اللوحات للفنان: جميل شفيق
اللوحات للفنان: جميل شفيق


إبداع

باسمة‭ ‬العنزى تكتب : رِسالةٌ‭ ‬إلى‭ ‬المجتمَع

أخبار الأدب

السبت، 30 أكتوبر 2021 - 04:28 م

هذه‭ ‬العائلة‭ ‬تبدو‭ ‬سعيدة‭! ‬

يا‭ ‬لَهم‭ ‬من‭ ‬أناس‭ ‬مثاليين‭ ‬كى‭ ‬يعتنوا‭ ‬بصورهم‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭!‬

‭ ‬سيدة‭ ‬فى‭ ‬الثانية‭ ‬والخمسين‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬ابتسامة‭ ‬عريضة‭ ‬وعينان‭ ‬صغيرتان‭ ‬مُحدَّدتان‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬بالكحل‭ ‬الأسود،‭ ‬تنظر‭ ‬للأعلى،‭ ‬رافعة‭ ‬ذقنها‭ ‬وكأنها‭ ‬تخاطب‭ ‬شخصاً‭ ‬أطول‭ ‬منها‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭. ‬

تصحو‭ ‬من‭ ‬نومها‭ ‬بتمهُّل‭ ‬ليبدأ‭ ‬نهارها‭ ‬مع‭ ‬متابعيها‭ ‬الافتراضيين‭. ‬

تتحدث‭ ‬عن‭ ‬السلام‭ ‬الداخلى‭ ‬والمحبّة‭ ‬باستمتاع،‭ ‬تلتقط‭ ‬صوراً‭ ‬لعائلتها‭ ‬المكوَّنة‭ ‬من‭ ‬ابنتين‭ ‬شابتين‭ ‬وزوج‭ ‬مسالِم،‭ ‬لم‭ ‬تظهر‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أحمر‭ ‬الشفاه‭ ‬اللامع‭ ‬وسلاسل‭ ‬ذهبية‭ ‬تلتف‭ ‬حول‭ ‬رقبتها‭. ‬

وجه‭ ‬تألفه‭ ‬أغلب‭ ‬حفلات‭ ‬الزفاف‭ ‬فى‭ ‬الفنادق‭ ‬الشهيرة‭. ‬مُتمرِّسة‭ ‬فى‭ ‬الولوج‭ ‬لمداخل‭ ‬قاعات‭ ‬الأفراح‭ ‬بحجة‭ ‬نسيان‭ ‬بطاقة‭ ‬الدعوة،‭ ‬أو‭ ‬استغلال‭ ‬عدم‭ ‬انتباه‭ ‬حراس‭ ‬الأمن‭ ‬لحظة‭ ‬وصول‭ ‬فوج‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬المتأنقات‭ ‬للمدخل‭.‬

رغم‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬المدعوات‭! ‬تقضى‭ ‬الجزء‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬السهرة‭ ‬راقصة،‭ ‬يهتز‭ ‬جسدها‭ ‬بغنج‭ ‬بينما‭ ‬خطواتها‭ ‬الواثقة‭ ‬تذرع‭ ‬المكان‭ ‬مُلقية‭ ‬التحية‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬تصادفهم‭ ‬مع‭ ‬ابتسامة‭ ‬جريئة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يخمنَ‭ ‬أصحابُ‭ ‬الحفل‭ ‬من‭ ‬دعاها‭!‬

‭ ‬تنسحب‭ ‬بخفّة‭ ‬وسط‭ ‬انشغال‭ ‬الكل‭ ‬فور‭ ‬دخول‭ ‬العروس‭ ‬القاعة،‭ ‬كى‭ ‬تكمل‭ ‬سهرتها‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭. ‬وفى‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬تحكى‭ ‬لزوجها‭ -‬وعلى‭ ‬وجهها‭ ‬بقايا‭ ‬التعب‭- ‬التجهيزات‭ ‬المكلفة‭ ‬للحفل،‭ ‬وإشادة‭ ‬السيدات‭ ‬بأناقتها‭ ‬وليونة‭ ‬جسدها،‭ ‬مع‭ ‬أمنيتها‭ ‬أن‭ ‬تتزوج‭ ‬ابنتاها‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭. ‬

ما‭ ‬إن‭ ‬يتوجه‭ ‬زوجها‭ ‬لعمله‭ ‬حتى‭ ‬تكمل‭ ‬لصديقاتها‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف‭ ‬تقريرها‭ ‬الناقص‭ ‬عن‭ ‬أمسية‭ ‬الأمس،‭ ‬وضيقها‭ ‬من‭ ‬المجاملات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وحرجها‭ ‬من‭ ‬رد‭ ‬دعوة‭ ‬معارفها‭.‬

تحرص‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ملابسها‭ ‬الداخلية‭ ‬أطقماً‭ ‬ملوَّنة‭ ‬من‭ ‬الساتان‭ ‬والدانتيل‭.. ‬أن‭ ‬تطلىَ‭ ‬أظفارها‭ ‬باللون‭ ‬الوردى‭.. ‬أن‭ ‬تُجيبَ‭ ‬على‭ ‬سؤال‭ ‬العمر‭ ‬بضحكة‭ ‬صاخبة‭ ‬تتبعها‭ ‬عبارة‭: ‬‮«‬وقفتُ‭ ‬عند‭ ‬الخامسة‭ ‬والعشرين‮»‬‭ ‬أجرت‭ ‬عملية‭ ‬تجميل‭ ‬لأنفها‭ ‬فى‭ ‬العشرين،‭ ‬وعملية‭ ‬شدّ‭ ‬لبطنها‭ ‬فى‭ ‬الثلاثين،‭ ‬ورفع‭ ‬لثدييها‭ ‬فى‭ ‬الأربعين،‭ ‬ونحت‭ ‬لوجهها‭ ‬فى‭ ‬الخمسين‭. ‬تجيد‭ ‬الرقص‭ ‬كما‭ ‬تجيد‭ ‬إسداء‭ ‬النصائح‭ ‬للآخرين،‭ ‬فكل‭ ‬موقف‭ ‬مرّت‭ ‬به‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تناوله‭ ‬باستفاضة‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬تميزها‭ ‬الفطرى‭. ‬

هذه‭ ‬العائلة‭ ‬تبدو‭ ‬سعيدة‭ ‬فى‭ ‬صورها‭!‬

‭ ‬تقاعدت‭ ‬مجبرة،‭ ‬فقد‭ ‬فُصِلت‭ ‬من‭ ‬عملها‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬بسبب‭ ‬ذمتها‭ ‬المالية‭ ‬المتقلبة‭.‬

‭ ‬الابنة‭ ‬الصغرى‭ ‬لم‭ ‬تنهِ‭ ‬دراستها‭ ‬الجامعية،‭ ‬إنذارات‭ ‬بالفصل‭ ‬وتعثّر‭ ‬دراسي،‭ ‬الابنة‭ ‬الكبرى‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬غيّرت‭ ‬مظهرها‭ ‬الأنثوى‭ ‬انزوت‭ ‬واختارت‭ ‬شكلاً‭ ‬جديداً‭ ‬لحياتها‭. ‬بدأ‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬قَصَّة‭ ‬شعر‭ ‬قصيرة‭ ‬وعطر‭ ‬رجالى‭ ‬وعقاقير‭ ‬تعزلها‭ ‬عن‭ ‬الدوائر‭ ‬القريبة‭.‬

الأب‭ ‬الهادئ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬دقيق‭ ‬الملاحظة،‭ ‬فزوجته‭ ‬التى‭ ‬تنظر‭ ‬للأعلى‭ ‬وتتكلم‭ ‬ببطء‭ ‬ماطَّةً‭ ‬جُمَلها،‭ ‬مُسديةً‭ ‬نصائحها‭ ‬لمئات‭ ‬المتابعين‭ ‬يومياً،‭ ‬كانت‭ ‬تمضى‭ ‬حياتها‭ ‬الليلية‭ ‬فى‭ ‬مشاركة‭ ‬الآخرين‭ ‬أعراسهم‭ ‬عنوة،‭ ‬ثم‭ ‬المرور‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬يدعونها‭ ‬لأوكارهم،‭ ‬لتترك‭ ‬فجراً‭ ‬ملاءات‭ ‬سرير‭ ‬مجعّدة‭ ‬وأشخاصاً‭ ‬دفعوا‭ ‬ثمن‭ ‬ليلة‭ ‬باهتة‭. ‬مشغول‭ ‬ذهنها‭ ‬بتلقى‭ ‬الدعوات‭ ‬الوهمية،‭ ‬والتلصُّص‭ ‬على‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬أبواب‭ ‬القاعات‭ ‬الفخمة‭ ‬والتقاط‭ ‬صور‭ ‬أنيقة‭ ‬ليومياتها‭ ‬فى‭ ‬‮«‬إنستجرام‮»‬‭ ‬والتسوُّق‭ ‬برفاهية‭ ‬لا‭ ‬تناسب‭ ‬امرأة‭ ‬متقاعدة‭.‬

‮«‬الحياة‭ ‬تنتظركم‭ ‬لا‭ ‬تتردّدوا‭ ‬فى‭ ‬إظهار‭ ‬مشاعركم‭ ‬للغالين‭ ‬على‭ ‬قلوبكم،‭ ‬أغنية،‭ ‬هدية،‭ ‬دعوة‭ ‬عشاء‭ ‬مفاجأة‮»‬‭.‬

لا‭ ‬تجد‭ ‬صعوبة‭ ‬فى‭ ‬اختيار‭ ‬مقاطع‭ ‬غنائية‭ ‬جديدة‭ ‬ولا‭ ‬فى‭ ‬تحويل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمر‭ ‬بذهنها‭ ‬لمادة‭ ‬كلامية‭ ‬تنقلها‭ ‬للمتابعين،‭ ‬الذين‭ ‬تتدفق‭ ‬تعليقاتهم‭ ‬المزهوّة‭ ‬بها‭. ‬

هذه‭ ‬العائلة‭ ‬تبدو‭ ‬سعيدة‭ ‬بفكرة‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬يظنون‭ ‬ذلك‭.‬

الابنة‭ ‬الكبرى‭ ‬لا‭ ‬تتبادل‭ ‬حديثاً‭ ‬مع‭ ‬أمها‭ ‬منذ‭ ‬شجارهما‭ ‬الأخير،‭ ‬لم‭ ‬يلحظ‭ ‬الأب‭ ‬القطيعة‭ ‬بينهما،‭ ‬الأخت‭ ‬الصغرى‭ ‬لعنت‭ ‬فضولها‭ ‬الذى‭ ‬جعلها‭ ‬تعرف‭ ‬السبب،‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬مرت‭ ‬بنفس‭ ‬الموقف‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬وتجاوزته؛‭ ‬علاقة‭ ‬أمّها‭ ‬العابرة‭ ‬بوالد‭ ‬صديقتها‭!‬

‭ ‬لم‭ ‬يُتَحْ‭ ‬للفتاتين‭ ‬أن‭ ‬تحظيا‭ ‬بعلاقات‭ ‬صداقة‭ ‬جيدة،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬تحظيا‭ ‬بأمٍّ‭ ‬بمواصفات‭ ‬عادية،‭ ‬امرأة‭ ‬تُطفِئ‭ ‬أضواء‭ ‬البيت‭ ‬قبل‭ ‬منتصف‭ ‬الليل،‭ ‬لها‭ ‬سلطة‭ ‬منعهما‭ ‬من‭ ‬الخروج‭ ‬أو‭ ‬التدخل‭ ‬الفورى‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬تعثّرهما‭ ‬الدراسى،‭ ‬أمّ‭ ‬بمواصفات‭ ‬عادية‭ ‬جداً،‭ ‬تتصرف‭ ‬وقت‭ ‬الأزمات‭ ‬بحبٍّ‭ ‬وحزم،‭ ‬لا‭ ‬تعود‭ ‬فجر‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬مُنهكةً‭ ‬بمبلغ‭ ‬مالى‭ ‬وحنجرة‭ ‬جافة‭.‬

حتى‭ ‬صديقة‭ ‬ابنتها‭ ‬الكبرى،‭ ‬التى‭ ‬دخلت‭ ‬منزلهم‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى،‭ ‬تهشَّمت‭ ‬علاقتها‭ ‬بها‭.‬

‮«‬منزل‭ ‬فوضوي،‭ ‬حافة‭ ‬المرحاض‭ ‬عليها‭ ‬بقع‭ ‬دم،‭ ‬لا‭ ‬محارم‭ ‬ورقية‭ ‬فى‭ ‬الحمام،‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬تناول‭ ‬كأس‭ ‬ماء،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ملوّث،‭ ‬حتى‭ ‬الأريكة‭ ‬عليها‭ ‬آثار‭ ‬قهوة‭ ‬مسكوبة‭ ‬وحروق‭ ‬سجائر‮»‬‭.‬

عندما‭ ‬تعرضت‭ ‬ابنتها‭ ‬الصغرى‭ ‬للضرب‭ ‬فى‭ ‬منطقة‭ ‬صحراوية،‭ ‬من‭ ‬قِبَل‭ ‬رجل‭ ‬تعرَّفت‭ ‬عليه‭ ‬مؤخراً،‭ ‬عادت‭ ‬للمنزل‭ ‬فجراً‭ ‬بسيارة‭ ‬شابٍّ‭ ‬التقطها‭ ‬من‭ ‬الطريق‭ ‬بثياب‭ ‬مُمزَّقة،‭ ‬وصلت‭ ‬غرفتَها‭ ‬بآثار‭ ‬كدمات‭ ‬على‭ ‬الوجه‭ ‬والرقبة‭ ‬وتوتُّر‭ ‬نفسي‭. ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬لم‭ ‬يفتقدها‭ ‬أحدٌ‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬أسرتها‭!‬

‭ ‬كانتْ‭ ‬أمُّها‭ ‬مشغولةً‭ ‬بتسجيل‭ ‬رسالة‭ ‬إلى‭ ‬المجتمع‭: ‬‮«‬الحياة‭ ‬جميلة‭ ‬لو‭ ‬عرفنا‭ ‬مفاتيحها‭.. ‬لا‭ ‬تقلقوا‭ ‬من‭ ‬الغد‭ ‬طالما‭ ‬أنكم‭ ‬محاطون‭ ‬بأحبتكم‭. ‬أُحِبُّكم‭ ‬جميعاً‮»‬‭.‬

هذه‭ ‬العائلة‭ ‬تبدو‭ ‬سعيدة‭ ‬كما‭ ‬تبدو‭ ‬العائلات‭ ‬المبتهِجة‭ ‬على‭ ‬موائد‭ ‬الطعام‭ ‬فى‭ ‬إعلانات‭ ‬المشروبات‭ ‬الغازية،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المتابعين‭ ‬يتمنّون‭ ‬أباً‭ ‬مُتفهِّماً‭ ‬ومَرناً،‭ ‬وأخوات‭ ‬مفعمات‭ ‬بالحيوية‭ ‬والثقة،‭ ‬وأُمّاً‭ ‬حنونة‭ ‬تُخرج‭ ‬النصائح‭ ‬لامعةً‭ ‬من‭ ‬جيوب‭ ‬ثيابها،‭ ‬تعرف‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ملائم‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ملائم‭ ‬لكل‭ ‬حدَث،‭ ‬عائلة‭ ‬متوازنة،‭ ‬أفرادُها‭ ‬يملكون‭ ‬ابتسامة‭ ‬هوليوودية،‭ ‬بمأمنٍ‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬التدهور‭ ‬أو‭ ‬نظرات‭ ‬الاحتقار‭! ‬

عائلة‭ ‬تظنُّ‭.. ‬أنّك‭ ‬تعرِفُها‭ ‬بشكل‭ ‬شخصي‭!‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة