عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس


قلب وقلم

عبد الهادي عباس يكتب: «العقاد».. حياة بين الكتب والناس

عبدالهادي عباس

الجمعة، 28 يونيو 2024 - 10:51 م

اليوم تمر الذكرى الخامسة والثلاثون بعد المئة لميلاد عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد (28 يونيو 1889م- 12 مارس 1964م)، وعند كل ذكرى أسأل نفسي: لماذا نحتاج إلى فكر العقاد في هذا العصر الحديث الذي تشاركنا فيه التكنولوجيا كل جوانب حياتنا؟ لماذا لا يزال العقاد باسطًا جناحيه على الشعر والنثر والنقد والفلسفة والترجمة والصحافة والسياسة، وغيرها من الفنون التي كان سهمه وافرًا فيها رغم تعددها وتنوعها، حتى إنه يُعد المرجع الرئيسي في كل القضايا الوطنية والصحفية والأدبية التي شغلت الفكر العربي طوال تلك الفترة التي عاشها العقاد ورصفاؤه، وهي فترة قلقة، عالميا ومحليا، إذ شهدت حربين عالميتين، واحتلال العصابات الصهيونية لفلسطين، مع كفاح مصر لانتزاع حريتها من إسار الاحتلال البريطاني المجرم، ومساعدة الدول العربية على المقاومة، ومحاولة إنشاء أحزاب ديمقراطية تؤسس لكيان الأمة المصرية والعربية في المحافل الدولية.

في هذه الفترة التي أخذ الجبروت الغربي بأكظام العالم العربي، وأركسه عن ملاحقة التطور العالمي، اشرأبت الأعناق إلى الحرية وكأنها الطائر الذي يُخرج الخبء من النفوس الطيبة فيدفعها إلى التضحية والفداء من أجل أمّتها؛ كما يُحيل ماءها الأجاج إلى عذب فرات فتزهر أرضها بالأفكار التنويرية الجديدة التي أخذت من الغرب علومه الحديثة ودمجتها في تراثها دونما جور أو خذلان فأضحى الثمر فواكه شتى انتعشت على أثره كل العلوم الإنسانية في مصر، ومن ثم أضحت قِبلة العالم العربي كله في هذه الفترة الباكرة من عُمر النهضة العربية، وفي كل الفترات.

"دودة كتب"، "موسوعي الثقافة"، "القارئ الأول"، "العصامي"؛ وعشرات من الأوصاف التي أطلقها القراء على عملاق الفكر العربي: عباس محمود العقاد، وكلها تشير إلى خصلة رئيسية في تكوين هذا الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وهي القراءة، في كل شيء وأي شيء، حتى إن مكتبته كانت ملأى بمئات الكتب عن الحشرات والنباتات، فضلًا عن الكتب الطبية والعلمية والفلكية، وقد شهد العديد من تلاميذه الذين حضروا مرضه الأخير أنه كان يُراجع أطباءه في تشخيص المرض ووصف الدواء؛ وكل هذا ليس افتراء منه على الأطباء أو تدخلًا في عملهم، ولكنه علم واجتهاد ودراسة وفطنة، وسنوات كاملة قضاها هذا الرجل في مناطحة الدنيا والتغلب عليها، مما حشد عشرات الأعمار الأخرى فوق عمره، بما كان يضيفه إلى نفسه وروحه من العلوم والآداب، العربية والأجنبية، لتتشكل في مشكاة عقله وتلافيف قلبه وتخرج إلى الناس أنوارًا باهرة في تلك الكتب التي لا تزال تهدينا سواء السبيل وتأخذ بأيدينا في البحث الأدبي، وفي آلاف المقالات الصحفية، بحسب بعض التقديرات فإن العقاد ترك أكثر من أربعة آلاف مقالة، لكن العدد الحقيقي أكبر من هذا بكثير، خاصة أن الذين حاولوا جمع مقالاته لم يلتفتوا كثيرًا إلى المقالات السياسية التي ارتبطت بحوادث بعينها أو جاءت تعليقًا على موقف ما لحزب منافس، إذ يحتاج ذلك إلى جهد مؤسسي لجمع تلك المقالات وربطها بسياقها السياسي الذي كُتبت فيه، وربما يكشف ذلك عن مساحة شاسعة من تاريخنا المخبوء في أضابير الصحف القديمة والمجلات الحزبية التي صدرت لأعداد قليلة، ثم أغلقت أبوابها، سواء أكان ذلك لانتهاء الغرض الحزبي منها، أم لإفلاسها وعدم توافر مستلزمات الطباعة ورواتب العمال.

إذن؛ لا يزال السؤال قائمًا: لماذا نحتاج الآن إلى العقاد، وهل تغنينا الأدوات الحديثة عن أفكاره؟

الحقيقة أننا نحتاج إلى العقاد في هذا الزمان وفي كل زمان؛ والحقيقة أن كتابات العقاد مؤسسة وحاكمة وهادية لطرق التفكير ووسائل التنوير والبحث؛ والحقيقة أيضًا أنني لا أتنصل أبدًا من انحيازي إلى الأستاذ العقاد، فأنا عقادي المنزع والهوى والفكر، ولا أكاد أرى اسم العقاد على أي طبعة جديدة لكتاب حتى أشتريه وأقرؤه، سواء أكان الكتاب له أم عنه، حتى تجمّعت عندي عشرات الطبعات لكتبه كلها، وحتى قرأت بعض كتبه عشرات المرات وكأنه وِرد سنوي أستغفر الله من نسيانه أو التقصير فيه، لا سيما: "عبقرية الإمام"، و"الحسين أبو الشهداء"، ورواية "سارة"، وكتابه المبدع: "ابن الرومي: حياته من شعره"، وما محاسن شيء كله حسن، كما يقول الشاعر؛ إضافة إلى دواوينه العشر التي كشفت عن رقته العاطفية وكبريائه العليّة في الوقت نفسه؛ كما أظهرت دفاعه المستميت عن الحرية الفكرية والعدالة الاجتماعية؛ ولا يُمكن أن ينسى مؤرخو الأدب موقفه من قضية الشعر الجاهلي للدكتور طه حُسين، رغم التناوش بينهما في تلك الفترة، لكنه دافع عنه في البرلمان وطالب بمواجهة أفكاره بأفكار أخرى، وليس بمنع كتابه؛ إذ كان يُردد دائمًا أن: "الفكر بالفكر والجريمة بالعقاب"؛ وقد حفظها له د. طه حسين فدعا باسمه أميرًا للشعراء بعد وفاة أحمد شوقي، وأهدى إليه روايته الشهيرة "دعاء الكروان"، (رغم أننا لم نعد نرى هذا الإهداء اللطيف في الطبعات الحديثة لتلك الرواية، بل إنه تم رفعه حتى من طبعات الهيئة العامة للكتاب، علمًا أن الإهداء جزء أصيل من العمل الأدبي)؛ وكذلك لا ننسى موقفه المنافح عن الدستور عندما أراد الخديو وحاشيته العبث به، وقال كلمته الشهيرة: "إن هذا الشعب قادر على سحق أكبر رأس في هذا البلد تعبث بالدستور"، وتم الحكم عليه بتسعة أشهر سجنا بتهمة العيب في الذات الملكية؛ فقضى المدة وخرج إلى قبر صديقه سعد زغلول ليلقي قصيدته: 
وكنت جنين السجن تسعة أشهر*
وها أنا ذا في ساحة الخلد أولد
عداتي وصحبي لا اختلاف عليهمو*
سيعهدني كلٌّ كما كان يعهد

إننا نحتاج إلى فكر العقاد الآن قبل أي وقت آخر؛ لأننا نسعى إلى الارتكان إلى القدوة التي تحمينا غوائل الزمن ونهشات الأيام؛ نحتاج إليه لمقاومة عوامل الغيض الفكري والتصحر الثقافي ومباذل الاهتمامات؛ نحتاج إلى أفكاره الخالدة الراسخة لنبني عليها مستقبلنا الفكري المنظور.. سلام إلى ذكراك الطيبة، أيها الكاتب البارع، في عليين، وسلام إلى روحك الطاهرة في كل وقت وحين.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة