صورة موضوعية
الأدب والمجتمع
الخميس، 27 يونيو 2024 - 02:14 م
أناتول فرانس
«وفى هذه الظروف، ماذا يصيب الحب؟.. أنه يسعى جهد طاقته، فالجوع غريمة الألد»
أناتول فرانس
كلما بدأ لنا برعم أخضر جديد يبشر بثمار أشهى من تلك التى تعفنت وكلما تراءى لبعض العيون طيف صورة أقل قتمة فى ألوانها من الصور «العائلية» المعهودة وكلما لاح بريق أمل فى أسلوب أقل مرارة مما أمسينا عليه وأصبحنا من أساليب الحياة، وكلما أحسسنا أن القوى المكنوزة «المضغوطة» فى ناحية من نواحى المجتمع توشك أن تنفجر فتكتسح أمامها حائطا من الحوائط الكثيرة التى تحول بيننا وبين رؤية الآفاق .. صاح فى وجوهنا قوم تشبعت قلوبهم بالدماء الزرقاء ينذروننا بأن الثمار الجديدة لن تكون أقل مرارة، وأن الطيف ليس أكثر من سراب، وأن أساليب الحياة قد نفدت، وأن الحوائط أمنع من أن تكتسح.
وجاءنا «العقلاء» المحنكون بالحجج المنطقية يثبتون أن التعفن من لوازم الثمار، وأن جمال الصور فى قتمتها وأن أساليب الوجود هى هى لا تتغير وأن الحوائط ضرورية لصيانة الحياة، بل هى من خالد القوانين التى لا يسرى عليها ما يسرى على القوالب الإجتماعية من تطور وتبديل وتحوير.
نتلهف إلى أنوار متوهجة جديدة، فيطفئون المضىء منها على زرقته، ويقيمون أمام كل منفذ جداراً ونريد طعاماً أشهى من تفاح حواء، فيقدمون لنا المعقم المحفوظ منه فى العلب والصفائح.
ونود لو ندرع المحيطات ونثب فوق الجبال ونستحوذ بأيدينا وشفاهنا على ألوان الشفق، فيحيطوننا بالألغام والخنادق و«يحفظوننا» فى طبقة تحت طبقة من المكممات الواقية، ويحشروننا صفوفا صفوفا فى سراديب ودهاليز لا تنتهى إلا حيث تكون مراقص الأموات أو مدافن الإحياء.
ولا شك أن قوانين الحياة، كما يقولون سابقة لقوانين المجتمع، ولكن لا شك أيضا فى أن «الإجتماع» برضانا أو بالرغم منا» قد أصبح قانونا من قوانين الحياة عند الإنسان.. أو على الأقل وظيفة من وظائفها. وهى ليست بالوظيفة المضافة، والتى يجوز طرحها، كما تضاف وتطرح الأرقام فى الحساب بل هى وظيفة مندغمة منفعلة مع غيرها من وظائف الحياة.
فالمقاييس الاجتماعية تلاحقنا حتى فى مخادعنا، ومشاغل النهار نتسرب كالعيون إلى أحلام الليل، والراهب فى صومعته لا يستطيع إلا أن يذكر المجتمع الذى نبذه وقد نختلف فى رؤية كل البواعث التى دفعت الإنسان إلى حياة الاجتماع.. ولكن لاشك فى أن الاستماع إلى غناء الطيور أو تأمل الشفق لم يكن من بواعثه الملحة، ولا شك أن التعاون على الصيد وكفاح أخطار الغابة كان من دوافعه الجوهرية ولا شك أن تطوراً كبيراً قد أصاب نظام الاجتماع عندما اكتشفت بعض القبائل أن التهام أسرى حروبها على لذته وقوة إغرائه «لا يساوى الفوائد الاقتصادية» التى تنجم عن استعبادهم لفلاحة الأرض ولا شك أن هذا الانقسام فى الجماعة الإنسانية إلى طبقة من السادة المنتصرين المسيطرين على منابع الثروات، وطبقة من العبيد المهزومين المسخرين، كان الأساس المادى الذى انبنت عليه بعد ذلك كل المدنيات الأتوقراطية القديمة وقد يجد بعض المفكرين فى البحث عن سر الحياة وبواعثها الأولى وقوانينها الخالدة وغاياتها البعيدة.
ليس فقط عند الإنسان بل أيضا عند العناكب والسلاحف وأشواك الصحراء فنا مغريا من فنون التسلية الارستقراطية وقد لا يجد فيه البعض غير لهو فارغ عقيم. ولكن البحث فى «سر» الحياة شىء، والبحث فى صفات الحياة، وفى أساليب الحياة وفى أطوار الحياة شىء آخر.
ولسنا نعرف صفة مشتركة بين مختلف الأحياء على السواء غير إرادتها على البقاء والتوالد والاستمرار فى الحياة وبعد ذلك تبدأ الاختلافات الصغيرة أو الكبيرة فى المميزات والأساليب والاتجاهات وكل تشبيه لنوع من الأحياء بنوع آخر يخرج عن نطاق الصفة الأولى المشتركة هو قياس مع الفارق «الفارق» الضئيل حينا والجسيم فى أغلب الأحيان.
ولا حاجة بنا إلى التدليل على أن أسلوب الحياة عند الإنسان قد تغير جوهريا مذ أن بدأ الاندماج فى مجتمعات، تغير من ناحية إذ تحول الصراع الفردى مع عناصر الطبيعة إلى صراع جماعى «وفى هذا نجد لنا أشباها بين بعض الأحياء الأخرى» وتغير من ناحية أخرى «وبهذا ينفرد الإنسان» إذا اكتشف واخترع أسلحة صناعية تساعده على هذا الصراع هى الأدوات والآلات.. ونغير إثر ذلك إذ نشأت ونمت اللغات والفنون ونظم الأخلاق وشرائع الأديان.
ولنترك الآن البحث فى الصفات التى تميز بها الإنسان وجعلت منه مكتشفا ومخترعا ومستعملا للأدوات والآلات، يكفينا أن نذكر الحقيقة الواضحة وهى أن التطور الذى أصاب أسلوب حياتنا فى المائة قرن الماضية والذى لم يعرف له شبيها أى نوع آخر من الأحياء إنما يعود قبل كل شئ إلى استعمال الآلات ثم إلى استنباط آلات جديدة.
وكثيرا ما يوصف تاريخ الانسان بأنه تاريخ صراعه المستمر المتواصل مع عناصر الطبيعة لاستغلالها وتسخيرها واعتصار ما فيها من ثمرات ومتعات. ولو أن وسائل الإنتاج «تعنى أدوات الصيد ثم الأراضى الزراعية ثم المصانع والمناجم وغيرها» كانت قد بقيت كما كان هو الحال بين القبائل الأولى» ملكا مشاعا بين الناس لأمكننا أن نأخذ بهذا الوصف غير مترددين، ولكن صورة الصراع الاقتصادى الإنسانى لم تكن أبدا على هذه البساطة فبعد أن انقسم المجتمع فى إجماله إلى طبقة مسيطرة مستحوذة على منابع الثروات وطبقة مسخرة للإنتاج دون أن تملك هى وسائل هذا الإنتاج أصبح الصراع الاقتصادى فى واقعه المادى من نصيب الطبقات الكادحة وانحصر هم الطبقات المسيطرة فى الجهاد السياسى للاحتفاظ بسلطانها أو توسيعه، والتمتع بثمرات الإنتاج.. ونتيجة هذا أن الطبقات الكادحة أصبحت فى نظر الطبقات المسيطرة تماما كما لو كانت بعض عناصر الطبيعة بمثابة مواد أولية تباع وتشترى للاستغلال والاستثمار والاستهلاك.
وإذا أضفنا إلى هذا ما يدور بين مختلف الطبقات المالكة من تعاضد أو تنافس على السلطان وما يقوم بين الطبقات الكادحة من تعاون أو تزاحم على القوت وما يدور بين الطبقات الأولى والثانية من نضال على نصيب كل من ثمرات الإنتاج أمكننا أن نرسم صورة أقرب إلى الصدق من أسس الصراع الاقتصادى والسياسى الذى خبره الإنسان منذ أن بدأت حياة الاجتماع.
وأسلوب الإنتاج فى مجتمع ما يقرر نظام «العمل» فيه ويحدد وظائف أعضائه ويخلق قوانينه وبذا يكيف المثليات والتقاليد والعادات والعلاقات الإجتماعية الشائعة بين الأفراد وبين الطبقات وعلى هذه المثليات والتقاليد ينبنى أسلوب الحياة.. وإذا كنا فى شك من أمر الترابط «العضوى» بين النظام الاقتصادى وأسلوب الحياة الاجتماعى، فلنذكر كيف أن التطور البطىء الذى أصابته المدنية المصرية القديمة فى بضعة آلاف من السنين كان يصاحبه تطور فى بطئه فى وسائل وأدوات الإنتاج «نعنى الخاص منها بالفلاحة والرى والصناعات اليدوية» وكيف أن الانقلابات الاجتماعية السريعة التى عرفتها أوروبا فى القرنين الماضيين كانت تقترن بانقلابات تفوقها سرعة فى عالم الأنتاج.
قال ماركس:«لنغير العالم....« قاصدا بذلك معالمه المادية فى الأقتصاد والسياسة.
وقال ريمبو: لنغير الحياة...» وهو ينظر إلى الوجود بقلب شاعر
وعلينا نحن أن ندرك أن كلا القولين يعبران عن نداء واحد.
وإذا كان الانتقال من حياة الفطرة الساذجة إلى حياة العمل المنظم، من حياة العمل المنظم من حياة العراء إلى حياة الحجرات من الغابات والوديان إلى الشوارع، ومن الفوضى الفردية إلى التشريع الإجتماعى يعد أخطر انقلاب حدث فى تاريخ الإنسان فلا شك أن هذا الإنقلاب لم يتم بغير نضال نفسى عميق لم يخمد ولا يبدو أنه على وشك أن يخمد، بعد أن مر على حياتنا الاجتماعية أكثر من مئة قرن.
وقد لا يكون التعاون على مكافحة الجوع هو العامل الوحيد «وإن كان العامل الأساسى» الذى بعث الإنسان على التجمع ولكن لاشك أن التعاون على اشباع «العاطفة الجنسية» لم يكن« كما يتوهم البعض» من عوامل هذا التجمع.. بل أن «التنافس الجنسي» وهو من أكبر عوامل التفرقة بين الأفراد فى كل أمة كان ولم يزل من العواطف المتمردة التى أصبح من واجب «السلطات» أن تكتبها فى قلوب الأفراد وتاريخ الزواج هو ـ من هذه الناحية تاريخ «التدخل الاجتماعى» فى تحديد العلاقات الجنسية ولسنا نجد قوانين الزواج أشد قيودا ولا أكثر تعقيدا من تلك التى تفرضها المجتمعات البدائية على أفرادها.
ونحن نأخذ «العاطفة الجنسية» هنا كمثال أولى وكرمز للعواطف والغرائز والشهوات والنزوات المتعددة التى كان يود الانسان لو تتاح له فرصة باشباعها مباشرة وأحظر «ساكن المدينة» إلى كبتها أو اخفائها أو اعتقالها ولكن «الكبت» كما اكتشف فرويد لا يعنى الزوال أو الفناء وقد أخطا مفكرو القرن التاسع عشر وتلاميذهم المعاصرون عندما توهموا أن التقدم العلمى الذى أحاطهم كان على حساب «انقراض العاطفة» عند الإنسان فلم يزل الصراع قائما مستعرا بين شهوات القلب وضرورات العيش بين المتعة والمنفعة بين النزوة والندم بين النشوة واليقظة بين الثورة والعادة بين اللذة والواجب بين أحلام الليل ومشاغل النهار.. بين الانطلاق «الطبعى» والكبح والتجنيد «الاجتماعى».
وربما كان تاريخ النزاع بين العقل الباطن والعقل الواعى يرجع إلى ماقبل تاريخ الاجتماع ولكن من المؤكد أن هذا النزاع قد تغيرت عناصره وأخذ يلعب أدوار اًجديدة من بعد هذا التاريخ.
كانت وما زالت وظيفة العقل الواعى هى التعرف بالعالم الخارجى، تارة ، وتارة للارتداد والانزواء عندما يلمح أخطارا تهدد الفرد فلما انتقل الفرد من حياة الاتصال المباشر بالطبيعة إلى حياة العدل الاجتماعى من أسوار المدينة، أصبح التعرف بالعالم الخارجى لايعنى الكشف عن قوانين الطبيعة بقدر ما يعنى استذكار القوانين والشرائع الموضوعة وتلافى الأخطار والعقوبات الخاصة بالوسط الاجتماعى الذى يعيش فيه.
وكان ومازال العقل الباطن فى صميمه مستودعا للغرائز والشهوات ومنبعا للقوى الأولية المحركة لكيان الفرد. ولكن الحياة الاجتماعية «بما تدرسه فى آذان الفرد من تعاليم وتقاليد ومثليات وزواجر ومرغبات» قد نجحت فى أن تخلق داخل هذا العقل الباطن «طابوا خامسا» هو ما يسميه فرويد «السوبر ايجو» «مهمته» أن بالإغراء أو بالوعيد قمع وتشتيت القوى المعادية أو تحويلها إلى غير جبهات القتال وتبخير كل ما يغلى فى قلوب الأفراد من نوازع للتمرد على ما فرض عليها من واجبات وتضحيات.. وما قدر لها من قيود وسدود.
وزاد فى تعقيد صورة هذا النزاع بين العقل الباطن والعقل الواعى أنه بالرغم من أن العمل سواء الاقتصادى منه أو السياسى كان «ضرورة» لجأ اليها العقل الواعى فان العقل الباطن كثيرا ما يكتشف فى أساليب وأدوات هذا العمل والصلات الاجتماعية بين الأفراد رموزا للذات حسية أو رموزا جنسية كما يقول فرويد تقرب الفرد من الوسط الاجتماعى وكثيرا ما تساعد «الطابور الخامس» على أداء مهمته وليس من النادر فى لغاتنا العامة أن تستعمل الاصطلاحات الجنسية فى التعبير عن وسائل العمل فى صف الأحداث السياسية والاجتماعية.
ولكنا إذا قلنا أن العمل واللذة قد يتقابلان، فيجب ألا ننسى أن اللذة والسخرية لا تجتمعان إلا عند الماسوكيين وقلما يخلو عمل من تسخير فيما خبر الإنسان حتى الآن مع أساليب الاجتماع بل أن العمل المسخر كان ومازال القاعدة فى حياة كافة.
الطبقات العاملة وهم كافة الناس وصحيح أن فى «السيطرة» السياسية لذة سادية لا تنكر ولكن حتى «السادة» يضطرون دائما إلى القيام ببعض الواجبات ورعاية بعض التقاليد وبذل بعض التضحيات.
واذا كانت كلمة الحرية تثير فينا معانى أعمق مما تثيره فى أذهان الديموجاجيين من الساسة فذلك لأننا نشعر بكل ما تحمله هذه الكلمة من حرارة النداء العاطفى المتمرد على النظم الاجتماعية القائمة على العمل المسخر.. وإذا كانت الدعوة إلى حقوق الإنسان قد أوحى بها إلى قلوب الشعراء قبل أن تصبح شعارا لبعض الدساتير فما ذلك إلا لأن المناداة بالحقوق هى فى ضميمها صرخة الجوانح المكبلة بالواجبات.
وإذا كان الدافع الأول إلى التسخير هو الضرورة الاقتصادية فالركن الأول فى الحرية هو استفاضة الإنتاج والاستحواذ المشترك على مذابعة ووسائله.
وما دمنا نعيش فى عهد الصراع الاقتصادى فلم نزل فى عصور ما قبل التاريخ ولن يبدأ تاريخ الإنسان إلا بعد أن يصبح سيد «الضرورة» وبعد الثورة على كل ما فى المجتمع من عناصر الاستغلال والتسخير والبغاء.
وليس من شك فى أن هذه الثورة لابد أن تكون ثورة «اجتماعية».
ومازال هناك أدباء يصرون على أن الأدب «تعبير» وللأدباء أن يعرفوا الدافع النفسي الذي يدفعهم إلي الكتابة على أنه التعبير، أو الوحى، أو التوليد، أو «الافراز».. أو ما يشتهون من متنوع الأوصاف لكن ليثقوا بعد ذلك أن هذه التعاريف لن تقربنا قيد أنملة من «التعرف» بالأدب «وأن كان من المحتمل أن تساعدنا فى دراسة سيكلوجية الأدباء»، فلتكن ما تكون الدوافع النفسية التى تدفع بعض الناس إلي الكتابة أو التصوير أو التأليف الموسيقى، فليست هذه الدوافع هي الأدب أو الفن، إذ علينا أن نميز بين «دوافع الإنتاج» وبين «محصول الانتاج» وقد تقاس الدوافع بالمقاييس الذاتية، أما المحصول فيجب أن يقاس بالمقاييس الموضوعية، فالعمل الفني أو الأدبي من الساعة التي يخرج فيها من يدي الأديب أو الفنان يبدأ حياة جديدة مستقلة كل الاستقلال عن حياة منتجة «تماما كما يبدأ الطفل حياة جديدة من الساعة التي يترك فيها رحم أمه.
ولا يحيا العمل الأدبي أو الفني» بعد أن يترك منبعه «حياة جمادية» كجزء من أثاث دور الكتب والمتاحف، وهو لا ينطلق إلي السماء بين الاجرام والكواكب السيارة، بل يتخذ مجراه وسط دنيا الناس، بين خفقات قلوبهم وخلجات أذهانهم يصعد ويهبط ويتدفق ويركد مع ذبذبات وتطورات أساليب حياتهم.
وإذا كان الأدب بالنسبة للأديب «تعبير» فهو بالنسبة للمجتمع الذي ينفعل به «نداء» أو «غذاء مولد للحرارة» وينبوع مخصب أو «إشعاع كهربائى»، وهو في كل الحالات قوة كامنة يتبدل تأثيرها ونشاطها ومظهرها مع تبدل الجو الاجتماعى الذى تعيش فيه.
فحياة الأدب جزء من حياة قرائه..
والأديب هو «ذاك الذي يوحى، وليس ذاك الموحى إليه».
وليس من غرائب المصادفات أن دعوة الأدب للأدب لم تشع في أوروبا إلا فى القرن التاسع عشر، هذا القرن الذي تميز بالنمو الصناعي والتوسع التجارى وتوطد نفوذ الطبقات البورجوازية من كبار الممولين وأصحاب الأعمال.
وعندما كانت الطبقات البورجوازية قوة فتية في دور التكوين أي فى عصر الصراع بين الارستقراطية والبورجوازية الذي بدأ مع النهضة الأوروبية وانتهي بالثورات الديمقراطية كان الأدب منغمساً في غمرة الحياة الاجتماعية، يتدفق في شرايينها، ويكافح معها السدود والقيود الارستقراطية ويتمرد معها علي العمل المسخر، وينفث فيها نفحة قوية من روح المغامرة، ويتلمس معها منافذ الحرية، ويوحي إليها بالآمال الغنية في حياة زاهية الألوان فيما وراء البحار.
ولكن تقرير مبدأ الحرية السياسية لم يحول أحفاد عبيد الأرض إلي سادة، فقد أصبحوا جنودا مرتزقة يساوم علي شرائها في أسواق العمل، ويعيشها العصاميون لاستغلال المناجم وادارة الآلاات وبناء السفن والجسور وشن الحروب علي الأعداد المنافسين.
وفلسفة العصاميين «بعد أن توطد نفوذهم» لم تعد فلسفة الحرية والأخاء والمساواة، بل أصبحت فلسفة عملية، فلسفة الصفقات الرابحة، وهدم المنافسين والتنظيم الإداري، والسيطرة الكاملة علي العمال والأسواق، وزيادة ساعات العمل وتخفيض التكاليف والتوسع المتزايد في الاستغلال.
ولم يعد يري العصامى فى المجتمع الإنسانى غير متجر كبير.. والنجاح فى الحياة «فى عالم المثاليات العصامية » لم يعد يعنى غير الحصول علي منصب محترم في هذا المتجر الكبير.
وقد اكتشف بعض الأذكياء من المتطوعين لتبرير الظواهر الإقتصادية التي تحيطهم أن الأرباح الهائلة التي يحصل عليها العصاميون هي ثمرة الجد والادخار والتوفير والحرمان وكبح الشهوات والتقتير النفسى.. وهى الصفات التي تميزت بها الحركة الطهرية في العصر الفكتوري مثلا.
ولكن كيف يعيش الأدب الرفيع «الأدب الذي نما وترعرع في أحضان الترف والبذخ والفراغ الارستقراطي» في عالم الكبح والحرمان والتزمت، في عالم الصفقات والمضاربات والسندات وساحات العمل وتقلبات الأسعار؟
صحيح أن الأغنياء الجدد بعد أن انتفخت جيوبهم ما لبثوا أن تمردوا علي الحرمان وطلبوا المتعة.. ولكنهم لم يطلبوا غير المتعة الرخيصة العاجلة القريبة المنال التي تسمح بها «بين صفقة وصفقة» أوقاتهم الذهبية، ولم يعدموا من الأدباء والفنانين من يتقدموا لهم بهذا النوع من البقاء، فاشتغلت المطابع بإخراج الملايين من كتب المغامرات الصبيانية والحب المباع واكتظت الصور في الصالونات الفنية بعشرات الأطنان من اللحم الانثوي الملقي كالدمي فوق المخادع.
وهكذا لم يبق مكان للمحافظين علي تقاليد الأدب الرفيع، ففضلوا «بعد أن حرموا من قصور الأمراء والنبلاء» الاستقالة من الحياة الاجتماعية، وانزووا في أبراجهم العاجية زاعمين أن الأدب «كما لو كان فنا من فنون العادة السرية» صناعة منزلية للاستهلاك الخاص والمتعة الذاتية.
وفي كل حياة اجتماعية «مادامت قائمة علي التسخير الاقتصادي» يعتلج صراع بين عنصرين: عنصر ضاغط وعنصر مضغوط، عنصر كابح وعنصر يتلوى، عناصر يقيم السدود والقيود، وعنصر يرتطم بالسدود والقيود، عنصر يضع القوانين وعنصر مطوق بالقوانين، عنصر يفرض النظم وعنصر ضائق بما فرض عليه من نظم، عنصر مستريح متربع يريد الأمن والثبات والاستقرار، وعنصر قلق مضطرب متمرد يطلب التغيير والخروج علي ما رسم له من حدود.
وتاريخ التطور الاجتماعي هو تاريخ هذا الصراع، ومادام هناك عنصر مضغوط في المجتمع فلن يلبث «إذا ما تهيأت له الوسائل المادية» أن يسفر ويتمرد ويحطم ما بأسره من أطواق وقيود.
ونستطيع أن نلمح في تاريخ الأدب تيارين متعارضين يوازيان هذين العنصرين في المجتمع «تيار ثقيل الوطىء محكم الربط مقفل الخطوط» وتيار متدفق جامح جانح، تيار «موزون» مركب الطبقات هرمي البناء وتيار متفجر مكافح له صوت الارتطام بالصخر، تيار فيه وقار وجلال واعتصام، وتيار يتردد بين السخرية الفتاكة والتمرد المجنون.
ويمكننا مع بعض التحفظ أن نقول أن هذين التيارين هما التيار الكلاسيكي، التيار الرومانتى، ونقول مع بعض التحفظ لأن الرومانتية كثيرا ما تقرن بالرخاوة والميوعة والترقق والتبخير العاطفي والذوبان بين السحب ونحن لا نعني غير الرومانتية المحصنة، التي لا تخشي التحديق في الحقائق، ولا تخشي مقاومة أعدائها ولا تهرب من ميادين الصراع.
ولا يمكن لعمل أدبي أو فني أن يحيا من غير أن يحوي عنصراً قوياً أو ضعيفاً من عناصر الانطلاق والخيال والغرابة والتمرد علي المألوف من الحدود: أي من عناصر الرومانتية، بل أن منبع الشعر أو الفن هو بعينه النبع الرومانتى.. أما الصفات الكلاسيكية «صفات الاتزان والوقار» فهي «كما لاحظ الشاعر الإنجليزي هربرت ريد»: ثياب مضافة استلزمتها مثاليات وتقاليد الطبقات الأتوقراطية والارستقراطية التي احتكرت في بعض العصور دعاية الآداب والفنون.
فالرومانتية هي نداء الحرية.. أما الكلاسيكية فهي صوت الضرورة «والضرورة» بالنسبة لنا هي إلي حد كبير ضرورات التجنيد والتسخير والتحكم الاجتماعى.
والحرية في حياتنا هي «الضرورة» أما الضرورات الاجتماعية فقابلة للتعديل والتحرير، وهي موضوع عدائنا وكفاحنا للتحرر التدريجي منها.
وليس هناك تناقض أقوى من التناقض بين حياة الانطلاق والتحرر والتدفق الرومانتى وبين حياة القيود والسدود والعمل المسخر.. وإذا ما دبت روح التمرد في سواعد بعض العناصر المضغوطة في المجتمع وتحركات تصارع وتكافح وتحطم الأطواق، فإن أخصب ما في هذا المجتمع من منابع الشعر والفن لابد أن تنجذب «ما لم تضل طريقها» انجذابا طبيعياً عنيفاً نحو هذه العناصر.
وفي هذا العصر لم تستطع المعسكرات الفاشية الحاضرة: وهي القائمة، بالرغم من مظهرها الثوري المضلل، علي أتقن وأبرع وأدق أنواع التسخير، لأنه تسخير يعتمد علي أحدث الوسائل العلمية «أن تضم إليها أديباً أو فناناً واحداً يعتد به » وما أقلهم : إلا وكان من الدعاة إلي نوع أو آخر من القيم الكلاسيكية.. بينما ينجذب «رويداً رويداً» كل ما في العالم من شعر وفن وغناء جديد إلي تلك القوي الزاخرة الخافقة في أعماق المجتمع والتي لابد أن تنجح يوماً في أن تجعل من الحرية «أخيراً» ثمرة تؤكل، وفي متناول الجميع.
ومنذ عهد النهضة الأوروبية «أي منذ نهضة الطبقات المتوسطة» بدأ تيار جديد في تاريخ المجتمع الغربى. تيار تميز في الناحية الاقتصادية بنمو رائع متزايد السرعة في قوي الإنتاج، وتميز في الناحية الاجتماعية بثورات بعض الطبقات المقهورة والتوسع التدريجي في الحريات الفكرية والفنية والحقوق السياسية.
ولم يسر هذا التيار، في العالم الغربى، بغير صراع : تارة مع الصخر، وتارة مع الوحل، وتارة مع الرمل المجدب، ولكنه كان مع ذلك يسير. حتي إذا ما أصبحنا في أواخر القرن التاسع عشر كانت رحي الإنتاج قد بلغت سرعة مذهلة، وكانت الأرض قد نبشت أركانها ولم يبق فيها مكان لم تكتشف متابعة ومناجمة وغلانة، وكانت المحيطات قد زخرت بمئات البواخر الناقلة للبضائع من أدنى الأرض إلي أقصاها.
ولكن وراء هذه الظواهر الباعثة للأمل، كانت تتجمع عوامل أخري مناقضة، ولنا الآن بصدد تفصيل هذه العوامل، يكفينا أن نشير إلي أهمها بأن نقول«إن الدعوات إلي الحرية» في مجتمع قائم علي الصراع الاقتصادي بين الطبقات «كانت لابد أن تدور حول» حرية التنافس التجارى.. والتنافس يؤدي بالتدريج إلي نقيضه وهو «الاحتكار» ومع الاحتكار ينعدم الأساس المادي لمختلف الحريات.
ومع ذلك، وبالرغم من صيحات بودلير وريمبو وبالرغم من سخريات أو تريامون والكونت دي ساد، وبالرغم من النقد الماركسى، وبالرغم من الأزمات الاقتصادية بين حين وحين، وبالرغم من بعض الاضطرابات العمالية هنا وهناك، وبالرغم من الصرخات المختلفة المنبعثة من بعض الكهوف الأسيوية والإفريقية فقد أقبل المجتمع الغربي «أو علي الأقل بعض طبقاته» علي القرن العشرين في استبشار وتفاؤل غير قليل.
وكانه كان من الضروري أن يصطدم المجتمع بكارثة كبري «كالحرب العالمية الماضية» حتي يفيق بعض بليدي الحس والفكر، وحتى يكتشف بعض «ذوي الرأي» أن الحياة لا تسير، بعد، علي خير مايرام، وحتي يتحول بعض رجال الجامعات من دراساتهم الأكاديمية العقيمة إلي الاهتمام بما يعتلج خلف الظواهر من صراع وتناقض حاد فتاك مميت.
ومن الواضح الآن، حتي لغلاظ العقول، أننا في عصر انتقال.. ولكن هناك ملايين من القلوب قد بدأت تشعر، وملايين من الأذهان قد بدأت تدرك أن هذا الانتقال قد لا يكون شيئا أقل من نهاية الفصل الأول من تاريخ المجتمع الإنساني وبداية فصل جديد، وأنه انتقال قد لا يدانيه في روعته إلا ذاك الانتقال الأول من حياة الفطرة إلي الحياة الاجتماعية.
وقد مضي أكثر من نصف قرن منذ أن بدأت أيدي المجتمع تستحوذ علي الوسائل المادية المهيئة لهذا الانتقال «من حياة التسخير والبغاء والمسكنات وعبادة الأوثان، إلي المرحلة الأولي من مراحل التحرر والوسائل المادية لاتزيل في تزايد وتراكم وتدفق».
ولكن زوائد دودية «هي مخلفات المجتمعات الماضية» من العادات والتقاليد والقيم وأساليب الحياة مازالت تأخذ بخلق المجتمع الحاضر وتعمل «كطابور خامس» علي تشتيت القوي وتفكيكها وتحويلها إلي غير ما ينبغي أن نتوجه إليه من ميادين الصراع.
وبهذه العادات والمثاليات والقيم تتسلح القوي الرجعية الكابحة، ولعل أخطر هذه القوي «هذه الطوابير الخامسة» بالنسبة للمجتمع الإنساني في جملته هي تلك الحركات الفاشية التي تسعي «علي الرغم من دعواتها الثورية المغرية ضد بعض التقليد والأوثان القديمة» إلي إقامة كاثوليكية جديدة، ذات فاتيكان جديد بدعي «الدولة» وذات كاهن جديد يدعي «الفوهرر»، ولها انجيل جزويتي هو «النظام الجديد».
ووجه الخطر الأكبر في الفاشية هو أنها سرطان عالمي الأطوال والأبعاد، متعدد الوجوه والأسماء، وهي تجذب إليها «وهم في هذا العصر كثيرون» كل من يخشون الحرية أو فقدو فيها الأمل.
فمنبع القوة الفاشية، ليست ثورة الأمل، بل هي حدة اليأس..
والأدب «ما لم يفضل الانتحار» لا يستطيع إلا أن يكون صوتاً حياً في غمرة هذه المعمعة القديمة الجديدة بين معسكرات الاعتقال ومعامل الحرية، بين أسلحة اليأس ومنابع الأمل.
وإذا كان «الأدب الرفيع» «أدب التعبير الجميل عن الشعور الجميل» قد حكم عليه بالموت في هذا العصر، فليس أدب «الخدمة الاجتماعية» «أدب التمريض والترميم والتحسر والرثاء» هو الغذاء الذي يولد الدماء الحمراء في القلوب والسواعد الكادحة المناضلة في سبيل عالم جديد.
ومادمنا نكافح سجونا محصنة، ومادمنا نحارب جيوشا مصفحة.. فلنصنع من قلوبنا «ولا أمل لنا بغير ذلك» قنابل متفجرة.
ولنجعل من الفن والشعر «مصنع بارود».
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة