للفنان التركى: بورشاك بينجول
للفنان التركى: بورشاك بينجول


قطط إسطنبول

أخبار الأدب

السبت، 29 يونيو 2024 - 02:21 م

«سيداتى يا نصف الإنسانية الجميل اكتبن مصيركنّ بأيديكنّ»

أم كلثوم
لا أعرف ما إذا كنتم قد زرتم إسطنبول، القسطنطينية القديمة. إذا كانت الإجابة لا، فافعلوا ذلك، وعند الانتهاء، زوروا فينسيا: فإن سحر جمهورية البندقية العظيمة (لاسيرينيسيما) ستفهمونه بشكل أفضل بعد زيارة عين الكون. ولا تتأخروا، لأن كليهما معرض لخطر الموت من نفس المرض «الالتهاب البشري»، وهو مرض متعدد السلالات، وكلها فتاكة.

 لا أرغب فى الحديث عن الدمار الذى سببه العامل البشرى للأرض، بل عن مدينة الألف مسجد. عندما تصلون إلى هناك، خلصوا أنفسكم قدر المستطاع من الاهتمام بالكميات الهائلة من هرمون التستوستيرون المشعر الذى يسرى فى طرقاتها وشرايينها، وتأملوا بإجلال المعجزات التى بإمكان الإنسان أن يقيمها لتعظيم إلهة، مثل آيا صوفيا - الأعجوبة الثامنة، فى رأى البعض – وهو ما يتركك فاغر فاكَ، المساجد الأساسية التى لا تعد ولا تحصى – مثل : المسجد الأزرق والأبيض والجديد - وكذلك الكنائس العديدة - الأرثوذكسية والكاثوليكية. يمكنكم أيضًا زيارة طوب قابى ( الباب العالي)، نموذج السرايا السلطانية بامتياز، وقصر طولمة باغجة الأعجوبة التى تشبه فرساي؛ وصهريج البازيليك، الذى يضم غابة مغمورة من ثلاثمائة وستة وثلاثين عمودًا، اثنان منها برأس ميدوسا على قاعدة العمود، وهو ما جعل قلبى ينهار، والله وحده يعلم السبب؛ ومنطقة أوغلى بيك الحديثة والمناطق المحيطة بالبازار الكبير: ألف تناقض وتناقض ما بين النزعة الاستهلاكية النيوليبرالية الأكثر وحشية، وبين التعصب الدينى المتطرف، ما يمكن اختزاله فى كلمات قليلة: بحجاب ودون حجاب، عالم متناقض يذهلك و يأسرك، ويبقى ذلك محفورًا فى ذاكرتك للأبد، لدرجة أنك لن ترغب أبدًا فى العودة.

حسنًا، إذا جعلتمونى أختار أكثر شيء أثار إعجابى فى كل ما رأيته هناك، فالأمر بالنسبة لى واضح جدًا: نظرة الحليف التى رشقتنى بها قطة صغيرة ذات لون أبيض وأحمر، وعينين مختلفتى اللون، مباشرة بعد زيارة غرف منزل الحريم الفخمة التى شغلتها مئات ومئات من النساء، بما فى ذلك الزوجات الشرعيات والمحظيات والجوارى اللاتى تم تشييئهن لأجل متعة ذكر واحد فقط، وقبل أن أتعافى من الصدمة التى جعلتنى أرى إلى أى مدى يمكن للرجل أن يصل ليجعل نفسه مميزًا أمام أقرانه، التقيتُها عند باب الخروج، فاقتربت منى على الفور بإصرار، كما لو كانت تنتظرنى منذ سنوات.

ما أهمية ذلك؟... حسنًا، أهمية كبيرة، لأنه على الرغم من أننى سمعت بالفعل فى وسائل الإعلام المختلفة عن وجود مدن القطط ومدن الكلاب، فإننى لم أشهد ذلك أبدًا حتى ذلك الحين. وأقسم أن إسطنبول مدينة القطط بلا أدنى شك: تراها جالسة على مقاعد الحدائق، أو متجولة فى المتاحف والمساجد، أو محتلة الآثار والخلاء؛ ففى أى زاوية من شوارعها وأزقتها وزنقاتها ودروبها لا تُرى الكلاب، ولكن فقط القطط؛ قطط من جميع الأحجام والألوان، قطط من جميع السلالات، وخاصة الإناث، وجميعها جميعها  ذات شعر لامع وبطون ممتلئة.

والأغرب من ذلك أنه لا أحد يعرف على وجه اليقين سبب وجود هذا العدد الكبير من القططيات والقليل جدًا من الكلبيات، أو لماذا تتصرف الحيوانات العثمانية بطريقة مختلفة عن الحيوانات الموجودة فى أماكن أخرى: القطط لطيفة وجميلة، والكلاب نافرة وجافة.

هذا الواقع، بالإضافة إلى اللقاء الغريب فى السرايا، دفعنى إلى التطلع لاكتشاف السبب وراء كل ذلك. تركت المدونات التى لا تقدم أكثر من خرافات، وتفرَّغت للتفتيش فى المكتبات الحقيقية والرقمية، حتى وضعنى القدر على المسار الصحيح: المراسلات المفقودة بين الرحالة الإنجليزية العظيمة ليدى مارى وورتلى مونتاجيو - أول غربية تزور الغرف السرية للقصر الإمبراطورى –وبين إحدى الصديقات. وهذا هو ما نجحت فى اكتشافه حتى الآن، بعد سنوات من البحث المضني.

منذ آلاف السنين، عندما كانت مياه نهر ليكوس تتدفق بحرية عبر المنطقة...، أى منذ وقت طويل، قبل أن يؤسس بيزاس الميغاري، على ضفاف البوسفور، مستعمرة تراقيا التى أصبحت بعد فترة وجيزة بيزنطة، وبعد ذلك القسطنطينية...، بالضبط حيث كان الأكروبول ، حيث بنى السلطان محمد الثانى الفاتح، وذلك بين عامى 1459 و1465، المبانى التى ستكون أصل قصر طوب قابي، أى يمكننا القول، تحت أساسات مبنى الحريم...، هناك أقامت ملكة كريتيّة اسمها باسيفاي، وكانت قد سئمت من الأكاذيب التى كان زوجها ورجال البلاط الآخرون ينسجونها عنها وعن الثور الأبيض؛  للتشهير بها وللاستيلاء على العرش. هناك عاشت مع مجموعة مختارة من مساعدات سيدة المتاهة العظيمة، وهناك ماتت ودُفنت.

تلك المعلومات ستكون مجرد حكاية لولا أن الملكة المذكورة كانت أخت وتلميذة الساحرة الأسطورية سيرسى آيايا، التى يُقال إنها سحرت أوديسيوس وكانت على وشك تحويله إلى خنزير، ولأنها أمرت ببناء معبد للإلهة الأم الأرض فى ذلك المكان.

حسنًا، من الحمامات النسائية فى المدينة جرت الإشاعات بأن نواح النساء والفتيات اللاتى سُلب شرفهن عامًا بعد عام، وقرنًا بعد قرن، تمكن أخيرًا من إيقاظ باسيفاي. وعلى الفور، تولَت الروح الأبدية زمام الأمور، وبعد أن استدعت آلهة الانتقام وفق الطقوس الهيلينية القديمة والجنّيات المحلية، وجدت طريقة لعلاج الكثير من الظلم والقسوة.

بمساعدة نوع بخارى من إكسير التحول، الذى اشتهرت به أختها، قامت بإحياء الجوارى والسلاطين الذين ماتوا حتى الآن، وتم استنساخهم وفقًا للحياة التى عاشوها: فحولت أشباح الجوارى إلى قطط لامعة، وحولت أشباح الأباطرة إلى كلاب نافرة. أعجوبة تكررت دوريًّا حتى عام 1922، وهو العام الذى أُغلق فيه حريم قصر طولمة باغجة بحكم القانون.

هذا هو السبب فى أن إسطنبول تمتلئ فى كل مكان بالقطط. أمّا الكلاب القليلة التى نراها هناك بلا صاحب، فهى ظلال الأباطرة، محكوم عليها بالتجول السرمدي، ميتة من الجوع، فى شوارع أم الدنيا.

أتمنى أن يعجبكم هذا التفسير بقدر ما استمتعتُ بكتابته، ولا ينكر أحد أنّه إن لم يكن صدقًا فهو جميل، وكما يقولون فإنّ أجمل الشعر أكذبه.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة