جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

حكاية واحدة من محارق الضمير

جمال فهمي

الثلاثاء، 31 أغسطس 2021 - 07:35 م

فى نهار أحد أيام عام 1986 ، وتحديداً يوم 28 نوفمبر ، شهدت مدينة فالباريسو التشيلية واحدة من وقائع القمع المروعة التى مارسها الديكتاتور القاسى اجوست بينوشية ، إذ أشعل زبانيته فى أكبر ساحات المدينة ذاك النهار ، محرقة كبرى أكلت الآف النسخ من كتاب للروائى الكولمبى العظيم «ماركيز» حمل عنوان «متسلل فى تشيلي».

هذه المحرقة ذَكرت البشرية آنذاك بمحارق ضمير مماثلة كانت حدثت فى ألمانيا عقب كارثة صعود «اودلف هتلر» وحزبه النازى إلى سدة حكم ألمانيا، ومن ثم أطلق شياطينه لترتكب سلسلة طويلة من الجرائم المروعة ومنها حرق الكتب، إلى أن انتهى كابوس النازية بثمن فادح دفعته البشرية جمعاء وألمانيا فى المقدمة مع أغلب بلدان أوروبا.. كان ذلك قبل أكثر من أربعة عقود ، كانت مرت عندما اشتعلت محرقة شيلى سالفة الذكر.

أما الكتاب المحروق فى زمن الديكتاتور التشيلي العاتي الذى أطاح فى العام 1973 بالرئيس سلفادور الليندي الآتي عبر نظام ديمقراطى حقيقى قبل أن ينقلب عليه بينوشية بمساعدة مباشرة من المخابرات المركزية الأمريكية، وقتله وقتل معه الحرية والديمقراطية نفسيهما.

لكن الكتاب المغدور لم يكن رواية من روايات ماركيز، وإنما تحقيق صحفى معمق كتبه روائى أمريكا اللاتينية الأكبر.. هنا بالمناسبة، لابد من الإشارة إلى أن ماركيز كان وظل صحفيا مرموقا حتى بعد أن عرفت الملايين أدبه الرائع.

لماذا أذن حُرق كتاب ماركيز؟ .. الإجابة ببساطة: لأن هذا الكتاب التحقيق حكى بطريقة حاذقة وماهرة قصة وتفاصيل مغامرة شجاعة قام بها السينمائى التشيلى الطليعى (من أصل فلسطيني) ميجويل ياقطين الذى كان صديقاً مقرباً من الكاتب ، وقد كشف ياقطين فى فيلم تسجيلى صور مشاهده بنفسه آيات من الفظائع التى يرتكبها نظام بينوشيه يوميا تقريبا. 

وحكاية تحقيق «متسلل فى تشيلي» تبدأ من اضطرار ياقطين إلى الهروب من بلده (مع المئات من مثقفى ومبدعى تشيلي) عقب نجاح الانقلاب الدموى ، لكنه (وهنا المغامرة) استطاع أن يعود بعد سنوات إلى أرض الوطن متخفيا باسم آخر ومصطحبا امرأة أخرى غير زوجته إمعانا فى التخفى ، وبعد أن انطلت حيلته على أجهزة أمن بينوشيه الرهيبة ، حمل ياقطين كاميرته وراح يجوب البلاد طولا وعرضا ، وتمكن (بألاعيب ومغامرات عديدة) من تهريب المقاطع التى صورها خلسة إلى خارج البلاد ، واحدة خلف أخرى.

وظل السينمائى الشجاع يمارس تصوير فظائع النظام الديكتاتورى لأسابيع وشهور طويلة حتى بدأ يشعر بأنه ربما أثار ريبة أجهزة أمن بينوشيه ، عندئذ سارع بالهروب مجددا عائدا إلى منفاه القسرى متنقلا ما بين المكسيك واسبانيا وكوبا حيث حقق فيلما تسجيليا رائعا مستخدما مئات المشاهد التى صورها فى ربوع الوطن ، وفضح بهذا الفيلم الجرائم الوحشية الفظيعة التى كان يرتكبها النظام الديكتاتورى العميل ، فيما العالم (الغربى بالذات) يتدثر بصمت القبور.

لقد أراد ماركيز بهذا الكتاب التحقيق ، ليس فقط توثيق هذه المغامرة النبيلة الشجاعة التى نفذها صديقه ، وإنما أيضا لكى يقول حقيقتين ، أولاهما إنه مهما كانت قسوة وصرامة النظم الفاشية والديكتاتورية فإن المخلصين لقضية الوطن والحرية يستطيعون المقاومة وينجحون.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة