مذكرات أنور كامل
مذكرات أنور كامل


رسائل من الماضى دستور أنور كامل

أخبار الأدب

الخميس، 31 ديسمبر 2020 - 03:30 م

بعد يوليو 1952 أصبح اثنان من أصدقاء أنور كامل وزراء فى أول حكومات يوليو، الأول أحمد حسن الباقورى الذى كان وزيرا للأوقاف. والثانى فتحى رضوان الذى كان محاميا لأنور فى إحدى قضاياه. بعد الثورة أرسل أنور للأصدقاء القدامى بعض الرسائل التى يتحدث فيها عن العهد الجديد وأمنيات. كتب إلى فتحى رضوان:
حضرة السيد المحترم الأستاذ فتحى رضوان

عرفتك منذ عشرين عاما مناضلا فى سبيل الحق والحرية. واستمعت إليك وأنا واقف فى قفص الاتهام مدافعا عنى وعن بقية المتهمين فى قضية «الخبز والحرية» فى سنة 1942، وإن كنت لم ألتق بك بعد ذلك إلا نادرا فإن صلتى الفكرية بك لم تنقطع أبدا.  وأنا إذ أكتب إليك اليوم وقد أصبحت وزيرا لا أكتب لأهنئك فأنت فى غير حاجة إلى التهنئة وأنا لم أعتد أن أهنئ أحدا لكثرة ما شاب التهنئة من نفاق بل أكتب لأقول لك ها نحن أولاء نترقب الخير لهذا الشعب بما تبذل من جهد فى ظل هذا العهد الجديد الذى يحقق الكثير مما كنا ننادى به. وإنى إذ أبعث إليك بهذا الكتاب أرجو لك من صميم قلبى أن توفق فيما تريد تطبيقه من مبادئ تصون للبلاد كرامتها وتعيد للشعب ما سلب منه على يد الطغاة الغاصبين.
والسلام
أنور كامل
رئيس مكتب العمل بشركة السكر- كوم أمبو
10 سبتمبر 1952
أما الشيخ الباقورى فقد تزاملا فى سجن المنيا، لم يكن الباقورى وقتها قد أصبح إخوانيا بل كان منضما إلى السعديين، كانت فترة مؤقتة ترك خلالها الإخوان قبل أن يعود إليهم مرة أخرى. فى السجن كان السجناء ينظمون ندوات ومحاضرات دورية فيما بينهم، وفى إحدى هذه الندوات اختار أنور كامل أن يتحدث عن الواقع الدولى والاتجاهات السياسة فى العالم، منطلقا من رؤية ماركسية، أعجبت المحاضرة الباقورى فجاء إليه وقال له: «حين رأيتك أول مرة، تصورت أنك مجرد حرفوش، ولكن بعد أن استمعت إليك عرفت أنك إنسان مثقف على درجة عالية من العلم».. فتوطدت العلاقة بين الإثنين وصارا صديقين داخل المعتقل، وخارجه أيضا. كان أنور كامل يناديه بـ«يا فضيلة الرفيق».. بينما يناديه الباقورى «أيها الرفيق».. وبعد الخروج من السجن كان الباقورى يتردد كثيرا على بيت أنور كامل.
بعد أن وصل الباقورى إلى وزارة الأوقاف كتب إليه كامل رسالة يتحدث فيها عن نضالهما.. وتوقعاته لما ينبغى أن يكون المستقبل: لقد وجدت فى فترة من فترات الصراع أن الطريق الذى كنت أسير فيه قد انتهى بى إلى مفترق طرق، يتشعب عنه عدد لا يحصى من الطرق»..أين الشعب؟ لم يكن هناك شعب. أين القادم. لم يكن هناك قادم.. والأحرار القلائل من أمثالك كانوا فى شبه صمت أو هكذا خُيل لى. ومنذ ذلك الوقت وأنا جالس القرفصاء وسط الميدان أتلمس مخرجا من هذا التقاطع الرهيب فلا أجد.
> > >
لكن كانت الرسالة الأهم والأشمل تلك التى أرسلها كامل إلى محمد نجيب.. يُقدم فيها ما يشبه ملامح لما ينبغى أن تسير عليه الثورة. الرسالة طويلة لكنها دالة وكاشفة للأحلام التى راهن عليها كثير من التيارات السياسية فى تلك الأيام.. يكتب كامل: «أتقدم بهذه الخطوط العامة التى أرى فيها بعض الضمانات لخلق مجتمع أفضل يسوده العدل وتعمه الحرية. وأنا إذ أتقدم بهذه السطور لا أزعم أنها قد خلت من النقص أو أنها قد شملت جميع ما انطوت عليه رغبات الجماهير، وإنما هى خطوط أعتقد أنا على ما قد يكون فيها من نقص تعكس الكثير من هذه الرغبات. ولعلك وقد تصدرت هذا التحول التاريخى تكون أقدر من غيرك على استشعار هذه الرغبات لأن حركتك نفسها لم تكن منذ اشتعلت سوى انعكاس لما كُبت فى صدر هذه الأمة فى عهود الضغط والإرهاب. وأنا إذ أكتب هذا لا أكتبه لأنى أمثل تياراً معيناً أو أنتمى إلى هيئة من الهيئات، بل باعتبارى فرداً عادياً من أفراد الشعب يعتقد أن من واجبه أن يدلى برأيه فى كل ما يتصل بالصالح العام، وقد دفعنى إلى الكتابة إليك يقينى من أنك ترحب بالاطلاع على مختلف الآراء».
ويحدد أنور كامل برنامج لعمل الثورة.. استجابت للكثير منه فيما بعد.. وكان من أهم عناصره:
 الاستقلال الكامل
من المبادئ الأساسية للثورة تحقيق الاستقلال الكامل لمصر والسودان، ومن شروط الاستقلال الكامل أن يكون الجلاء عن الوادى بشطريه غير مقيد بشرط، ومن شروطه أيضاً عدم التقيد بأية اتفاقيات استعمارية مقنعة تفرض علينا كثمن لهذا الجلاء.
 السودان
إن الثورة حين تنادى بتحرير السودان والاتحاد بينه وبين مصر لا تبغى من وراء ذلك استغلالاً للقطر الشقيق، لهذا أرى أن يعلن صراحة أن للشعب السودانى بعد جلاء المستعمرين الإنجليز عنه مطلق الحرية فى اختيار  النظام الذى يرتضيه لنفسه.
- المجزرة البشرية الثالثة
لقد تجمعت معظم الدول فى معسكرين رهيبين تتصدر روسيا إحداهما وتتصدر أمريكا الآخر، ومن الناس من يدعو إلى الانضمام إلى المعسكر الشرقى ومنهم من يدعو إلى الانضمام إلى المعسكر الغربى. وفى رأيى أن كلا الفريقين مخدوع، فلا المارد الأمريكى، ولا المارد الروسى يفكر فى مصلحة الشعوب، ولئن كان كل منهما يزعم أنه يعمل على تحرير البشرية من الطغيان فما هذا إلا لكى يستر أغراضه الخاصة. إن الحرب القادمة ستكون كسابقتها حرباً استعمارية لا غاية لها ولا هدف سوى الاستئثار بالسيطرة على العالم، وهى ستكون هذه المرة حرب فناء، لهذا أدعو بشدة إلى الوقوف على الحياد بين المعسكرين الشرقى والغربى.
الجمهورية
خلع الجيش الملك ولكنه أبقى على الملكية، والمنطق الطبيعى للثورة كان يقضى بإعلان الجمهورية، لأن الثورة فى تطبيقاتها الإصلاحية الأولى وجهت أول ما وجهت إلى الإقطاع، يتضح ذلك من قانون تحديد الملكية الزراعية الذى استقبلته الأمة بالتأييد، والملكية أصلاً وليدة الإقطاع، والملوك القلائل الباقون حالياً فى بعض الدول المتقدمة ليسوا سوى دمى تخلفت عن العصور الإقطاعية.
مجلس نيابى واحد
أعلن الجيش منذ اللحظة الأولى أن من بين ما قامت حركته من أجله «تدعيم الحياة النيابية فى ظل الدستور»، وفى رأيى أنه يجب تماشياً مع روح الثورة إلغاء مجلس الشيوخ، فقد أثبت هذا المجلس الذى كان أعضاؤه يعينون وينتخبون من طوائف معينة أو ذات أنصبة، أنه كان يقف دائماً عقبة فى سبيل الإصلاح حتى سماه البعض «فرملة الدولة». إن الوضع الصحيح للنظام النيابى لاسيما وقد ألغى الإقطاع أن يكون هناك مجلس واحد كله منتخب، ويمكن أن يسمى هذا المجلس «المجلس الوطنى» أو «مجلس الأمة» أو «مجلس الشعب» ولكى يكون هذا المجلس أقرب إلى تمثيل الأمة يجب أن يلغى شرط التأمين المالى لما يترتب على هذا الشرط من حرمان لعامة الشعب من دخول البرلمان.
الحقوق الانتخابية للمرأة
أثيرت فى الفترة الأخيرة مسألة الحقوق الانتخابية للمرأة، وفى رأيى أن حرمان المرأة من حقوقها فى هذه الناحية فيه مجافاة لروح الديمقراطية الصحيحة، فالمرأة نصف المجتمع، وحرمانها من الحقوق السياسية هو فى الواقع حرمان لنصف المجتمع من الاشتراك فى تقرير مصائر الشعوب.
تخفيض الحد الأدنى لسن النائب
من الواضح أن الشباب قد لعب دوراً كبيراً فى الثورة القائمة، وهذا يرجع إلى عدة عوامل من بينها أن الشبان بحكم الطبيعة أقوى على الجهاد وأشد احتمالاً لما قد يترتب عليه من حرمان أو اضطهاد، ومن بينها أن مجال النقاء فى نفوسهم أرحب منه فى نفوس الجيل القديم الذى تربى فى الأغلب على مهادنة الاستعمار ونشأ فى أحضان الفساد والطغيان، ومن بينها أن الثورة أحوج ما تكون إلى السرعة، والسرعة صفة من صفات الشباب لا تتوافر فى الشيوخ «المتزنين المتعقلين» لأن الاتزان عندهم سلبية، والتعقل جمود وتسليم بالأمر الواقع حتى ولو كانوا ساخطين على هذا الأمر الواقع.
البرلمان وحملة الشهادات
ينادى البعض بضرورة قصر حق الانتخاب أو التمثيل النيابى على حملة الشهادات، وفى رأيى أنه يجب ألا يأخذ إطلاقاً بهذا الاتجاه لما فيه من مجافاة لمعانى الديمقراطية الصحيحة.
تنمية الثروة الأهلية وتحديد نسبة لتفاوت الدخل
من المبادئ التى أعلنتها الثورة التقريب بين الطبقات، والتقريب بين الطبقات يتضمن الاتجاه نحو المساواة، والمساواة التى يتجه إليها الشعب فى ثورته مساواة فى التمتع لا فى الحرمان، فالثورة لا تحد من سلطان الأغنياء لأنها تريد أن تجعل الأغنياء «فقراء» بل لأنها تريد أن تجعل الفقراء «أغنياء». إنها تأخذ من المتخومين لتعطى الجياع، وعلى حين تأخذ من هؤلاء لا تستدر إحساناً بل تستعيد بعض ما اغتصب.
حق العمل وحق الفراغ
العمل حق لكل مواطن وهو حق من الحقوق الأساسية التى يجب أن ينص عليها فى دستور الثورة. والدولة فى العهد الجديد يجب أن تقضى قضاء تاما على البطالة. أننى أعلم أن مشكلة البطالة ليست من المشاكل الهينة فى المجتمعات الحاضرة. لأن البطالة ليست سوى مظهر من مظاهر التناقض بين النمو الآلى والاستغلال الفردى.
والواقع ان الوضع الطبيعى يفرض تنظيم العمل تنظيما يسمح للجماهير العاملة بأوقات فراغ يقضيها فى اللهو السليم والمتع الذهنية. وهذا لا يتأتى إلا بالتخفيض التدريجى لساعات العمل تبعا لتقدم وسائل الانتاج. فالحياة لا قيمة لها إلا إذا اقترن فيها العمل بالفراغ والكدح بالشعر والجهد باللهو.
التأمين ضد العجز
من مبادىء الثورة تأمين الإنسان ضد العجز. فالذين أقعدتهم اصابة أو أعجزهم مرض والذين أفنوا شبابهم فى خدمة المجتمع حتى ادركتهم الشيخوخة يجب أن يكافأوا بسخاء.
العلاج المجانى للجميع
وأنتقل من التأمين ضد العجز إلى توفير الصحة لجميع المواطنين. إنه ليكفى لكى أصور فداحة الخطب فى هذه الناحية أن أقول إن متوسط ما يصيب الفرد من حالات المرض المختلفة التى يتعرض لها أبناء هذا الوطن لا يقل عن ثلاث حالات.
والذى لاشك فيه أن نصيب الفقراء من هذه الأمراض يفوق نصيب الأغنياء بكثير. ولا عبرة بما يردده البعض من أن للأغنياء المال أما الفقراء فلهم الصحة. ومن البديهى كذلك أن أشد الأمراض فتكا وعلى رأسها السل يكاد يكون وقفا على الفقراء.
السكن الملائم
يقضى الإنسان نصف يومه أو أكثر فى المنزل. وإن مكانا يستغرق أكثر من نصف حياة الإنسان يجب أن يحتل مكانه فى تفكير الثورة. والدولة فى ظل العهد الجديد عليها أن تبذل ما فى وسعها لكى توفر لكل مواطن السكن الصالح الذى يمكن أن تتولد فيه الحياة الآدمية الكريمة.
الثقافة والتعليم
فى اعتقادى أنه يجب أن تفتح أبواب التعليم المجانى فى جميع مراحل للمواطنين دون تفرقة. ولا عبرة بما يقال من وجوب قصر التعليم الجامعى على عدد معين وفقا لحاجة المجتمع فالمسألة يجب أن تترك للاختيار الطبيعى. ولا خوف إطلاقا من حدوث أزمة فى ناحية من نواحى المعرفة لأنه من المسلم به أن تعدد قوى الطبيعة وثرواتها ينعكس فى نفوس الناس فيخلق فيها تعددا مماثلا فى الاستعدادات والميول.
إلغاء جرائم الرأى
ومن رأيى أنه تمشيا مع روح الثورة يجب أن تتجه الدولة نحو تحطيم جميع القيود التى فرضتها قوانين العهود الماضية لحبس الأفكار ومصادرة الحريات. وللوصول إلى هذا يجب أن تلغى من قانون العقوبات جميع جرائم الرأى التى لم يقصد بها سوى تثبيت توارث العرش وتجميد النظم الاجتماعية ومنعها من النمو.
12 أكتوبر 1952
المواطن أنور كامل
أما رسائل أنور كامل إلى صديق عمره أحمد كامل مرسى، رسائل من نهايات الأربعينيات، فقد جاء معظمها من أسوان عندما كان يعمل هناك.. كانت قصيرة، وتتبدى فيها حيرته الوجودية..يكتب فى واحدة من الرسائل:
أحمد .. ينتابنى شعور غريب منذ أيام ونفسى تتجه إلى ناحية ساكنة مظلمة خفية. فتحت قلبى فلم أسمع من الأصوات غير صوت الموت يجوب الآفاق، فى كل شىء يحيط بى، فى الوجود الهادى الوديع، وفى الوجود النابى. لا أريد أن أطيل، لأنى أشعر بضيق  وقلق واضطراب. آمل أن أراك قريبا.
> > >
ومن الرسائل الطريفة، ما أرسله أنور كامل إلى رئيس نيابة جنوب القاهرة عام 1959.. يطلب فيها تسليمه أوراقه الخاصة التى ضبطت كأحراز على ذمة قضية الخبز والحرية عام 1947، والتى حمن فيها ببراءته عام 1955 أى أن القضية ظلت منظورة 8 سنوات. وبعد رحيل توفيق الحكيم نشر أنور كامل رسالة قديمة كان قد كتبها للحكيم تعقيبا على مقال له فى الأهرام، ولم يرسلها له.. وخاصة قد ربطته علاقة قوية بالحكيم إذ اعتبره الفنان الوحيد الذى تأثر به.. كانت الرسالة فلسفية عن الموت والوجود.. العلم.. يخاطب أنور كامل الحكيم: « أنت رأيت على الجدار نشعا فأبدعت «الطعام لكل فم» ورأيت على الأرض صرصارا فأبدعت «الصرصار ملكا».. ورأيت سحلية زارتك فى مكتبك فأبدعت «يا طالع الشجرة».. وقد كان الفنان الراحل فؤاد كامل يصفنى بقوله: « إنك كقطعة الفلين. إذا سقطت فى البحر غطست تحت الموج، ولكنها سرعان ما تطفو إلى السطح». وأنت اليوم أمام هاجس.. هذا الهاجس يراود الإنسان بين الحين والحين طوال حياته، ولكنه غالبا ما يلح عليه فى مقتبل عمره ثم فى شيخوخته، ولكنى أتساءل: ألا يمكن أن يكون هذا الهاجس نواة لعمل عظيم».. ويختتم كامل رسالته: المهم أننا أحياء، نحن عاجزون أمام النهاية، ولكن نعلم أننا الآن أحياء. وما دمنا أحياء فإن قطعة الفلين ستطفو إلى السطح. ولو التقيت بك فإنى لن أقول لك: «عؤ بال ميت سنة» وإنما سأقول لك يا أستاذى وصديقى وحبيبى- رغم لقاءاتنا المحدودة عددا بالقياس إلى سنين طويلة اقتربت من نصف قرن (كوانتم): «عؤ بال ميه وعشرين سنة».

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة