المجلة الجديدة - 8 مارس 1942
الجمال بأيدينا
الخميس، 27 يونيو 2024 - 02:25 م
الانتقال من عصر إلى عصر يتضمن تعديلاً فى وجهات النظر إلى الأشياء كما يتضمن الوصول إلى اكتشافات جديدة.
وقد اكتشفت الأمم المتمدنة فى القرن الماضى أن استعمال الآلات بقدرتها على الإنتاج السريع سوف يزيد الثروات الوطنية زيادة كبيرة. ومن الواضح أن العالم يملك الآن من المنتجات والمصنوعات المختلفة ووسائل المواصلات عشرات أضعاف ما كان يملكه منها من مائة عام. ولكنا فى هذا العصر قد بدأنا نكتشف أنه لا يكفى أن يصبح لدينا إنتاج ضخم بل المهم أن نعرف كيف يستفيد المجتمع فى شموله من هذا الإنتاج، فليس الإنتاج غاية فى ذاته ولكنه وسيلة ـ أو يجب أن يكون وسيلة ـ لتحقيق الرغبات والمتعات الإنسانية.
والنظام الاقتصادى الحاضر ـ الذى يترك وسائل الإنتاج فى أيدى أفراد ـ يجعل الغاية من الإنتاج لدى أرباب الأعمال وأصحاب المصانع هى الربح الفردى، ويجعل من الربح وسيلة لزيادة الإنتاج. وزيادة الإنتاج وسيلة لزيادة الربح. وهكذا دواليك.. وتسحق بين عجلات هذا الطاحون التجارى كل القيم الإنسانية وكل الحاجات والمطالب والأشواق البشرية الحقة.
وكان ويليام موريس الشاعر الإنجليزى الذى عاش فى القرن الماضى من أوائل من تنبهوا إلى هذه الحقيقة ولاشك أنه أخطأ التحليل عندما اعتقد أن استعمال الآلات شر فى ذاته وأن العلاج الوحيد لمشكلات العصر هو العودة إلى أحضان العهد الإقطاعى وعهد الحرف اليدوية، ولكن قيمة ويليام موريس الجوهرية هى فى دعوته إلى الاهتمام بالعنصر الفنى فى الحياة وفى تذكيرنا بأن استفاضة الإنتاج وزيادة الثروة لا فائدة انسانية منهما ما لم تنجح فى خلق عالم أجمل وأسعد وأزهى ألواناً.
وويليام موريس هو من أوائل من دعوا إلى تخليص الفنون من السجون الأكاديمية وإلى اطلاقها لتنمو وتثمن وسط الشوارع والميادين العامة ووسط معمعة حياة كل يوم.
وقد نشطت فى القرن الماضى فى أوروبا وأمريكا حركة إنشاء المدن نتيجة للنهضة الصناعية، ونشأت هذه المدن بغير نظام ولا تصميم، كان كل عصامى يأتى فيبنى مصنعاً أو متجراً على حسب ما يتفق من الطرز، وبغير مبالاة لما سيكون عليه بناء جاره، ومع أن الحاجات الاجتماعية الجديدة كانت تقتضى طرزاً بنائية جديدة، فإن معظم العصاميين كانوا يقلدون فى دورهم بل فى متاجرهم الطراز الكلاسيكية التى سادت فى قرون ولت وولت معها حاجاتها ومقاييسها ..وكثيراً ما كان يحدث أن تزركش حتى أنابيب وعجلات الآلات على نمط الزخارف اليونانية والرومانية.
وكانت نتيجة ذلك هذه المئات التى خلفها القرن الماضى من المدن الصناعية الأوروبية المشوهة المختلطة الطرز المرتبكة الطرق المكسوة بالصاج الأسود التى لا هى تحسن تأدية وظيفتها العملية كأمكنة صالحة للإنتاج الصناعى ولا هى تحسن أداء وظيفتها الفنية كأمكنة يجب أن تكون جميلة.. كى تستساغ فيها الحياة.
ومنذ أوائل هذا القرن نشأت طرز معمارية جديدة يمكن أن يقال إنها توافق إلى حد كبير مطالب المدنية الصناعية الحديثة، ولكن مازالت هناك مع ذلك مشكلة تصميم المدن فإنه لا يكفى أن يكون كل بناء فى المدينة جميلاً بمفرده كى نحصل على مدينة جميلة، بل لابد كذلك من ارتباط فى التصميم بين أبنية المدينة المختلفة يجعل منها كلاً فنياً متسق الألوان والنغمات.
وما دامت المدن ـ بدورها ومتاجرها ومصانعها ـ فى أيدى أفراد كل يعمل مستقلا عن أخيه، فإن هذا المطلب الأخير سيبقى دائماً عسير التحقيق، ولكنه سيصبح يسيراً يوم يٌلغى نظام الملكية الفردية وتغدو المدن ووسائل الإنتاج ومصادر الثروات ملكا مشاعاً فى خدمة المجتمع.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة