الحكيم وسيمون دى بوفوار  وسارتر أثناء زيارتهما لمصر
الحكيم وسيمون دى بوفوار وسارتر أثناء زيارتهما لمصر


الثقافة ترتدى النقاب

محمد شعير يكتب: الرقابة عندما تحمى الرذيلة!

أخبار الأدب

السبت، 27 نوفمبر 2021 - 05:02 م

لا جديد. أريق حبر كثير، فى نقد الرقابة والرقباء ومؤسسات الوصاية، وحبر أكثر دفاعاً عن حرية الفن والتعبير. لكن لا المدافعين عن الحرية توقفوا عن دفاعهم، ولا الرقباء توقفوا عن عملهم، ولا نجحوا فى منع عمل واحد أو حجبه، على الأقل هذا ما يخبرنا به التاريخ. لا جديد إذن. سوى أن العالم يتغير والرقيب وحده لا يتغير.
لا جديد إذن، حتى يبدو الأمر وكأننا نعيش زمناً دائرياً، نتوهم أننا نسير إلى الأمام ولكن نجد أنفسنا دائماً فى نقطة البدء مرة أخرى. هكذا نخوض المعارك نفسها كل مرة، ونناقش القضايا نفسها وكأن قدر المثقف أشبه بـ «سيزيف»، مطالب بأن يحمل الصخرة كل مرة إلى الجبل وكلما أوشك على الوصول تسقط ويعيد المحاولة مرات ومرات إلى ما لا نهاية.
معارك يفترض طرفها الكاره أو الخائف من الحرية أنه المالك لمقياس خاص يقيس به مفاهيم الوطنية والدين والحرية حفاظاً على الشعب وأخلاقه وقيمه وثوابته، رغم أنه فى حقيقة الأمر يمتلك كراهية شديدة للشعب وثقافته الشعبية. 
وقائع الأيام الماضية، سواء الهجوم على مسرحية سارتر المومس الفاضلة، أو فيلم ريش المتهم بالإساءة لسمعة مصر، أو منع أغانى المهرجانات.. وقائع ليست جديدة تماماً، بل تتكرر فى كل عقد بنفس الأساليب. ربما يختلف الأشخاص المحرضون، أو عناوين الأعمال التى يتم الهجوم عليها. ودائماً ما تنتهى المعارك إلى لا شىء تقريباً، سوى دفع المجتمع إلى المزيد من التشدد، والخوف. معارك بلا فائز سوى التشدد والتطرف.
 لا تختلف «مومس» سارتر عن «لص» نجيب محفوظ فى روايته الشهيرة «اللص والكلاب». يدين سارتر فى مسرحيته مؤسسات صناعة الإيديولوجيا، كما يفعل محفوظ الذى يرى على لسان بطله أن «أكثرية شعبنا لا تخاف اللّصّوص ولا تكرههم. ولكنهم بالفطرة يكرهون الكلاب». هل سنصادر أيضاً نجيب محفوظ؟
قد نرفض أغانى المهرجانات، لا نستسيغها، بيتهوفن نفسه وموزارت لا أظن أنهما الأعلى استماعاً، لكن هذه الأغنيات تعكس قلق المجتمع اجتماعياً، وهى امتداد طبيعى لأغنيات الأفراح فى ريف مصر، بطبيعتها العارية، وجرأتها، واستخدامها الألفاظ الصريحة. هل يمكن المقارنة بينها وبين كثير من أغنيات سيد درويش الذى وضع أسس التجديد الموسيقى، بل وبدايات أم كلثوم، وغيرها.
هل يحتاج الرقيب إلى أمثلة آخرى: غنى عبدالحليم حافظ أغنيات مثل صورة وبستان الاشتراكية وغيرها.. وجميعها من كلمات صلاح جاهين، كانت هذه الأغنيات هى لسان ثورة يوليو، تُغنَّى فى احتفالاتها الرسمية. جاهين نفسه كسر فيما بعد كل أطر اللغة الرسمية لغة ومضموناً، هو الذى كتب «بانو بانو» ساخراً من الرموز ومما كان محل مدحه من قبل، يكتب جاهين فى رباعياته: «يا طير يا عالى فى السماء طز فيك»، وفى الأغنية الشهيرة «بانو بانو» يكتب: «وعرفنا سيد الرجالة/ عرفنا عين الأعيان/ من بره شهامة وأصالة/ تشوفه تقول أعظم إنسان/ إنما من جوه يا عينى عليه/ بياع ويبيع حتى والديه/ وأهو ده اللا تعلمنا على أيديه/ القهر وقوة غليانه».. تصبح السياسة لدى جاهين: «شيكابيكا وبولوتيكا.. ومقالب أنتيكا ولا تزعل ولا تحزن.. أضحك برضة يا ويكا».
هل سنمنع أغنيات سيد درويش وصلاح جاهين وأم كلثوم...وقائمة أخرى تطول، بنفس الأسباب التى نمنع بها أغنيات المهرجانات؟ يمكن سرد مئات الدلائل على فساد ذوق الرقابة، لا لأن الأغنيات عظيمة، ولكن لأن الحل الوحيد أمام المجتمع اقترحه طه حسين منذ سنين طويلة، فى كل أعماله. لكن عندما نعود إلى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» سنجد أن العميد كانت معركته الأساسية هى تحرير العقل من الجمود والرتابة كان الدفاع عن العقل معركته الرئيسية... والتعليم والحرية هما أدواته لتحرير العقل. بالنسبة له كانت «الرقابة مكروهة مهما يكن الموضوع الذى تراقبه. ولن يكون الأدب حراً إلا إذا كان القلم حراً فى كل ما يطرق من موضوعات». بل يرى كذلك أن الرقابة بمنعها تحمى الرذيلة لأنها المنع لا يؤدى دائماً إلى اختفاء ما يصادر بل بحث الجميع عنه، ما يؤدى إلى انتشاره. يقول العميد: «لحرية الرأى شرُّها أحيانًا ولكن لها خيرها دائمًا، ونفع الحرية أكثر من ضرها على كل حال، وما أشك فى أن كثيرًا من الآثام الفردية والاجتماعية سيزول أو تخف أضراره إذا أتيح للأدباء أن يتناولوه بالنقد والتحليل وبالعرض والتصوير، وما أشك فى أن قوانيننا حين تتشدد فى مصادرة ما تصادر من حرية الأدب لا تحمى الفضيلة وإنما تحمى الرذيلة وتخلى بينها وبين النفوس».
لا مكان للرقابة‮. ‬هى الآن مجرد‮ «وهم»» ‬فى‮ «رءوس» ‬من‮ ‬يتوهمون أنهم‮ ‬يمثلون سلطة،‮ ‬سواء أكانت هذه السلطة سياسية أو دينية أو اجتماعية‮..‬ ولكنهم فى الحقيقة مجرد‮ «‬ديناصورات»» ‬مكانها الطبيعى متحف الكائنات المنقرضة‮.
يكتب يوسف إدريس فى قصته الشهيرة «المرتبة المقعرة» عن عريس، فى ليلة عرسه يرقد على المرتبة الجديدة المنفوشة بجسده الفارع الضخم، واستراح إلى نعومتها وفخامتها، وقال لزوجته التى كانت واقفة بجوار النافذة: - انظرى.. هل تغيرت الدنيا؟ ونظرت الزوجة من النافذة ثم قالت: - لا.... لم تتغير. نام يوماً، وأسبوعاً، وعاماً ثم عشرة أعوام، كانت المرتبة قد صنعت لجسده أخدوداً عميقاً، وكان قد مات وسحبوا الملاءة فوقه فاستوى سطحها بلا أى انبعاج، وحملوه بالمرتبة التى تحولت إلى لحد وألقوه من النافذة إلى أرض الشارع الصلبة. حينذاك وبعد أن شاهدت سقوط المرتبة اللحد حتى مستقرها الأخير، نظرت الزوجة من النافذة وأدارت بصرها فى الفضاء وقالت: - يا إلهى! لقد تغيرت الدنيا.
لقد تغيرت الدنيا بالفعل!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة