970).

وهناك من رأى أن رواية «الحرب والسلام» رواية جيدة، ولكن هناك كتب وروايات أخرى، مشيرا إلى أنه من الصعب تحديد الأشياء بهذا الشكل. بل اعتبر أن الكتاب الذى ينطبق عليه وصف كتاب كل العصور والشعوب هو رواية (الإخوة كارامازوف) لفيودور دوستويفسكى.

وأبدى البعض دهشته من وضع رواية «لوليتا» لفلاديمير نابوكوف، ورواية (1984) لجورج أورويل ضمن الروايات العشر الأوائل وجنبا إلى جنب. فالأساليب والمدارس مختلفة تماما. فكيف يمكن مقارنة «الحرب والسلام» أو (1984) مع «لوليتا»؟ بأى معايير نقدية يمكن تشكيل مثل هذه القائمة التى تنتمى إلى النظرة الصحفية العابرة والبسيطة والسطحية أكثر من انتمائها إلى النظرة النقدية الرصينة؟

دوستويفسكى وتولستوى
دوستويفسكى وتولستوى عالَمَان متضادان تماما جماليا وفكريا وعقائديا وسياسيا وقوميا. وبناء على هذا التضاد تتصارع روسيا فى داخلها، وتتصارع روسيا مع الغرب. 

فى بحث مهم للناقدة والباحثة الروسية سفيتلانا شيرلايموفا حول رؤى الكاتب الفرنسى، من أصل تشيكى، ميلان كونديرا، رأت أنه يفضل كتابات تولستوى على كتابات دوستويفسكى، ويرى أن أورويل كاتب دعائى. 

تقول شيرلايموفا، إن كونديرا يغفر لعدم كمال الآلة البصرية للكاتب الذى يتحرك فى ضباب المجتمــع التوتاليتاري- الشمولى، ولكنه عدائى تجاه المغالاة الأيديولوجية مهما كان نوعها. وهو يكشف عنها ليس فقط لدى المؤلفين «العميان»، وإنما أيضا لدى بعض الشخصيات الهامة التى لاقت اعترافا كليا.

لهذا السبب فهو ينظر بشكل انتقادى إلى أعمال دوستويفسكى راصدا عملية الحكم المسبق فى تصويره للطبائع الإنسانية: «إن تماثل شخصيات دوستويفسكى يتلخص فى أيديولوجيتها الشخصية التى، بشكل مباشر أو غير مباشر، تعمل مسبقا على تحديد سلوكياتها… ولكن هل يُعْتَبَر الإنسان فى الحياة الواقعية إسقاطا مباشرا لأيديولوجيته الشخصية؟.

وعلى النقيض من دوستويفسكى أو فى مقابله، يقوم كونديرا بوضع ليف تولستـــوى «الذى يقدم لنا تصورا آخر للإنسان: فى شكل طريق متعرج، رحلة، مرحلة، والتى لا تختــلف- جميعا- مع بعضها البعض فقط، وإنما تنفى فى أحيان كثيرة المراحل السابقة وبشكل كلــي». وبعد أن يحلل كونديرا كيف حدث تطور وارتقاء كل من بيير بيزوخوف وأندريه بوكلوفسكى «بطلين عند تولستوي)، يقوم بإثبات أن البطل عند تولستوى يتغيَّر من أجل أن يظل هو نفسه: «الرواية فقط هى القادرة على تخمين ذلـك السر- أحد أهم وأعظم الأسرار بالنسبة للإنسان - ولعل تولستوى هو أول من نجح فى ذلك». 

إن ليف تولستوى بالذات- فى رأى كونديرا- قد استطاع الكشف (الذى ظهر فى بداية القرن التاسع عشر) عن تعلق المصائر الإنسانية الشخصية بأحداث تاريخية محددة وارتباط الطبائع الإنسانية بالتاريخ، وذلك كله عن طريق الاستقصاء الروائى الخاص الذى ينطوى على التفكير الفلسفى غير المنفصل عن الحياة النشطة للإنسان. 

كما يرى كونديرا، حسب الباحثة الروسية، أن إمكانية التَغَيُّر لكى يظل الإنسان هو نفسه تُعْتَبَر من الصفات الإنسانيـة المهمة، وأيضا ضمانة لكمال الشخصية الفردية. ولكن كونديرا هنا يكتب بسخرية حادة عن الانتهازيين، ومن ضمنهم السياسيون الذين يُغَيِّرون مواقفهم ليس بناء على القناعات الداخلية التى توصلوا إليهـا بأنفسهم، وإنما من أجل أن يصيروا «مثل الآخرين». وأقل ما يشغل كونديرا هو أن تتطابق وجهات نظره مع أى معايير موجودة. فهو يدين بشكل مطلق التوتاليتارية، وخاصة بسبب ملاحقتها للفن الطليعى. ولكنه مع ذلك على استعداد لأن يدافع عن الشاعر السوفيتى فلاديمير مايكوفسكى، ويسخر من النموذج العلمى الأكاديمى، ولا يخشى أن يُقَال عنه إنه عدو للتقدم عندما يسمى موسيقى الروك «وَجْد مُبْتَذَل» و»أنانية شاملة». 

من الواضح أن التقدمية السياسية لا تبرر فى نظر كونديرا الرداءة الفنية للعمل الإبداعى. فهو يكتب حول روايـة (1984) لجورج أورويل: «إن التأثير السلبى لهذه الرواية يكمن فى نظرة الواقع الصارمة لجانبه السياسى فقط، وكذلك نظرة ذلك الجانب نفسه لمضمونه السلبى فقط. أنا أرفض تبرير مثل هذا التبسيط أو التصغير على اعتبار أنه من الممكن أن يكون مجديا كبروباجندا فى النضال ضد التوتاليتارية السيئة… إن رواية أورويل على الرغم من نواياه تتحول هى ذاتها إلى حامل لروح التوتاليتارية، ولروح البروباجندا». 

وفى ضوء ما يقوله كونديرا، فالأعمال الإبداعية للفن الحقيقى لا تتوافق مع البروباجندا المتعمدة، وذلك لطبيعتها العضوية المفطورة على الشعر والتى توحد مثل هؤلاء الكتاب المختلفين، ولكن القريبين- من وجهة نظره- مثل تولستوى وكافكا: النوافذ مفتوحة وتطل على منظر طبيعى فى روايات كافكا، وفى روايات تولستوى فهى تطل على العالم حيث يحافظ الأبطال فى أفظع اللحظات على حرية القرار».

إن كونديرا هنا، بشكل غير مباشر على الإطلاق، يضع أيدينا على المسارات الفكرية والأيديولوجية لكل من دوستويفسكى وتولستوى عبر تحليل أدبي- سردى لعلم الجمال لدى الكاتبين. ويجعلنا نلمس بدقة الفارق ليس فقط فى التفاصيل الدقيقة فى عالميهما، بل ونرتقى إلى مستوى أعلى لندخل إلى «كهف الشيطان» ومواطن الخلل التى تجر الكتابة إلى الفضاءات الخانقة لتحولها إلى «رسالة قومية» أو «فكرة سلافية أرثوذكسية» بدلا من انفتاحها على الفضاء الإنسانى العام والروح الإنسانية الهائمة، الباحثة عن الجمال والخلاص على الأقل لتفادى الحروب والتفوق العرقى والديني.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة