جسر بضفة وحيدة
جسر بضفة وحيدة


رضوى الأسود تكتب أن تُسجَن فى الماضى

أخبار الأدب

السبت، 01 يناير 2022 - 04:27 م

‮«‬تبدأ‭ ‬غربتك‭ ‬الداخلية‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تدرك‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬فى‭ ‬الخارج‭ ‬يمكنه‭ ‬منحك‭ ‬السكينة‮»‬‭. ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬المفتاحية‭ ‬مدخلًا‭ ‬لرواية‭ ‬‮«‬جسر‭ ‬بضفة‭ ‬وحيدة‮»‬‭ ‬للكاتبة‭ ‬والناقدة‭ ‬الأردنية‭ ‬هيا‭ ‬صالح،‭ ‬والصادرة‭ ‬مؤخرا‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬‮«‬الآن‭ ‬ناشرون‭ ‬وموزعون‮»‬،‭ ‬والتى‭ ‬تصحبنا‭ ‬معها‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬محوره‭ ‬الأساسي‭: ‬الموت‭.‬

بطلة‭ ‬الرواية‭ ‬سامية،‭ ‬وهى‭ ‬الساردة‭ ‬التى‭ ‬تحكى‭ ‬حكيًا‭ ‬أنثويًّا‭ ‬ناعمًا‭ ‬عن‭ ‬مشاعر‭ ‬الحب‭ ‬والفقد،‭ ‬عن‭ ‬اختبار‭ ‬الموت،‭ ‬والوحدة،‭ ‬والاغتراب‭ ‬الداخلى‭. ‬تعيش‭ ‬فى‭ ‬ماض‭ ‬لا‭ ‬تغادره‭ ‬ولا‭ ‬يبرحها،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الحاضر‭ ‬عجز‭ ‬عن‭ ‬إزاحته،‭ ‬بفشله‭ ‬فى‭ ‬تقديم‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التعويض‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬الضائع،‭ ‬ورحيل‭ ‬الأبوين،‭ ‬فكان‭ ‬اجترار‭ ‬الماضى‭ ‬يشبه‭ ‬حيلة‭ ‬ما‭ ‬لهدهدة‭ ‬القلق‭ ‬الداخلى،‭ ‬والأزمة‭ ‬الوجودية،‭ ‬لكن‭ ‬فى‭ ‬حقيقة‭ ‬الحال،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬الاستدعاء‭ ‬سوى‭ ‬تدمير‭ ‬للحاضر،‭ ‬وربما‭ ‬المستقبل‭.‬

الرواية‭ ‬المكونة‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬عشر‭ ‬فصلًا‭ ‬نرى‭ ‬فيها‭ ‬سامية‭ ‬الزوجة‭ ‬والأم‭ ‬لطفلين،‭ ‬والتى‭ ‬تحترف‭ ‬التصوير‭ ‬الفوتوغرافى،‭ ‬تعانى‭ ‬من‭ ‬تعاسة‭ ‬فى‭ ‬حياتها‭ ‬الزوجية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬حنان‭ ‬زوجها،‭ ‬ومعاملته‭ ‬الطيبة‭ ‬لها؛‭ ‬فهناك‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مفقود‭ ‬بينهما‭.‬

تبدأ‭ ‬الأحداث‭ ‬برسالة‭ ‬من‭ ‬مجهول‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬سامية،‭ ‬مكتوب‭ ‬فيها‭ ‬عبارة‭ ‬غاية‭ ‬فى‭ ‬الرومانسية،‭ ‬يعترف‭ ‬فيها‭ ‬حبيب‭ ‬لحبيبته‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬ينسها‭ ‬رغم‭ ‬مرور‭ ‬الزمن،‭ ‬وموضح‭ ‬تحتها‭ ‬أنها‭ ‬اقتباس‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬جسر‭ ‬بضفة‭ ‬وحيدة‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تبدأ‭ ‬البطلة‭ ‬رحلة‭ ‬مترعة‭ ‬بالغموض‭ ‬والإثارة‭ ‬والبهجة‭ ‬والحزن‭ ‬فى‭ ‬آن،‭ ‬فتقابل‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬غامض‭ ‬شابًا‭ ‬يعمل‭ ‬نادلًا‭ ‬فى‭ ‬مقهى‭ ‬هى‭ ‬زبونته‭ ‬الوحيدة،‭ ‬ويدور‭ ‬بينهما‭ ‬حوار‭  ‬فلسفى‭ ‬عن‭ ‬الموت،‭ ‬ثم‭ ‬يظهر‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬حبيبها‭ ‬الذى‭ ‬تكتشف‭ ‬أنها‭ ‬بالفعل‭ ‬لم‭ ‬تحب‭ ‬سواه‭ (‬عمَّار‭)‬،‭ ‬والذى‭ ‬تستعيد‭ ‬معه‭ ‬قصتهما،‭ ‬ويحاول‭ ‬أن‭ ‬يأخذها‭ ‬معه‭ ‬باتجاه‭ ‬جسر‭ ‬يعبر‭ ‬نهرًا،‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬أقرب‭ ‬للخيال‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭. ‬وفى‭ ‬غمار‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬تسوء‭ ‬حالتها،‭ ‬فتهمل‭ ‬أطفالها،‭ ‬وتنسى‭ ‬ميعاد‭ ‬افتتاح‭ ‬معرض‭ ‬التصوير‭ ‬خاصتها،‭ ‬وتتوتر‭ ‬العلاقة‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬زوجها‭. ‬لنكتشف‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬أن‭ ‬لقاءها‭ ‬بالنادل‭ ‬وبـ»عمّار‮»‬‭ ‬محض‭ ‬خيال،‭ ‬وأن‭ ‬المقهى‭ ‬والنهر‭ ‬وكذلك‭ ‬الجسر‭ ‬ليس‭ ‬لهم‭ ‬أية‭ ‬وجود،‭ ‬وأنها‭ ‬تماهت‭ ‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬يُصَدَق‭ ‬مع‭ ‬الرواية‭ ‬التى‭ ‬تقرأها‭ ‬والتى‭ ‬تحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬جسر‭ ‬بضفة‭ ‬وحيدة‮»‬،‭ ‬والتى‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬حصلت‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬مكتبة‭ ‬والد‭ ‬حبيبها‭ ‬القديم‭ ‬واحتفظت‭ ‬بها،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬كله‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬سوى‭ ‬فى‭ ‬مخيلتها‭ ‬فقط،‭ ‬ولا‭ ‬ينتمى‭ ‬للواقع‭ ‬بصلة‭! ‬أى‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬رواية‭ ‬داخل‭ ‬الرواية،‭ ‬يتراوح‭ ‬فيها‭ ‬الزمن‭ ‬السردى‭ ‬بين‭ ‬مضارع؛‭ ‬وذلك‭ ‬حين‭ ‬تتحدث‭ ‬‮«‬سامية‮»‬‭ ‬عن‭ ‬واقعها‭ ‬المعاش‭ ‬وحياتها‭ ‬الحالية،‭ ‬وبين‭ ‬ماض؛‭ ‬حين‭ ‬تستدعى‭ ‬مشاهدها‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭.‬

‭>>>‬

تستدعى‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الأحداث‭ ‬سردًا‭ ‬لماض‭ ‬يتغوَّل‭ ‬فى‭ ‬عمق‭ ‬الزمن‭ ‬بعشرين‭ ‬عامًا،‭ ‬فنعرف‭ ‬أن‭ ‬‮«‬سامية‮»‬،‭ ‬الابنة‭ ‬الوحيدة‭ ‬لوالديها،‭ ‬تنتمى‭ ‬لعائلة‭ ‬فلسطينية،‭ ‬هُجِّرت‭ ‬قسريًّا‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬النكبة‭ ‬وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬العراق،‭ ‬وهناك،‭ ‬وهى‭ ‬على‭ ‬عتبات‭ ‬المراهقة،‭ ‬ترتبط‭ ‬روحيًّا‭ ‬وعاطفيًا‭ ‬بالصبى‭ ‬العراقيّ‭ ‬‮«‬عماَّر‮»‬‭ ‬فى‭ ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬عذبة،‭ ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬اندلاع‭ ‬حرب‭ ‬الخليج‭ ‬الثانية،‭ ‬تفر‭ ‬عائلتها‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬الأردن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتمكن‭ ‬‮«‬سامية‮»‬‭ ‬من‭ ‬توديع‭ ‬حبيبها‭ ‬أو‭ ‬إخباره‭ ‬بمكانها،‭ ‬ويظهر‭ ‬لنا‭ ‬كيف‭ ‬تألمت‭ ‬جرَّاء‭ ‬ذلك‭ ‬الإنشطار‭ ‬عن‭ ‬توأم‭ ‬الروح‭ ‬ومصدر‭ ‬السعادة،‭ ‬وهناك،‭ ‬حيث‭ ‬استقرت‭ ‬العائلة‭ ‬فى‭ ‬الأردن،‭ ‬تبدأ‭ ‬‮«‬سامية‮»‬‭ ‬بتجاوز‭ ‬محنتها‭ ‬بالالتفاف‭ ‬حول‭ ‬مشاعرها‭ ‬وذاتها،‭ ‬بادعاء‭ ‬مشاعر‭ ‬لا‭ ‬تحسها،‭ ‬وإنكار‭ ‬أفعال‭ ‬اقترفتها،‭ ‬فكانت‭ ‬تتسبب‭ -‬دون‭ ‬وعى‭ ‬منها‭- ‬فى‭ ‬إيلام‭ ‬الآخرين،‭ ‬لكنها‭ ‬ستكتشف‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬أنها‭ ‬هى‭ ‬من‭ ‬تألمت‭ ‬عنيفًا‭. ‬

فى‭ ‬وقت‭ ‬من‭ ‬الأوقات‭ ‬بدا‭ ‬لـ«سامية‮»‬‭ ‬أنها‭ ‬تعايشت‭ ‬مع‭ ‬حاضرها‭ ‬وحياتها‭ ‬الجديدة‭ ‬فى‭ ‬الأردن،‭ ‬فعاشت‭ ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬كاذبة‭ ‬مع‭ ‬‮«‬سالم‮»‬،‭ ‬وبعدما‭ ‬فقدت‭ ‬والديها‭ ‬ثم‭ ‬صديقتها‭ ‬الأقرب‭ ‬ماجدة،‭ ‬تخيلت‭ ‬أنها‭ ‬فقدت‭ ‬التأثر‭ ‬وأصبحت‭ ‬كائنا‭ ‬لا‭ ‬مباليا،‭ ‬وأكملت‭ ‬حياتها‭ ‬بالادعاء،‭ ‬عاقدة‭ ‬لصُلحِ‭ ‬مع‭ ‬الحياة،‭ ‬لكننا‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬سنكتشف‭ ‬أنها‭ ‬فى‭ ‬الواقع‭ ‬لم‭ ‬تتصالح‭ ‬معها،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬فاقدة‭ ‬للمشاعر،‭ ‬وأن‭ ‬سلسلة‭ ‬الفقد‭ ‬والوجع‭ ‬وما‭ ‬خلَّفته‭ ‬الحرب‭ ‬وما‭ ‬استحدثه‭ ‬النزوح‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬لآخر،‭ ‬جعلها‭ ‬تموت‭ ‬ببطء،‭ ‬قطعة‭ ‬قطعة،‭ ‬بفقدانها‭ ‬الإحساس‭ ‬بمتعة‭ ‬الحياة،‭ ‬وتمنى‭ ‬الموت‭ (‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬واعي‭). ‬فحياتها‭ ‬الحقيقية‭ ‬انتهت‭ ‬بالهروب‭ ‬من‭ ‬العراق،‭ ‬حين‭ ‬تركت‭ ‬روحها‭ ‬وقلبها‭ ‬وذكرياتها‭ ‬معلقة،‭ ‬ورحلت‭ ‬فقط‭ ‬بالجسد‭.‬

المصورة‭ ‬التى‭ ‬احترفت‭ ‬تأبيد‭ ‬لحظات‭ ‬مميزة‭ ‬وفارقة‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭ ‬داخل‭ ‬صورة،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعى‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬التقطت‭ ‬أهم‭ ‬صورة‭ ‬فى‭ ‬مشوار‭ ‬حياتها،‭ ‬وهى‭ ‬صورة‭ ‬بانورامية‭ ‬لماض‭ ‬كامل‭ ‬ذهب‭ -‬بغير‭ ‬رجعة‭- ‬بشخوصه‭ ‬وأحداثه،‭ ‬لكنها‭ ‬اكتشفت‭ ‬أنها‭ ‬علقت‭ ‬للأبد‭ ‬بداخلها،‭ ‬وكأنها‭ ‬سقطت‭ ‬فى‭ ‬خيوط‭ ‬عنكبوتية‭ ‬سميكة،‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬أبدًا‭ ‬من‭ ‬الفكاك‭ ‬منها‭. ‬

لوحات‭ ‬الهذيان‭ ‬التى‭ ‬تبدأ‭ ‬حين‭ ‬تنسل‭ ‬البطلة‭ ‬من‭ ‬واقعها‭ ‬باتجاه‭ ‬خيال‭ ‬قوامه‭ ‬ماض‭ ‬تستدعيه‭ ‬بكل‭ ‬ذرة‭ ‬فى‭ ‬روحها،‭ ‬كُتِبَت‭ ‬بسلاسة‭ ‬ونعومة‭ ‬فائقتين،‭ ‬وقد‭ ‬صورتها‭ ‬الروائية‭ ‬بشكل‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬لوحات‭ ‬تشكيلية‭ ‬تحوى‭ ‬طبيعة‭ ‬صاخبة‭ ‬الجمال‭ ‬والديناميكية‭ ‬والتأثير،‭ ‬حتى‭ ‬أنك‭ ‬كقارىء‭ ‬ستظل‭ ‬حتى‭ ‬قرب‭ ‬النهاية‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الارتباك‭ ‬والتساؤل‭ ‬عما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬واقعا‭ ‬أم‭ ‬خيالا،‭ ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬الرواية‭ ‬تنتمى‭ ‬لفئة‭ ‬الواقعية‭ ‬السحرية،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬قاب‭ ‬قوسين‭ ‬أو‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التصنيف،‭ ‬لولا‭ ‬أننا‭ ‬نصطدم‭ ‬بحقيقة‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يحدث‭ ‬للبطلة‭ ‬هو‭ ‬محض‭ ‬هذيان‭.‬

إنتهاء‭ ‬قصة‭ ‬الحب‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬حرب‭ ‬الخليج‭ ‬الثانية،‭ ‬وسقوط‭ ‬البطلة‭ ‬النفسيّ‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬بغداد،‭ ‬يلقى‭ ‬بظلال‭ ‬الخيبات‭ ‬الشخصية‭ ‬على‭ ‬الشأن‭ ‬العام‭ ‬والأحداث‭ ‬الكبرى،‭ ‬فالوطن‭ ‬حين‭ ‬يصبح‭ ‬منفى،‭ ‬تُنفى‭ ‬معه‭ ‬أرواحنا،‭ ‬وحين‭ ‬يُمنى‭ ‬بالخسائر،‭ ‬تُترَع‭ ‬أرواحنا‭ ‬بالإخفاقات‭. ‬وفى‭ ‬سياق‭ ‬الخيبات‭ ‬الكبرى‭ ‬التى‭ ‬تتناسل‭ ‬منها‭ ‬خيبات‭ ‬مجتمعية‭ ‬وشخصية،‭ ‬يقول‭ ‬الزوج‭ (‬صلاح‭): ‬‮«‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬تجاوز‭ ‬الماضى،‭ ‬سيُسجَن‭ ‬الفرد‭ ‬بداخله‮»‬،‭ ‬وتقول‭ ‬الزوجة‭ (‬سامية‭): ‬‮«‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يهرب‭ ‬من‭ ‬أخطاء‭ ‬الماضى،‭ ‬إنها‭ ‬تلاحقه‭ ‬ككلب‭ ‬مسعور‭ ‬وتنهشه‭ ‬بلا‭ ‬رحمة‮»‬‭. ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬الروائية‭ ‬تحيل‭ ‬إلى‭ ‬تمسكنا‭ ‬وعيشنا‭ ‬فى‭ ‬ماض‭ ‬من‭ ‬موروثات‭ ‬وعادات‭ ‬بالية،‭ ‬تدمر‭ ‬الحاضر‭ ‬ولا‭ ‬تسمح‭ ‬بأى‭ ‬مستقبل؟‭! ‬أحد‭ ‬التأويلات‭.‬

الجسور‭ ‬فى‭ ‬الرواية‭ ‬تحمل‭ ‬معانى‭ ‬متعددة،‭ ‬فجسر‭ ‬الموصل‭ ‬العتيق‭ ‬والذى‭ ‬تعرض‭ ‬للتدمير‭ ‬عام‭ ‬2016،‭ ‬يمثل‭ ‬فى‭ ‬حقيقته‭ ‬التاريخ،‭ ‬والسلام،‭ ‬والرخاء،‭ ‬والجسر‭ ‬الذى‭ ‬يتحدث‭ ‬عنه‭ ‬‮«‬عمَّار‮»‬‭ ‬والذى‭ ‬يقول‭ ‬أنه‭ ‬يوصله‭ ‬بأبيه،‭ ‬هو‭ ‬المنطقة‭ ‬الوسطى‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والخيال،‭ ‬والاثنان‭ ‬فى‭ ‬مستوى‭ ‬أعمق‭ ‬يمثلان‭ ‬معنى‭ ‬الحنين‭.‬

جسر‭ ‬بضفة‭ ‬وحيدة،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬عنوان‭ ‬الرواية‭ ‬التى‭ ‬اعتُقِلت‭ ‬البطلة‭ ‬فى‭ ‬شباكها‭ ‬حتى‭ ‬باتت‭ ‬جزءًا‭ ‬منها،‭ ‬ولكنه‭ ‬الجسر‭ ‬الذى‭ ‬إن‭ ‬نجحنا‭ ‬فى‭ ‬تصديق‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬حقيقة،‭ ‬وأن‭ ‬وجوده‭ ‬يعقد‭ ‬صلة‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬من‭ ‬قضوا،‭ ‬فلن‭ ‬ننجح‭ ‬إن‭ ‬نحن‭ ‬وقفنا‭ ‬على‭ ‬ضفة‭ ‬منه‭ ‬فى‭ ‬رؤية‭ ‬الأخرى،‭ ‬إنها‭ ‬غارقة‭ ‬فى‭ ‬اللا‭ ‬نهائية،‭ ‬فىما‭ ‬لا‭ ‬نعلمه‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الحياة‭ ‬الأخرى‭ ‬وذلك‭ ‬العالم‭ ‬المجهول‭. ‬

‭>>>‬

عالم‭ ‬الروائية‭ ‬يحتفى‭ ‬بالثنائيات‭ ‬كالحياة‭ ‬والموت،‭ ‬الجبر‭ ‬والاختيار،‭ ‬الحقيقة‭ ‬والوهم،‭ ‬الخيال‭ ‬والواقع،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حوارات‭ ‬فلسفية‭ ‬عميقة‭ ‬المعنى،‭ ‬قوية‭ ‬الدلالة،‭ ‬تجعل‭ ‬عقلك‭ ‬يمور‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬اتجاه‭ ‬يطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬ويبحث‭ ‬حثيثًا‭ ‬عن‭ ‬إجابات‭ ‬لها،‭ ‬فتبدأ‭ ‬بالشك‭ ‬تجاه‭ ‬ما‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬حقيقة‮»‬‭ ‬لأنها‭ ‬ببساطة‭ ‬هى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نريد‭ ‬تصديقه،‭ ‬وكذلك‭ ‬تبدأ‭ ‬فى‭ ‬الشك‭ ‬فى‭ ‬معنى‭ ‬‮«‬الاختيار‮»‬،‭ ‬الذى‭ ‬تحرص‭ ‬البطلة‭ ‬على‭ ‬تكراره‭ ‬وتأكيده‭ ‬كلما‭ ‬ذكرت‭ ‬زوجها،‭ ‬وكيف‭ ‬أنها‭ ‬أُجبرت‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عداه،‭ ‬فهو‭ ‬وحده‭ ‬كان‭ ‬اختيارها،‭ ‬لكن‭ ‬حينما‭ ‬نرى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬فرصتها‭ ‬الوحيدة‭ ‬للنجاة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬مؤلم‭ ‬ووحدة‭ ‬قاتلة‭ ‬وعذاب‭ ‬نفسى،‭ ‬هل‭ ‬سيظل‭ ‬‮«‬اختيارًا‮»‬‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬جبر‮»‬‭ ‬يرتدى‭ ‬عباءة‭ ‬‮«‬الحرية»؟‭ ‬وهل‭ ‬بالفعل‭ ‬ينقطع‭ ‬اتصالنا‭ ‬بالأشخاص‭ ‬بمجرد‭ ‬موتهم،‭ ‬وهل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نستمر‭ ‬بتصديق‭ ‬ذلك‭ ‬ونحن‭ ‬نستلم‭ ‬رسائلهم‭ ‬الموجهة‭ ‬إلينا‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الأحلام‭ ‬مثلًا،‭ ‬أو‭ ‬نشعر‭ ‬بهم‭ ‬أحيانًا‭ ‬وكأننا‭ ‬نلمسهم‭ ‬يقينًا؟‭! ‬وانطلاقًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬تحديدًا،‭ ‬نجد‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬غدير‮»‬‭ ‬التى‭ ‬تؤمن‭ ‬بالماورائيَّات‭ ‬وعلوم‭ ‬الطاقة،‭ ‬والتى‭ ‬تقول‭ ‬لـ«سامية‮»‬‭: ‬‮«‬عليك‭ ‬الإيمان‭ ‬بالرؤية‭ ‬لتري‮»‬،‭ ‬وتنصحها‭ ‬‮«‬بالكف‭ ‬عن‭ ‬الإيمان‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬ماديّ‭ ‬فقط‮»‬،‭ ‬وبأن‭ ‬‮«‬الحياة‭ ‬ليست‭ ‬مشهدًا‭ ‬واحدًا‭ ‬يُختَزَل‭ ‬بصورة‭ ‬واقعية‭ ‬وحقيقية‭ ‬لا‭ ‬لبس‭ ‬فيها‮»‬‭. ‬هنا‭ ‬احتفاء‭ ‬بالروح،‭ ‬وإيلاء‭ ‬اهتمام‭ ‬بها،‭ ‬فالجسد‭ ‬يواريه‭ ‬التراب،‭ ‬أما‭ ‬الروح‭ ‬فباقية،‭ ‬ومتواصلة‭ ‬مع‭ ‬عالم‭ ‬أصبَحَت‭ ‬لا‭ ‬تنتمى‭ ‬إليه‭.‬

حين‭ ‬يفشل‭ ‬الإنسان‭ ‬فى‭ ‬التعايش‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬والتعامل‭ ‬مع‭ ‬معطياته،‭ ‬فلن‭ ‬تنتظره‭ ‬الحياة،‭ ‬ستلفظه‭ ‬كى‭ ‬تستمر‭ ‬فى‭ ‬دورانها،‭ ‬كونه‭ ‬يشكل‭ ‬‮«‬بتوقفه‮»‬‭ ‬عائقًا‭ ‬أمام‭ ‬عجلتها‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬ترحم‭ ‬أحدًا،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬سيحدث‭ (‬أو‭ ‬حدث‭) ‬مع‭ ‬البطلة‭ ‬التى‭ ‬طالما‭ ‬حذرتها‭ ‬‮«‬سمية‮»‬‭ ‬سكرتيرة‭ ‬حماها‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬سوف‭ ‬تدمر‭ ‬حياتها‭ ‬إن‭ ‬ظلت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الحال،‭ ‬وقد‭ ‬بَدَت‭ ‬فى‭ ‬المشهد‭ ‬الأخير‭ ‬وكأنها‭ ‬ماتت‭ ‬بالفعل،‭ ‬وذلك‭ ‬حين‭ ‬انفصلت‭ ‬عن‭ ‬واقعها‭ ‬تمامًا،‭ ‬وخذلها‭ ‬صوت‭ ‬يريد‭ ‬الهتاف،‭ ‬وقابلت‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬رحلوا‭ ‬وأولهم‭ ‬حبيبها،‭ ‬فربما‭ ‬قررت‭ ‬الانتحار‭ ‬لأنها‭ ‬ودَّت‭ ‬ما‭ ‬تمناه‭ ‬النادل‭ ‬حين‭ ‬قال‭ ‬لها‭: ‬‮«‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬الموت‭ ‬بعينيّ،‭ ‬أن‭ ‬ألمسه‭ ‬وأتعرف‭ ‬عليه،‭ ‬أن‭ ‬ألكم‭ ‬وجهه‭ ‬لأعبر‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬غضبى،‭ ‬أو‭ ‬أطلق‭ ‬الرصاص‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬وجسده‭ ‬وأراقب‭ ‬ذلك‭ ‬الهلام‭ ‬الأخضر‭ ‬ينز‭ ‬من‭ ‬أطرافه،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬سيكون‭ ‬اللقاء‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬كأن‭ ‬أتصالح‭ ‬معه‭ ‬وأتقبله،‭ ‬نتعانق‭ ‬ونمضى‭ ‬معًا‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬يظل‭ ‬هناك‭ ‬خيار‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬منحته‭ ‬لنا‭ ‬النهاية‭ ‬المفتوحة؛‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مستغرقة‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الخيال،‭ ‬وقد‭ ‬تستفيق‭ ‬بعدها،‭ ‬وتستعيد‭ ‬حاضرها‭ (‬وليس‭ ‬ماضيها‭)‬،‭ ‬وتتعايش‭ ‬مع‭ ‬الأمر‭ ‬الواقع،‭ ‬وحقيقة‭ ‬أنها‭ ‬زوجة‭ ‬وأم‭ ‬وفنانة‭ ‬ناجحة‭ ‬تستحق‭ ‬الحياة،‭ ‬وليس‭ ‬الموت‭.‬

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة