رجائي عطية
رجائي عطية


مدارات

من ديوان العبر

رجائي عطية

الجمعة، 18 يونيو 2021 - 07:39 م

ديوان العبر، فى تاريخ وتقلبات الحياة، ديوان عامر، لا تفرغ منه العبر، ولا يخلو منها زمان، لا فى الماضى القريب، ولا فى الماضى الغابر.. أما عبر الحاضر، فمشروعات تحت وقف التنفيذ، إلى أن يأتى قادم، فى قابل الأيام، ليستكشف العبرة بعد أن اكتملت خيوطها، وصار من الممكن تشخيصها والتعرف على ما كان فى الحاضر الآن ! فيها. من علل التاريخ، أو علل الناس، أن عيونهم ضريرة أو تكاد، لا تقدر على رؤية الحقيقة إلاّ فيما فات ! 

 يحكى فى قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، أن الملك النعمان أراد أن يبنى قصرًا فخيمًا، لم يسبق إليه زمن، ولا أدركه حاضر، ولا ناظرته عيون. عهد إلى " سنمار" البناء الرومى، صاحب الفن والقدرة والامتياز، أن يبنى له القصر.. قصر " الخورنق ".. كان ذلك فى الجاهلية، بناه سنمار بقريب من الكوفة.. تحفة معمارية، أخذت لب النعمان وهو يتفقدها مع سنمار الذى جعل يشرح له كل جميل يراه، والملك النعمان لا يقاوم تأوهات الإعجاب مما يراه ! 

 استخف سنمار إعجاب الملك ببراعته ومعجزة بنائه، فأفلت لسانه بسرٍّ يكمن فى " آجرة " لو رفعت من مكانها أو أزيلت، انهار بناء الخورنق.. القصر الرائع الفخيم الذى بناه سنمار وفى قبضته وحده سر هدمه.. ماذا لو تسرب السـر، أو غدر سنمار وخان ؟!.. لا يحسن إذن أن يعيش سنمار بسره الذى يمتلك مصير القصر الذى بناه ! 

 طفق الملك النعمان يتحرى حتى استوثق من أن السر لا يزال فى قبضة سنمار، لم يطلع عليه أو يعرف به أحد.. اصطحب الملك مستخدمه سنمار ليطلعه على المشهد من أعلى القصر، فلما استويا هناك، ألقى به الملك من شاهق ليموت بسره، وينعم الملك بقصره الذى لا يجب أن يملك زمامه سواه!

 طفقت العرب، بعد هذه الحادثة، تضرب بها المثل فتقول : "جزاه جزاء سنمار" !.. كناية عن شر ما يلقاه من خدم وبذل وقدم وأفاد، فلا يجزى إلاّ بما يُجزى به اللئام !.. أو كما يقال فى الأمثال : " آخر خدمة الغُز علقة" !! 

 ديوان العبر ملىء بالقصص والحكاوى، ولكن الاعتبار بها قليل نادر.. لو اتعظ حاضر بماض، لما وجد المستقبل عبراً فى الحاضر السابق عليه، ولأقفر ديوان العبر، من الحكاوى الباعثة على الاتعاظ !

 المخلص المجد المجتهد المتميز الذى بنى، لم يأمن غدر الذى خدمه وأقام له البناء. فهل تضمن المصانعة أمانًا لما تبذله من نفاق ورياء وزلفى!!.. مشاهد الحياة لا تفرغ من مفارقات تخرج للحاضر لسانها، تقول بحكمتها الخالدة : وتقـدرون فتضحك الأقدار !.. كم من أقدار ضحكت فى الماضى، وكم من أقدار نراها تضحك وتخرج لسانها فى الحاضر.. فهل ستتوقف لعبة الأقدار ؟.. ولكنه الإنسان، يأبى إلاّ أن يعيش ضريرًا لا يرى إلاّ حين تجيئه سكرة الموت بالحق الذى كان عنه يحيد، ويوقظ من غفلته فيما أخبر به الوارث الباقى فى قرآنه المجيد : " لَقَدْ كُنتَ فى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ " ! 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة