صورة موضوعية
صورة موضوعية


ثورة الفانيليا وفردوس الروائح

أخبار الأدب

الأحد، 30 يونيو 2024 - 01:42 م

مصطفى الشيمى

منذ العصور القديمة، وفى حضارة مصر القديمة وحضارة بلاد الرافدين، احتل المطبخ مكانة مميزة، حيث وجدت ألواح طينية سومرية معروفة بألواح ييل، تعود إلى حوالى 1700 ق.م، واكتشفت فى مدينة نيبور السومرية، واحتوت على أشهر وصفات الطهى المتنوعة مثل الخبز والكعك والفطائر والعصيدة والحساء واليخنات والمحمصات، ولم تخلُ الوثائق المصرية القديمة أيضًا مثل بردية إيبرس أو نصوص الأهرام من ذكر بعض وصفات الطهى ذات الصلة بالطقوس الدينية أو الطبية.

تطور أدب المطبخ على مر العصور، ففى الحضارة الرومانية اشتهر كتاب الطبخ الذى ينسب أبِكيوس والذى يحتوى على وصفات واسعة، واستمر تطور أدب المطبخ فى العصور الوسطى بالحضارة الإسلامية بكتاب الطبيخ لإبن سيار الوراق فى القرن العاشر الميلاد ببغداد والذى يعد من أقدم كتب الطهى العربي، وفى القرن الرابع عشر زادت شعبية أدب الطبخ بكتاب Le Viandier لجوليايم تيريل وفى القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ظهرت كتب طهى أكثر تفصيلا مثل «فن الطهي» لهانا جلاس وغيرها من الكتب. ولم تقتصر الكتب الموجود فى أدب الطبخ على كتب الوصفات، أو مذكرات الطهاة، أو الكتب الثقافية التى ترصد وتستكشف ثقافة الطهى فى كل بلد، بل وجدت أيضًا روايات دارت عالمها حول الطبخ، ومن أشهرها «كالماء للشوكولاتة» للكاتبة لورا إسكويفل.

لا يعنى ذلك أن الكتابة حول المطبخ فى عصرنا الحديث كتابة آمنة.
 

المطبخ كرقعة حرب

فى عصر الصوابية السياسية، تصبح كتابة عمل أدبى يقوم على علاقة حميمية بين امرأة «كاتبة» والمطبخ مخاطرة كبرى، فالنسوية والذكورية يعملان معًا، جنبًا إلى جنب، فى رسم صورة سوداوية بالغة القتامة لذلك المكان، بوصفه السجن الذى يجب على المرأة أن تهرب منه أو تظل فيه.

لكن هبة الله أحمد تقرر الكتابة عن المطبخ كفردوس صغير، ليلعب دور البطولة فى كتاب «ثورة الفانيليا» (رسائل من المطبخ – دار المثقف)، الفائز بجائزة ساويرس الثقافية لكبار الكتاب.

ففى كتابة لا تعيد تدوير الصورة العدائية والمقولبة مسبقًا بالأيدولوجية، بل تحرر تلك البقعة من المنزل وتصبغ عليها من أفكارها الخاصة، لتصيغ علاقة جديدة دافئة مع المكان. وبينما تفعل الساردة ذلك، تفعله بوعى من يدرك أن المطبخ رقعة حرب، وحقل ألغام.

اقرأ أيضًا | 

فالمطبخ ليس مكانًا بمعزل عن الثقافة، شأنه شأن أى مكان آخر. الثقافة تحدد موضع كل شيء وموضعنا منه، تحدد علاقتنا بالعالم، تعرفنا وتعلبنا، شئنا أم أبينا، سواء كنا واعيين بذلك أو غير واعيين. والمطبخ، مثل أى علامة ثقافية أخرى، تحال إلى مرجع، فالعلامة كما عرفها سوسير بالكيان ذى الوجهين المكون من دال ومدلول، الدال أو الصورة الصوتية للفظة والمدلول أى الصورة الذهنية، والصورة الذهنية تحال إلى مرجع. وهو ما يجعل كتابة الرسائل من هذا المكان، كما أشرنا، بمثابة وقوف فى حقل ألغام، إذا يحيلنا بالضرورة إلى حقل مفاهيم عدائية مع هذا الحيز المكاني، الضيق بطبيعة الحال.

والذات المتخيلة حين تقرر الكتابة من هذا الحيز المكاني، تعرف إن صياغة المكان يتطلب اشتباكًا مع تلك المفاهيم حتى تستطيع أن تصيغ علاقة متناغمة، غير عدائية، ومسكونة بالمشاعر الإيجابية، بين الدال الصوتى والمدلول الذهني، حتى تجعلنا نرى ما تقصده حقًا حين تكتب أو تنطق كلمة المطبخ. إنها تصنع حقلًا جديدًا مع المعانى الذى يجعل كتابها هو المرجع.

المطبخ كأرض للعجائب

حين كتبت فرجينيا وولف «غرفة تخص المرء وحده»، قصدت أن هذا كل ما تحتاج إليه المرأة للكتابة، غرفة خاصة وبعض المال، وربما لم يخطر فى بالها أبدًا أن تكون تلك الغرفة هى المطبخ؛ المطبخ الذى تعتقد النِسوية أنه يحدد المرأة باعتبارها علامة مكانية. 

من تلك الغرفة الضيقة، غرفة المطبخ، بمساحة 24 متر، تشرع الذات المتخيلة فى كتابة رسائلها بكتاب «ثورة الفانيليا»، معلنة أن كل ما تحتاج إليه امرأة مثلها للكتابة هو بعض الغياب، وبعض الروائح الطيبة. لتجيد خلق طقوس خاصة يومية لكتابة الرسائل، بوصف الكتابة بديلًا للبكاء. بحيث يكون الغياب والأحلام الموءودة أفضل دافع للتخيل حتى تتسع تلك الغرفة الضيقة بالمرء. لا يضيق العالم أبدًا بمن يمتلك خيالًا رحبًا، حيث تستحضر الكاتبة شخوص قصصها هنا وتشيد المدائن.

عبر التخيل، تتأنس الكائنات والجمادات الموجودة فى ذلك الحيز المكاني، فتنكسر حدود الواقع الجامدة، حيث تذكر الذات المتخيلة «تشجعنى العنكبوتة القابعة فى الزاوية أعلى السقف المقابل للبوتجاز بدبيب من حياة تنقض فيه غزلها لتبنيه من جديد، تموء القطة فى الشباك مطالبة بحقها بقطعة ساخنة تدفئها من البرد، تتسرب ثلاث نملات من مخبئهن يجلسن بجانبى أمام الفرن، يمددن أرجلهن مثلى التماسًا للدفء والونس».

فتخلق بالخيال عالمًا من اللامعقول، الذى يتعارض مع المنطق العادى المألوف وقوانين الطبيعة، بحيث تفرض الذات سطوتها على المكان عبر سحرها وقوانينها المتخيلة.

وعبر إثارة الذاكرة الشمية من استدعاء روائح المطبخ الطيبة، تخلق حالة من الألفة بينها وبين القارئ، حيث تخدره الرائحة إلى حد ما، فحاستا الشم والتذوق لديها قدرة خاصة على استحضار التجارب العاطفية، وهى ذات صلة ببنيتين أساسيتين: العاطفة والذاكرة، مثلما يشير كل من آن مارى مولى وريجينيا سوليفان، وهى الظاهرة المعروفة بظاهرة بروست، والتى وردت فى استهلال رواية «طريق سوان»، حيث أدت نكهة كعكة مادلين مغموسة فى كوب من الشاى إلى إثارة ذكريات الحنين المدفونة. ويشير علماء النفس إلى أن تلك الذكريات التى تستدعى بواسطة حاستى الشم والتذوق تتسم عادة بالتحرر من المشاعر السلبية.
 

شعرية اللغة وحميمية الرسائل 

تتميز رسائل الذات المتخيلة بالشعرية والحميمية، فاللغة المكتوبة بها الرسائل لغة طازجة تأملية، تسعى لإيجاد علاقات وتشابهات بين تفاصيل الحياة اليومية، المعاشة فى المطبخ أو بالمنزل بصفة عامة، وبين الحياة أو البشر، وهى حالة تأملية تخلق مغزى للطقوس اليومية، مغزى يجعلها تتجاوز معناها العادى وتأخذ سمتًا فلسفيًا، وربما صوفيًا أيضًا، حيث تساعد الذات المتخيلة على تجاوز صعاب يومها أو حياتها، وتساعدها أيضًا على النمو الروحى ومعرفة ذاتها واكتشافها نفسها وفرض وجودها على المكان.

والرسائل تخلق حميمية بين الذات المتخيلة «المرسل» والقارئ، الذى يتقمص بالضرورة، وعبر خطاب الضمير المخاطب أنت، «المرسل إليه». فيعيش القارئ فى حالات شعورية مختلفة، حيث تمتد الرسائل فى أزمنة مختلفة «ما قبل الكورانتينا، وأثنائها، وما بعدها»، وحيث تتطور علاقة الذات المتخيلة بالمرسل إليه، أو تتعقد، أو تولد مشكلات قد لا يعرف القارئ تفاصيلها أو أسبابها لكنه يجد نفسه بالضرورة متورطًا فيها. فتعمل تلك الانقطاعات الزمنية، أو الفراغات، بدور المساحات البيضاء بتعبير رولان بارت وغيره من النقاد، والتى تتيح للقارئ المشاركة فى بناء المعنى وتفسيره، وربما كتابته وتخيله أيضًا. 

التلصص على امرأة مجهولة 

ثمة غواية فى التلصص على الآخرين، وربما لهذا يفضل الكثير قراءة السيرة الذاتية، بالإضافة لامتلاك خبرة حياتية مجانية. يتيح هذا الأدب هذه الخطيئة «التلصص على الآخرين» بلا أثم أو شعور بالذنب. لسنا أمام سيرة ذاتية ، لكن الذات المتخيلة هنا تسرد عن نفسها، وهو العامل المشترك بينه وبين السيرة.

كأننا نقرأ سيرة تلك المرأة «الضبابية» فى رسائلها، ومن نافذة ضيقة مواربة: نافذة المطبخ. من هذا المنظور الذى قد لا نعتاد النظر منه، وما تفعله تلك الرسائل فينا، إضافة إلى اللذة، هو تأديبنا، معرفيًا وأخلاقيًا. فكل هذا الجهد المبذول من تلك الذات المتخيلة، لا يراه المرسل إليه، فالرسائل تفرض على الآخر غيابه حتى تُكتب من الأصل، لكن القارئ يراه، وربما ما كان يفعل أبدًا! لا يرى ما الذى تفعله شهرزاد حين تحب الحياة حقًا، وكيف تفيض بروحها على العالم كله، ولا تشعر بالخجل حين تكتب «فتخيلتك هنا تتسيد هذا المقعد الوثير تحكى لى تفاصيل يومك وأنا أفرك قدميك ببعض الماء والملح» وتؤنسه بحقائق مضفرة بالخيالات، وتزيح عن رأسه الغبار فيعرف ويرى.. 
وحين يعرف يلين، وربما يخبز الحبّ!

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة