أحمد عباس
أحمد عباس


المقابلة انتهت

أحمد عباس

الخميس، 01 أبريل 2021 - 07:34 م

«أعتقد كدة كفاية.. أظن أن حضرتك عارف إن ده جورنال قومى يا أستاذ، مش لينك لموقع بيشوفه اتنين تلاتة يا بنى آدم، ده جرنال دولة.. عارف يعنى إيه جورنال دولة؟
يعنى الكلمة فيه بألف من التى تُنشر على لينكات وروابط بيشوفها عشرين نفر، انت فاهم مين بيقرا الجورنال اللى بتشتغل فيه ده؟»
هكذا راح رئيس التحرير يسدد لى الأسئلة بعدما نادانى ظهيرة يوم ثلاثاء جوه مترب وصفاره صهد.
انعقدا حاجبى وراحا يرسمان كل ملامح البلاهة والصعبانيات الممكنة، فأنا والله لا أفهم مناسبة دعوتى الكريمة لمكتبه ولا هذا الكلام الذى يسم البدن، فسألته... ومن قال عكس ذلك يا ريس أو اقترب فقط من قيمة الجورنال، صارحنى من فعل ذلك، فوالله لن يخلصه منى أحد. فرد الرجل بطلاقة: أنت. مَن أنا يا رئيس التحرير.. كيف!
- معنى أننا جريدة قومية فمن غير المسموح إطلاقًا أن تستغل مساحاتها لتصفية حسابات، أو الدخول معارك هامشية.. هذه لحظة اصطفاف وطنى يا أستاذ، ولو مش حاسس بهيبة اللحظة الراهنة، أحسن لك أن تعتذر بنفسك عن التمادى قبل أن أعيد أنا النظر فى أمرك.
هكذا قال رئيس التحرير الجملة ثم وقف يحملق فى وجهى لعلنى أفقد أعصابى مثلا وأقدم استقالتى أو اعتذارًا متسرعًا عن الكتابة مثلا وأن أتوقف عن المرازية فى خلق الله.. لكن هيهات.
كانت الساعة قد قاربت على الثانية ظهرا، ودرجة حرارة الجو مبهمة حتى لدى هيئة الأرصاد الجوية، هو فى العادة اليوم الذى تصل فيه بروفات هذه الصفحة الأسبوعية ليد رئيس التحرير، يقرأها جيدا ويدققها ثم يجيزها، فيتحفظ أحيانًا على فقرات من مقال بها هنا أو هناك لهذا الزميل أو ذاك، وكل ما يراه أنا أنفذه بالحرف الواحد، أولا لأنه رئيس التحرير وسينفذ ما شاء بى أو بدونى وهذا أمر لا مراوغة أو مجاملة فيه، اذن فلم المناهدة من البداية والدخول فى معارك غير متكافئة، هذا ليس نضالا بل «جعجعة فاضية»، كأن نملة شربت حتى الثمالة ثم قررت العراك مع فيل، ناهيك عن انه غباء مفرط وتجاهل عمدى لمبدأ ضرورة تكافؤ القوى، والحكمة القديمة قالت إنه من يملك.. يحكم، وجميعنا يعرف ذلك، ثم أننى والله صاحب مرض.
ثانيًا تستطيع عزيزى القارئ القول وأنت مطمئن أن «جتتى نحست»، وأصبحت هزات رأسى بالموافقة تسبق حتى قول التعليمات.. وذلك «كالمبين بالشكل المرفق».
حقيقة أخرى يتوجب ذكرها، وهى بوضوح أن الاستفسار عن أسباب رفضه أو تحفظه أو غضبه من أى محتوى تأتى بناء على غيبيات كاملة بالنسبة لى، وهو أدرى وصاحب القرار والمسئول الأول عن المضمون.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لكن ومع ذلك كله وبالرغم من تسليمى المطلق وبرغم الاستعدادات السابقة، أهبت نفسى أن آخذ الدوش الأسبوعى المتين من تعليمات وتوجيهات وإرشادات، أو حتى تعنيف من عينة: «مش عايزين تنمر، ولا تشبيهات، ولا ايماءات، ولا ايحاءات، ولا تلميح، ولا تصريح.. ولا مسموح تنشر تصحيح»، وهذه بوضوح هى الحدود المسموح لى بعدها أن أفعل ما أشاء.
أما أنا وللحق لم أعد أحتمل أية عواقب من أى نوع، أنا بنى آدم على باب الله، ولا أحب أن أكون على غير ذلك. ببلاهة أكثر سألته: إذا كان ذلك كله ممنوع فى مساحة ساخرة مرة فى الأسبوع.. اذن ماذا تبقى لى يا ريس!
- أولا عندما اتفقنا على هذه المساحة كان الاتفاق ألا يكون هناك تجاوز، وبدون مشاكل وصداع وصراع، ولا قلة أدب، ثم أنك إذا كنت تعتقد أنك تقدم سخرية، فاسمح لى أصارحك.. دمك تقيل.
طعننى رئيس التحرير فى مقتل، واجهنى بالحقيقة المُرة، بُتقل دمى واستظرافى، لعلنى أحس على دمى وأبادر باستقالة مثلا أو اعتذار واضح وصريح لا يضطره إلى النظر فى أمرى بشكل رسمى، لكن هيهات أيضًا.
ورغم أننى لم اقتنع مرة واحدة بادعاء أن يوم الثلاثاء هو زائدة تنتصف الأسبوع بلا فائدة من «حشرته»، فكرت أنه السبب فى غضب الرجل، أو لعله عائد من اجتماع عاصف، أو قد يكون أزعجته قضية عامة أو شأن خاص.
لكن الأمر الوحيد الذى لم يخطر ببالى أننى قد أكون أخطأت، وكذلك أنا دائمًا.. ببلاهة أستبعد أخطائى، ليس تجاهلا لها أو عدم اعتراف وانكار، لا والله حاشا لله، فأنا ابن آدم وخطاء، وأفهم أن الشيطان شاطر، ووظيفته أن يهزنى ويوزنى، لكن على كل حال ليس هذا مجال للهز يا وزز.
والحقيقة أننى لا أرى أخطائى قبل فعلها، ولا حتى بعد أن أفعلها والله لو كنت أعرفها ما ارتكبتها من الأساس فأنا أحاول أن أمشى على السطر، ولا أحيد عن الخط، ولا أميل لوجع الدماغ.. هو العمر فيه كام ليلة.
وبعد ثوان مرت على رأسى ساعات طويلة، انتبهت لانتظار الرجل لرد فعل يرضيه، فاستعدت بريقى وسألته بنبرة واثقة:
- من قال إننا نتنمر على أحد!
.. يعتقدون ذلك.
- اذا كانوا يعتقدون، فمن مسئول عن اعتقادهم يا ريس، وماذا أفعل أنا!
.. مانزعلش حد.
- من هو الحد اذن؟
.. أى حد، ماتجيبش سيرة أى حد.
- مقدرش.
.. سأرفض كل ما يخالف السياسة التحريرية.
- حاضر.
.. الناس ملت.
- والله لأن طبيعتهم الملل.
.. العدد القادم كله مرفوض.
- لا وقت لتبديل المحتوى.
.. اتصرف.
- سأكتب نص هذه المقابلة.
.. لأ.
- بل سأكتبه.
.. موافق، ومن غير ماتزعل حد.
- أنت ذلك الحد فى هذه الحالة، هل ستغضب؟
.. لأ.
- لماذا؟
.. ولم يجب أن أغضب؟
- لأن كذلك يفعل الآخرون.
.. مالناش دعوة، اللى يزعل يزعل ليس دورنا الطبطبة على أحد.
- اذن أخيرًا اتفقنا يا رئيس التحرير.
.. المقابلة انتهت.
كذلك خيبت أمل الرجل فى التخلص منى بهدوء.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة