الفوتوغرافيا المصاحبة للبستان
الفوتوغرافيا المصاحبة للبستان


الثقافة ترتدى النقاب

عصام زكريا يكتب : من يملك حق المنع ومن يمكنه حقا أن يمنع؟

أخبار الأدب

السبت، 27 نوفمبر 2021 - 05:13 م

خلال الأسابيع الأخيرة تعلو أصوات كثيرة تهلل لمنع فيلم أو إيقاف مغن أو سجن مفكر، ويعتقد أصحاب هذه الأصوات بحسن نية، غالبا، وبسوء نية أحيانا، أنهم يخدمون البلد والفن والأخلاق والعقيدة حين يطالبون بمزيد من الرقابة
من حق هؤلاء أن يغاروا على مقدساتهم، ولكن حتى يكون لمطالبهم شرعية وتطبيق يحتاج الأمر إلى بعض التساؤلات حول البديهيات: ما هى الرقابة، وما هى مؤهلات الرقيب وما وظيفته؟

ما الذى تهدف إليه الرقابة، حقا؟
هل هو المنع؟ حماية المواطنين من التعرض لمواد ضارة بهم؟ أو حماية السلطة من تعرض المواطنين لمواد محرضة؟
ولكن إذا لم يكن من الممكن منع هذه المواد عمليا، وإذا كان المواطنون يستطيعون بالفعل الوصول إلى هذه المواد الممنوعة، فما الذى يهدف إليه الرقيب فى هذه الحالة؟
مجرد تأدية الواجب؟! تنفيذ وظيفته المطلوبة منه فى حدود السلطات التى خولها له القانون؟ لحسن الحظ (أو لسوئه بالنسبة للرقباء) لم يصدر قانون بعد بمعاقبة المواطن الذى يشاهد فيلما ممنوعا أو يقرأ كتابا ممنوعا، ولم يصدر قانون بعد بتجريم حيازة كمبيوتر أو هاتف محمول أو الدخول على الإنترنت، ولم يصدر قانون بعد بحجب الفضائيات العالمية والعربية أو المنصات الرقمية الأجنبية والعربية. ولذلك فإن سلطة الرقيب حاليا محدودة بما يطلق عليه «العرض العام»، أى دور العرض السينمائي، أو الكتب الورقية المطبوعة الصادرة من جهة نشر معروفة، والتى تباع فى منافذ كتب يمكن أن يصل إليها الرقيب. ولكن هل يمكن منع مواطن من تحميل الفيلم أو الوصول إلى أى منفذ آخر يعرض الفيلم؟ مستحيل.
لقد انتهت الأزمنة التى كان يمكن فيها لمسئول دولة أو قرية أو بيت أن يمنع عن أهل هذا البلد أو البيت الوصول إلى المواد الممنوعة، سواء كانت كتابا أو فيلما أو معلومة. 
كنت فى زيارة للصين حيث يمنع الفيسبوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعى وغيرها، وعلى الرغم من معلوماتى الضعيفة جدا فى الإنترنت، إلا أننى استطعت الوصول إلى ما أشاء من صفحات عن طريق برنامج بسيط جدا يمكنه فتح أى موقع.
فى الصين وكوريا الشمالية وإيران وأفغانستان وكل مكان يعتقد فيه الرقيب أنه مسيطر، يستطيع أى مراهق أو طفل لديه دراية بسيطة بالإنترنت أن يصل لأى مواد مرئية أو مسموعة أو مقروءة يريد الوصول إليها.
عمليا كل ما ينجح فيه الرقيب هو حث المواطنين على مزيد من البحث عن الممنوعات، وتطوير أدواته فى الوصول إلى أى مواد لا يرغب الرقيب فى أن يصل إليها.
.. ولكن إذا كان المنع، عمليا، مستحيلاً، فما الذى يرغب فيه الرقيب، ولماذا يصر على أن الأمر ممكن؟
هل هو نوع من «ضرب المربوط يخاف السياب»؟ هل الهدف هو الإيهام بالسيطرة؟ مثل الرجل التركى المتغطرس الذى أفلست تجارته وراح زمنه، فقام بشراء عدد من قلل الماء وصنع منها سبيلا، ليتحكم فى المارة الذين يريدون شربة ماء؟ ولكن ماذا لو لم يرغب المارة فى شرب هذا الماء، وراحوا يبحثون عن ماء آخر مجانى لا يتحكم فيه أحد؟ هذا هو ما يحدث الآن من انسحاب للشباب من المجال العام والاستغراق فى عوالمهم الحرة حيث يستطيعون أن يشاهدوا ويقرأوا ويشربوا ما يرغبون من ماء.
عندما يصدر هانى شاكر رقيب (أقصد نقيب) الموسيقيين قرارا بإيقاف تسعة عشر مغنيا من أشهر نجوم الغناء الشعبى الحاليين، فهل يعتقد بالفعل أنه منعهم من الغناء؟ هل يوجد قانون يمنع المرء من الغناء؟ هل يعقل هذا؟ لنفترض أننى قمت بتسجيل أغنية وقمت بوضعها على صفحتى على الفيسبوك أو على اليوتيوب، فهل يمكن لهانى شاكر أن يكتب ذلك فى تقرير فيتم إغلاق الصفحة، مثلا؟
وإذا قام صاحب حفل زفاف بدعوة واحد من هؤلاء المغنين الموقوفين ليغنى فى زفافه، فهل سيصل مندوب متخف من نقابة الموسيقيين ويقوم بالقبض على المغنى وإلغاء الفرح؟ 
لنفترض أن هذا ممكن، وأن القانون يمنع إنشاء نقابة أخرى، وأن هذين المغنين ومئات غيرهم منعوا بالفعل من الغناء ولو فى الحمام، فكيف يمكن تصور هذا العالم الذى يمنع فيه المرء من الغناء لأصدقائه أو نفسه؟
نظرية «اضرب المربوط يخاف السايب» هى نوع من بث الخوف فى النفوس وقتل الإبداع، ثم تأتى وتقول أين القوة الناعمة فى مصر ولماذا لا تقوم بدورها كما كانت تفعل على مدار أكثر من قرن؟
ستقول لا! نحن لا نستهدف الإبداع الحقيقى ولكننا فقط نحارب الإسفاف والابتذال والسوقية والقبح وازدراء الأديان والخروج على تقاليدنا الأصيلة وأخلاقنا الجميلة. ولكن من الذى يحدد الخط الفاصل بين الإبداع واللا إبداع وبين الفن واللافن وبين الجمال والقبح وبين الأخلاقى وعديم الأخلاق؟ كل من هب ودب الآن يحكم على الأعمال الفنية ويمنحها أو يجردها من القيمة الفنية أو الوطنية. يردد ثلاثة مواطنين على موقع للتواصل الاجتماعى أن هذا المسلسل أو ذاك الفيلم مسيئ للأخلاق، فيجرى الصحفيون لترديده على المواقع أملا فى «التريند» ، ويصنعون قصة من لا قصة ويمنحون حق الرقابة لمروجى الاتهامات ولأنفسهم دون وجه حق. هل من حق الرقابة على المصنفات فقط أن تحكم؟ بالتأكيد هذا أرحم من ترك الحكم لأى شخص، حتى لو كان جاهلا أو مغرضا أو لا يفهم شيئا فى الفن. إذا كان أهل الاختصاص من فنانين وأساتذة فن ونقاد يختلفون فى تقييمهم للأعمال، ولا يكاد يوجد فيلم أو كتاب أو أغنية إلا واختلف عليها المتلقون والمتخصصون معا. وكم من روايات منعت وسجن أصحابها، وكم من أفلام منعت ونبذ أصحابها ثم أنصفها الزمن وأصبحت من الروائع الكلاسيكية (ولن أذكر «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ أو «القاهرة منورة بأهلها» ليوسف شاهين أو «البرىء» لعاطف الطيب، أو غيرهم من كبار الأدباء والفنانين العالميين والمحليين ولكن سأذكر أحمد عدوية وحميد الشاعرى ونانسى عجرم، فهم أمثلة قريبة من موضوعنا، حتى لا يقول أحد لا تقارن مغنى المهرجانات بهؤلاء القامات).
عندما يذكر تعبير «القوة الناعمة» فالبعض يخطر بباله كلمة «ناعمة» فقط، ولا يفكر فى كلمة «قوة». القوة بالأساس تعنى «الحرية»، ولا يمكن وجود قوة لا تملك حريتها فى ممارسة هذه القوة، وإلا صارت قوة خائبة، بل أنياباً، لا يمكنها تغيير الوضع القائم، ولا يمكنها التأثير فى الناس.
إذا قست «القوى الناعمة» فى العالم الآن، فسوف تجد أن أقواها للمبدعين الذين يتمتعون بالقدر الأكبر من الحرية: أمريكا، أوروبا، اليابان، كوريا الجنوبية. لا أحد يتوقف فى هذه البلاد ليثير زوبعة حول فيلم أو مسلسل لأنه «يسيء لسمعة بلده» أو لأنه «ينشر غسيلها الوسخ» أو لأن صاحبه خائن أو عميل.
ولكن هل يعنى ذلك أن نترك كل من شاء أن يخرب أو يخرف أو يبتذل ويسف كلما عنّ له الإسفاف والابتذال؟ هكذا يسأل المتخوفون ومعهم حق. لكن الحق هو أن الرقابة ليست هى الإجابة على هذا السؤال. هناك التعليم والإعلام والتوجيه ورفع الذوق الجمالى والحس الأخلاقى والوطنى لدى المواطنين، وهناك الدعم للأعمال الجيدة، وفوق ذلك إدراك أن النقد مشروع: الغث منه نهمله والثمين نستفيد به.. ليس هناك فيلم أو أغنية أو كتاب أضر بسمعة بلد، إلا فى حالة قيام الرقيب بمصادرة هذا العمل، فهذه هى الدعاية التى يتمناها أى كاره وعدو للبلد. لا يفل الحديد سوى الحديد، ولا يفل الفكر سوى الفكر، ولا الفيلم سوى إنتاج فيلم مضاد. المجتمع والزمن مثل الغربال الذى يفرز كل شيء. فى نهاية المطاف فإن ما يبقى فقط هو ما ينفع الأرض.


 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة