مفهوم الفن
مفهوم الفن


الثقافة ترتدى النقاب

محمد سمير ندا يكتب : بين إنكار المومس واستنكار الفضيلة!

أخبار الأدب

السبت، 27 نوفمبر 2021 - 05:09 م

أهناك تعريف واضح للفن؟
يتسع مفهوم الفن حين يرتبط بمفردات تحمل صفة العمومية كالإبداع والابتكار والجمال، وبقدر هذا الاتساع يتضبب المعنى ويحار الكثيرون حيال وضع التفسير الأكثر اتساقًا مع هذه الكلمة الشائكة التى تظل قادرة على بثّ انطباعات متباينة ومتضادة فى نفوس سامعيها، فالفنّ مقبول فى حدود تسيّجها ثقافة المتلقي، ومرفوض إذا جاء خارج تلك الحدود الشخصيّة التى تتفاوت معالمها بين متلقٍّ وآخر. ذلك إن الفن قد يرتبط بالترفيه المحض فى بعض الآونة، كما أنه يتجاوز ذلك الأفق المحدود إلى فضاءات أكثر خصوبة حين يدور فى فلك بالمواربة، وأعنى بهذا الفن الذى لا يُفصح عن مكنونه لكل عابر، ويتطلب جهدًا عقليًّا لسبر فحواه، يشمل ذلك فئات عدة من الفنون التى تتنوّع بين الأدب والسينما والفن التشكيلى والشعر وخلافه. 
ربما يجنح البعض إلى اعتماد تفسير فلسفى للفن كقول أرسطو إن الفن أحد أشكال علاج الروح (فان جوخ أيضًا له عبارة مماثلة عن دور الفن فى التعافى حسب ما أذكر)، وقد يميل بعض آخر إلى تبسيط الأمور وتقريبها إلى الواقع اليومى المُعاش، فيقول إن الغرض من الفن هو غسل تراب الحياة اليومية عن أرواحنا كما قال بيكاسو. ولأن الصفحات حتمًا لن تتسع لعرض كل تأويلات البشر عن الفن عبر العصور، فإنّنى أؤثر أن أكبح رغبتى فى الاستطراد فى شأن تعريفات الفن عند هذا الحد، على أن أعود لها -مُوجِزًا- فى الختام.

ثنائية العهر والفضيلة
فى ظل الجدل المستعر حول مسرحية «المومس الفاضلة» التى أُعلن عن بدء التحضير لإعادة تقديمها على خشبة المسرح المصرى منذ أيام، عاد السؤال الأوّل ليدق أبواب العقل. السؤال حول ماهيّة الفن، وقابليته للخضوع لتعريف وتفسير واضح يُسلّط الضوء على الحدود الفاصلة بين كلمة «الفن» والكثير من الكلمات الأخرى التى تُنسب له بين حين وآخر.
المسرحية المعنيّة هى مسرحية معروفة لسارتر، عُرضت سنة 1946 لأوّل مرة، وكان سارتر قد استقى حكايتها -خلال رحلة قام بها إلى أمريكا-من قضية Scottsboroالشهيرة التى وقعت فى بداية الثلاثينات،وقضت بعقاب عدد من الرجال السود إثر إدانتهم باغتصاب عاهرتين تنتميان إلى طبقة أسمى من البشر آنذاك؛ طبقة الإنسان الأبيض. 
المسرحية تُقدّم صراعًا بين السلطة والفضيلة فى ظاهرها، ثم تضع الفضيلة على كفتيّ ميزان، فيحملها فى الأولى سياسيّ متنفّذ، وفى الثانية تحملها عاهرة متمرّسة، فتُرى أى الكفتين تَرجح عن الأخرى؟ هنا يتبلور السؤال وتُفصح الحبكة عن مضمونها، فالمومس ترفض شهادة الزور التى يريدها الساسة، وتتعرض لضغوط بدنيّة ونفسيّة قاسية حتى تُدلى بشهادة تحمل براءةً للأبيض، وموتًا للزنجي. يجب هنا الإشارة أن سارتر وضع نهاية أولى للمسرحية فى نصها الأول، ثم قام بتغييرها فى مطلع الخمسينات، ولا نعرف أى نهاية سوف تعتمدها النسخة المصرية الأحدث من المسرحية.
أبواق الاحتجاج المتأهبة
فور ذيوع نبأ نيّة بعض الفنانين إعادة تقديم عرض مسرحية المومس الفاضلة، التى سبق أن قُدّمت على المسرح القوميّ المصريّ سنة 1958 (لاحظ: المسرح القومي)، تعالت أصوات المستنكرين والمعارضين والمحتجين المنتمين إلى فصائل ومشارب عدّة.والحقيقة أن الاعتراض فى حدّ ذاته لم يزعجنى بقدر ما أزعجنى ما كشفته الاعتراضات من تراجع ملموس فى الوعى الثقافى لدى غالبيّة المصريين، ولا أود أن أتحدث عن تراجع الوعى الثقافى الجمعى حتى لا أتهم بالمبالغة وربما التجنّي. 
لكن، أن يطالب بعض المنتمين إلى ميادين الثقافة والإعلام والصحافة بالمنع والحجب فهذا أمر له دلالته، كما أن اختزال الأزمة فى عنوان يزاوج بين العهر والفضيلة فى عبارة واحدة، ثم انتشار مقترحات بتغيير لفظ «المومس» واستبداله بأى لفظ آخر، فهذه دلالات أخرى شديدة الخطورة! 
ليس من المعقول أن نُطالب عموم الجماهير المصريّة بمعرفة كل مسرحيات سارتر، ولا أن نطالبهم بالقراءة لسارتر أو حتى التعرف على فلسفته الوجودية، كما لا يجب أن نلقى باللوم على الجيل الحالى لجهله بتاريخ المسرح القومي، فلا لوم عليهم ولا جناح، فهم لم يبيعوا تراث التليفزيون للفضائيات العربية. لكن المزج بين ضدّين كالفن والمنع، أو الإبداع والحجب، هو أمر بات شائعًا ودارجًا إلى حدٍّ بات يستلزم التوقف وتأمل المسببات والدوافع والنتائج.
هذه المومس الفاضلة وضعتنا اليوم أمام مرآة نعاين فيها آثار تفشّى خطاب الإقصاء وفلسفة الرفض قبل المطالعة، ولو خرج علينا محتجّ باعتراض يُفنّد فيه المسرحية ويبلور رسالتها الهدّامة للقيم والسلم المجتمعي، لكان الأمر جديرًا بالنقاش والمحاورة. لكن هذه الأبواق الجوفاء لا تُناقش المحتوى بقدر ما تتشبّث بالعنوان. البعض يهجو هذا العمل (الفنّي) لوازع ديني، والبعض يتحدث عن فجاجة اللفظ اعتراضًا على اتساقه مع المجتمع ورفض العوام له لما يتضمنه من دعوة ضمنية ربما تحرّض على الفجور! 
وإن كانت العناصر التى أودت بالمثقف المصرى -وحتى المتلقي- إلى تناول الفن بمثل هذه السطحيّة تتشعب وتمتد بجذورها ضاربة فى تاريخ يمتد إلى قرابة سبعة عقود، فإن إيجاز مسبباتها وارد، إذ يكفى أن نشدّ وتري القوس حول عبارات مثل «شيوع الاستبداد الفردي» و «اعتياد الفرد على ممارسة القمع الفكرى والسياسى والمذهبي» و «الانحياز لضمير الأنا» و «رفض الآخر»، علاوة على «التعصب العقائدى وعقلية القطيع»، و «الجنوح إلى فرض الوصاية»، وقبل كل ذلك وبعده «غياب التأسيس الثقافى والفنى السليم للناشئة فى المدارس وفى مؤسسات الدولة»: هذه العبارة الأخيرة أدّت إلى كل ما سبقها.
صورة المجتمع المصرى فى مرآة مومس سارتر
ماذا عكست لنا مرآة الأزمة؟ ما هى صورة الفن المرتدة من حناجر المعترضين وعيون حاملى رايات المنع والحجب والكشط والتعديل؟ إن كان الفن مرآة الشعوب فقد شُرخت مرآة الفن المصرى فى أكثر من مناسبة، وأنا هنا لن أقطع بتحطّمها تخفيفًا للواقع ليس إلّا. لكن، لا يمكن أن ننسى فى خضم هذا الموقف دعاوى الحبس والمنع والحسبة التى رُفعت ضد فنانين وكتاب وصحفيين ومخرجين خلال العقود التالية لعودة المهاجرين المصريين من البلاد العربيّة، بعدما عُبئات رؤوسهم بعقائد بديلة لا تعرف الوسطيّة! لذلك عكست مرآة المومس الفاضلة مجتمعًا يقتدى بالنعام أمام مرآة الفن، ولنا فى حملات (تجريم) فيلم «ريش» خير نموذج، فقد رفضت أصوات تُصنّف ضمن نخبة الفنانين الفيلم، لا لسبب منطقيّ سوى إنه يعكس صورة قبيحة لواقع لا ينكر وجوده فوق الأرض إلا واهم أو منافق أو مُضلَّل، ولو كان انتقاد الفيلم نابعًا من نقد التقنيات السينمائية المستخدمة لكان مقبولًا، لكن رفضه بصكّ «تشويه سمعة البلاد والعباد» أمر مرير لا يقلّ فى مرارته عن الجدل الدائر اليوم عن مومس سارتر. 
مجتمعنا يرفض أن يحمل اسم العرض المسرحى لفظ المومس، لكنه لا يعارض وجود المومس ذاتها فوق الأرض، ولو أن امرأة أرادت أن تمتهن البغاء لما حرّضها على ذلك عرض مسرحى لم تسمع عنه إلا من جحافل المعترضين الذين هبوا لحمايتها من الزلل! كما إن المجتمع ذاته يرفض أن تُقدّم المومس على فعل يتّسق مع الفضيلة، كأنّه بذلك يحرمها من توبة يسمح بها الخالق! تلك التوبة التى نتعلق (كلنا) فى أذيالها، مبررين لأنفسنا جُلّ الخطايا، وأكبر الآثام. فهل ننكر وجود المومس، أم نستكثر عليها إتيانها بفعل الشرفاء؟
مجتمعنا بات يُثقل عبارة الفن بالكثير من القيود والاشتراطات والجنازير، والأمر لا يتعلق بنشاط فصيل ما بقدر ما هو مرتبط بآفة استشرت فى عقول المصريين واستفحلت حتى بات الفرد ضدًّا للفن. يقول كونديرا إن كاره الفن لا يحيا فى سلام، حيث يشعر أن وجود شيء لا يفهمه -أى الفن- يهينه، فيكرهه بالتبعية. لعل هذا التعبير يفسّر الكثير من العداء العشوائيّ -أو الفطريّ- الموجّه إلى متنوع الفنون؛ انعدام القدرة على تعاطى الفنون وتفسيرها واستيعابها، ومن ثم الاستمتاع بها. 
إن غابت المتعة؛ وُلد الفتور وتراكم العداء...
والمرء عدو ما يجهله....
هكذا يظهر وجه الخطر الحقيقى جليًّا سافرًا: الجهل بالفنون، وتدنى الوعى الثقافى هما الآفة التى يتوجّب على الدولة محاربتهما وفق معايير يجب أن توضع بعناية من متخصصين فى الفن، ولا شيء سواه.
ماهية المتلقى وكيفية تأهيله
متلقو الفنون هم عوام الناس. الفن لا يقدّم للنقاد والإعلاميين والدارسين على الأخص، بل إن وظيفة هؤلاء هى عرض تلك الفنون وتقييمها وفق منهج نقدى لا يخضع للعواطف والميول. يقول الرسام الفرنسى إدجار ديجا إن الفن ليس ما يراه من يُقدمه، بل هو ما يراه الآخرون. بهذا يضع الرجل سبابته على نقطة شديدة الأهمية فيما يتعلق بالعلاقة بين الفن والمتلقي. المتلقى هو الناقد الأول، وهو الحكم، وهو المعنيّ بتأويل الفنون وتعاطيها، ولكى يقوم المتلقى بهذا الدور المفصليّ المحدّد لمسارات الفن والفنانين، ينبغى عليه أن «يرى» هذه الفنون، أن يشاهد اللوحات والتماثيل والعروض الفنية، أن يقرأ الكتب ويستمع إلى الموسيقى. من الحتميّ أن تنشأ حالة من الاعتياد بين العين والفن، لابد أن يألف المتلقّى مرأى الفنون كلها حتى تتشكّل ذائقته ويقرّر أيّ الفنون أقرب إلى وجدانه، وأيّها قصيّ عن اهتمامه. فما هى القنوات التى تؤهّل المتلقى لبلوغ هذه الحالة من الاعتياد؟ ما هى الأواصر التى تربط اليوم بين عوام الناس والفن؟
المسئولية مشتركة، تقع على عاتق الدولة والمجتمع، بيد إن الشق الأكبر يقع على عاتق الدولة، ولعلنى لا أجد حرجًا فى أن أكرر هنا ما قلته مرارًا عن غياب دور قصور الثقافة فى العاصمة والمحافظات والقرى. كرجل أربعينى ارتبط والداه بوزارة الثقافة ردحًا من الزمن، أعرف ما يمكن أن تقدمه قصور الثقافة، بل وشهدتُ على ذلك مرارًا0 أين الورش الفنيّة والفرق المسرحيّة التى طالما قدمت الموهوبين فى شتى ميادين الفن؟ أين هى ميزانيّات هذه القصور التى استحالت أثرًا بعد عين فلم تعد تنال من اسمها حظًا ولا نصيبًا؟ ما عادت قصور، وما ظلت حاضنة للثقافة، ولو أن هذه المؤسسات الحكومية استمرت فى تأدية الدور الذى كانت تضطلع به حتى منتصف الثمانينات لكنا اليوم فى حال أفضل مما نحن فيه. كانت النشاطات التى تقدمها هذه القصور تُسهم كثيرًا فى تشكيل الوعى الفنى والثقافى للشباب والأطفال فى طور التكوين، لذلك من النادر أن تجد اليوم رجلًا عرف الفنون فى رحاب هذه القصور، يُصدر ضد الفنون أحكامًا تتضمن عبارات مثل المصادرة والمنع والحجب والحبس!
علاوة على ذلك، وبرغم إننى أطلُّ على القارئ اليوم من منبر ثقافى مهم هو «أخبار الأدب»، إلا أن -ما بقى من- المطبوعات التى تعنى بالفنون والثقافة يلاقى تراجعًا ملحوظًا منذ تحوّلت بوصلة الناس إلى الفضاء الإلكترونيّ العامر بالفوضى والمعايير المغلوطة. لابد من دعم هذه الإصدارات حتى فى صيغتها الإلكترونية، من الحتميّ أن يحرص القطاعان الحكوميّ والخاص على توسعة رقعة قُرّاء هذه المنشورات المتخصّصة، وعلى القائمين على هذه المطبوعات أن يواكبوا عقليّة المتلقّى الحالي، فيعتمدون نهجًا من شأنه تنمية المدارك، وتغذية العقول الموصّلة بأسلاك الموبايل وصفحات الفايسبوك، دون تعقيد أو تعالٍ. وختامًا لهذا الطرح الخاص بتأهيل المتلقي، لا يمكن أن أنهى كلماتى دون الإشارة إلى انعدام -ولا أقول ضعف- الاهتمام بالدراسة الفنية والموسيقية فى المدارس(خصوصًا الحكوميّة). أمر أهملناه لعقود، وندفع اليوم فاتورة إهماله.
عود على بدء
لا أعرف إن كان من الجائز أن أختتم هذه الكتابة بتعريفٍ خاص أضعه وفق منظورى للفن، الفن الذى لا يقبل أُطر التعريفات ويضيق بكل القيود ذرعًا، الفن الذى هو أهم أداة للتعبير، وأصدق مرآة لواقع الأمم،ومكوّن أساسى للحضارة.
لا ينبغى أن نعقّد الأمور عبر تناول ثلاثيّة التمثيل والتعبير والشكل لتفسير الفنون، كما لا يجب أن نعمل على تبسيطه فنكتفى بأن وظيفته الأسمى هى تذكير الجسد بأنه مخلوق للمتعة لا الشقاء، كما قال العظيم أنسى الحاج.
بيد إننى أستطيع القول إننى أؤمن أن كلمة الفن هى كلمة جامحة/جامعة، نُسجت من مفردات الخيال والخلق والجمال، ذلك لفظٌ لا يتوجّب علينا أن نحاصره بفوهات المدافع حتى يكشف عن رسالته! الفن طيّع كفعل الخلق، عاكس للواقع الملموس، وكاشف لواقع آخر مطمور فى الصدور،أو وراء السحب الاجتماعية والثقافية التى تفصل بين العقل والبصر، وبين البصر والبصيرة. بحور الفن واسعة كالخيال؛ فهل هناك حدود للخيال؟ وهل هناك نقطة نهاية للفضاء الكوني؟ 
نهاية، إن كان من الضرورى وضع حدّ واضح للفن يفصله عن أسراب هائلة من المفردات المتشابكة، فإننى أرى أن «الوعي» هو هذا الحد، لكن هذا الوعى يظل فرديًّا لا جمعيًّا، أى أن كل فرد يحمل على عاتقه مسئولية وضع حدوده الخاصة لكلمة الفن، وتأويله الخاص لكل شكل من أشكاله، دون فرض هذا التأويل على الآخر، أفلا تأوّل الرؤى بأكثر من تأويل؟
اقرأوا مسرحية سارتر، شاهدوا العرض المسرحي، ثم اعرضوا آراءكم بكل حرية، وموضوعية.
وقبل كل هذا، احرصوا على أن تخلقوا لدى أبنائكم حالة التآلف مع الفنون: (ألفةٌ بين الفن والعين).


 

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة