عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الاسبوع

لا بديل عن الاستثمار فى الإنسان

بوابة أخبار اليوم

السبت، 15 فبراير 2020 - 08:33 م

 لم تنجح التحولات العميقة التى عرفتها أنظمة الإنتاج العالمى فى توفير تسوية نهائية لإشكالية البطالة، بل الأدهى والأغرب فى هذه القضية التى ستظل شائكة، أنه بقدر ما تتطور أنظمة الإنتاج فى العالم، من خلال اعتماد آليات ومناهج جديدة وإدخال آخر ما توصلت إليه التكنولوجيات الحديثة بنفس القــدر، أو حتى بأكثر منه، تزداد معدلات البطالة، والأغرب فى كل هذا أن معدلات البطالة ترتفع أكثر لدى المتعلمين من الشباب الحاصل على الشهادات العليا. وتفسير كل هذا التعقيد يصعب حصره فى معالجة عادية، ولكن لا بأس فى القول إنه عكس منطق الحياة، فإن تطور منظومة الإنتاج العالمى كانت على حساب الإنسان، حيث عوضت الآلة التى اخترعها الإنسان هذا الإنسان، وألقت بملايين الأشخاص فى براثن الفراغ والعطالة، ناهيك عن تخلف مناهج التعليم فى العديد من أقطار المعمورة عن الملاءمة مع الحاجيات الجديدة والمتجددة لسوق الشغل، بحيث لم تعد أنظمة التربية والتعليم والتكوين تستجيب لهذه الحاجيات، وبالتالى فإن ارتفاع معدلات الإقبال على التعليم، وأعداد الحاصلين على الشهادات كانت له نتائج عكسية إذ فاقم من حدة هذه الإشكالية، خصوصا وأن الجامعات ومعاهد التكوين تلقى كل سنة بحشود من الخريجين، الذين لا يجدون مواقع شغل فى أسواق لم تعد تعترف بتكوينات تقليدية متجاوزة ولا هى فى حاجة إليها.
آخر تقرير صادر قبل أسابيع قليلة عن منظمة العمل الدولية حول (الشغل والاتجاهات الاجتماعية فى العالم لسنة 2020)، أشار إلى أنه من المتوقع أن يرتفع معدل البطالة فى العالم بنحو 2،5 مليون شخص فى عام 2020. وذكر التقرير (أن البطالة فى العالم ظلت مستقرة تقريبًا على مدى السنوات التسع الماضية، ولكن تباطؤ النمو الاقتصادى العالمي، يعنى أنه مع زيادة القوى العالمية، لا يتم توفير وظائف جديدة كافية لاستيعاب الوافدين الجدد على سوق الشغل) مضيفا أن (عدم التوافق بين العرض والطلب فى العمل يمتد إلى ما هو أبعد من البطالة إلى نقص فرص الشغل بشكل عام، بالإضافة إلى العدد الإجمالى للعاطلين عن الشغل فى العالم البالغ 188 مليون شخص، فــإن 165 مليون شخص لا يكسبون أجـــورا كافية، و120 مليون شخص إما يتخلون عن البحث عن العمل، أو يفتقرون إلى الوصول إلى سوق العمل).
لا غرابة فى القول فى ضوء ما تضمنه هذا التقرير، واستنادا إلى حقائق مسلم بها وأضحت من اليقينيات، إن إشكالية البطالة أضحت تتجاوز الفهم التقليدى الذى كان يعطيها هوية مختلفة، وانتقل اليوم إلى مرحلة البحث عن الملاءمة الفعالة بين الفرد أو الجماعة، والحاجيات الجديدة والمتجددة لسوق الشغل، ومن هنا لا محيد عن التركيز على قضية الرأسمال البشري، بما يعنى ذلك من تأهيل وتكوين وإعادة تكوين، بما يمكن من تجاوز الحلول الوصفية البسيطة، فالجيل الجديد من حاجيات أسواق الشغل، فى ضوء التطور التكنولوجى الهائل، فى حاجة ملحة إلى مهارات وكفاءات معينة ومحددة، هى خلاصة مزيج ما بين التمكن من المعارف التقنية والتفكير الإبداعى النقدي. ويجب أن تسترعى انتباهنا التوقعات الجديدة فى عالم الشغل، التى أطلقها مجموعة من الخبراء والتى تؤكد أن زمن الاستقرار فى منصب شغل واحد لعشرات السنين بالنسبة للفرد سينتهي، وهى ظاهرة فى طريقها نحو الاندثار والزوال، وأنه فى زمن ما سماه الخبراء بـ (اقتصاد الوظائف غير الدائمة)، فإنه من المرجح أن يكون العاملون مضطرين إلى شغل العديد من الوظائف المؤقتة طوال حياتهم المهنية، بما يعنى أن اليد العاملة مجبرة على أن تكون لها قابلية التعلم على مدى الحياة المهنية. إن هذا الاستشراف يعنى إلزامية الاستثمار فى الموارد البشرية خصوصًا فى مجالى التعليم والصحة، ولذلك فإن الرأى الذى يقول بأن ضعف الجهود فى الاستثمار بالرأسمال البشرى سيكون له تأثير سلبى فى القدرة على العمل بسوق شغل عرضة للتغير والتحول.
طبعًا، ما عرضه تقرير منظمة العمل الدولية يتطرق إلى رصد ظاهرة البطالة على المستوى العالمى، أما إذا أردنا الحديث عن التفاصيل التى يكمن فيها الشيطان، - كما يقال - فإن التفاوت فى معدلات البطالة بين الشعوب فى مختلف أصقاع المعمورة سيطرح إشكاليات جديدة تصعب محاصرتها بأجوبة مقنعة، فإذا كان المعدل العالمى للبطالة محددا فى أقل من 5 بالمائة، فإنه يتجاوز فى العديد من الدول الفقيرة أو السائرة فى طريق النمو هذا المعدل بالأضعاف المضاعفة، كما أن مفهوم البطالة يختلف من منطقة لأخرى فى العالم، مما يطرح إشكالية التعريف. لأن الظاهرة أضحت مرتبطة بطبيعة النظام الاقتصادى السائد وبقوة هذا الاقتصاد، لذلك، لا مجال، مثلا، للمقارنة بين مفهوم البطالة وطبيعة الشغل بين دولة متخلفة وأخرى تتمتع ببنية اقتصادية قوية. وهنا يجدر الحديث عن هشاشة الشغل فى الاقتصادات الضعيفة، ذلك أن معدلات مرتفعة من الذين يصنفون كعاملين، هم فقط عالقون بمناصب شغل يفتقدون فيها إلى أبسط الحقوق من دخل مالى كاف وتغطية اجتماعية وضمان الحقوق النقابية والمهنية، وهم بذلك محسوبون على سوق شغل، وما هم فى الحقيقة الا عاطلون مقنعون، فى وسط شغلى شديد الهشاشة معرضون فيه إلى المغادرة فى أية لحظة من اللحظات.
لا تسألوا أين نحن من كل هذا، لأن الجواب الفصيح والصادم يكمن فى إشكالية استثمارنا فى الموارد البشرية، فى التعليم كما فى الصحة كما فى كافة الحقوق الاجتماعية، ولا تسألوا أكثر عن المستقبل لأن الرد المقلق يتمثل فى غموض هذا المستقبل والمخاوف المرافقة له.
    نقيب الصحافيين المغاربة

 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة