صورة موضوعية
صورة موضوعية


ربع الرز

أخبار الأدب

السبت، 29 يونيو 2024 - 03:00 م

شيماء غنيم
صادفنى تقرير فى أرشيف العشرينيات عن أكبر رَبْع أثرى بمصر، توقفت وشد انتباهى العنوان الرئيسى «2200 شخص يسكنون منزلًا واحدًا»، قرأت التقرير بتركيز شديد ولم أستطع النوم بعدها، كان هذا هو أول تعارف بينى وبين رَبْع الرُّز. 

وكأنها النداهة قررت أن تسحبنى ببطء فى أعماق بئرها، فى وقتها لم أكن أعلم عن ماذا أبحث بالضبط ولكن هذا المكان بداخله سحر غريب، أريد معرفة كل تفاصيله، الغوص داخل أغواره، هاتفت كل أصدقائى ثم بدأت رحلة البحث.

ومع البحث عن الرَّبْع فى الكتب والمراجع كانت الفكرة تتكون داخلي، طوال الوقت أبحث عن العابرين، عمن ليس لهم ذِكر فى العناوين إلا فى أخبار الحوادث، من لا أرى سواهم حين أمشى فى حوارى القاهرة، أو حين أجلس على مقهى شعبى وأتابع حركات الناس، ألعب هذه اللعبة بأن أضع نفسى داخلهم فأرى بعيونهم وأسمع ما يدور، تتصاعد أنفاسى وتختنق ولكننى أظل هناك، لذا كان رَبْع الرُّز مولودًا باسمه، فهو كل الربوع السكنية، كل المهمشين، كل من خبأ حكايته داخل الجدران وجلس ينتظر من يتلمس الحجر.

وبعد أن أسرنى الرَّبْع فاتخذته فضاءً سرديًا للرواية، و تكونت الفكرة داخلي، كان على انتقاء الزمان. لم أجد فترة خير من تلك الواقعة بين وفاة سعد زغلول وأربعينه، فمثل هذا المكان الاستثنائى يحتاج زمنًا لا يقل عنه أهمية لطرح حيوات شخوصه، كان لدى هاجس طوال الوقت ماذا يمثل سعد؟ ما شعور هذه الطبقة فى وسط هذا الزخم من الأحداث؟ وشعرت أنهم ليسوا هنا، بالنسبة للسلطة هم مجرد أرقام تنتظرهم الأشباح كى تقتنص أكبر قدر كاف منهم لحماية من هم فى المقدمة، وهل الحزن على سعد سيغير أقدارهم أو يجعل أحدا يلتفت لهم؟ ما هو مكتوب سيصير، ومن فى المؤخرة لن يسمحوا له بالتقدم خطوة واحدة إلا بقدر ما يحقق لهم مصالحهم، الازدواجية التى يعيشون فيها ولا ترحم أجساد النساء فهى فى كل عصر ومكان الآلة التى تدور بها العجلة وتخضب الأرض بلونها الزاهى والذى يجب أن يكون قرمزيًا.

لم أفكر لحظة فى محاكمة أبطالى رغم أن لكل منهم ماضيا مرعبا، وخاصة النساء وعلاقتهن بالبغاء حتى نرجس التى كانت مقتنعة بعملها فى البغاء وتتحدث عنه بفخر شديد حينما نظرت بعيونها لم أتحمل ما عاشته. كان لى علاقة قوية مع كل شخص فيهم وأحاديث مطولة كنت ألهث فيها أثناء الكتابة، أحببت لعبة الشد والجذب والتعامل مع «الفلاش باك» كالمتاهة، هم طوال الوقت يجرون فى ممرات.. الذكريات والحياة، المستقبل وما خرج من جعبة الماضي، الرَّبْع الذى يعيشون داخله وتنخر رطوبة جدرانه المتهالكة عقولهم.

رحلة استغرقت منى سنة خضتها داخل الرَّبْع فى مخيلتى وعلى أرض الواقع، كنت أذهب لما تبقى منه فى شارع سوق العصر أجوب المنطقة فى صمت، أقف فى الزوايا كى أتابع تفاصيل حياتهم رغم أنهم من زمن غير الذى أكتب عنه ولكنها الحياة واحدة وتفاجئنا دائمًا، فالحكايات الشعبية لا تتغير والتمشيات فى بطن المدينة علمتنى عدم السخرية مما يؤمنون به فهى حقيقية جدًا فى نفوسهم، فمن أنا كى أنزع ما تبقى؟ كما جعلتنى أرى أن هذه الحكايات والخرافات هى جزء أصيل من تكويننا الذى نتوارثه عبر السنين. أحببت أيضًا الكشف عما بين السطور كقضية الرقيق الأبيض فأعيش معهم داخل الحفرة التى لفظهم داخلها أصحاب القرار ووصمهم بها المجتمع.

وبالطبع أثناء الكتابة كانت هناك حوارات عديدة مع نفسى حول الخيوط التى أتتبعها، اللغة التى أكتب بها والتى فضلت أن أجعل القارئ يعيش بها داخل عالمي، وبعد انتهاء عملية الكتابة والمراجعة قدمتها لدار العين التى تفاجئت بدعمها ثم كان النشر، أعتقد أنها رحلة شيقة ومنهكة فى الوقت ذاته لإنها جعلتنى أتوه داخل الممرات، أبحث عن جدران خفية أخرى ونداهة تسحبنى لأعماق الحكايات.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة