عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الاسبوع

تقلبات أسعار تقلب المواجع

الأخبار

الأحد، 06 فبراير 2022 - 07:32 م

عبدالله البقالى

ليس من السهل تفسير ما يحدث فى عالم إنتاج وتسويق النفط فى العالم، ولن ينجح كبار الخبراء والمتخصصين فى هذا المجال فى إقناع الرأى العام الدولى بأن ما يحدث فى هذا العالم الغامض والمعقد يندرج فى سياق المعادلة التجارية العادية المرتبطة بالعرض و الطلب .


فتقلبات أسعار منتوجات المحروقات، من نفط وغاز، فى الأسواق العالمية تطرح أكثر من علامة استفهام ترتبط كلها بشرعية ومصداقية هذه التقلبات، وبالأسباب الحقيقية التى قد تكون مخفية عن أنظار الرأى العام الدولي، وراء هذه الوتيرة السريعة لهذه التقلبات، وما إذا كانت هناك عوامل سياسية صرفة تستخدم تقلبات أسعار المحروقات وسيلة لخدمة أجندة سياسية واستراتيجية مرتبطة بمصالح معينة ؟


فى ظروف بالغة التعقيد والحساسية التى تتزامن مع المواجهة المحتدمة التى يخوضها العالم مع تداعيات أخطر أزمة صحية طارئة عرفها فى تاريخه المعاصر، قفزت أسعار النفط والغاز إلى مستويات قياسية لم تصلها طيلة الزمن الذى عمره فيروس كورونا بين أحضان العالم، و لاتزال جميع المؤشرات تدل على أن ارتفاع أسعار هذه المواد الاستراتيجية سيتواصل خلال الشهور القليلة المقبلة. و هو وضع دفع أوساط اقتصادية كثيرة فى الولايات المتحدة الأمريكية إلى القول بأن الارتفاع المتواصل لأسعار هذه المواد فى الأسواق العالمية، و بالصيغة الذى يستمر فيها هذا الارتفاع، يعيد إلى الأذهان أزمة النفط التى عرفها العالم سنة 1973، حينما قررت العديد من الدول العربية المنتجة للنفط وقف التصدير لأسباب سياسية صرفة .و أنه فى حال تواصل هذا الارتفاع إلى مستويات متقدمة فإن العالم سيجد نفسه فى مواجهة جديدة مع أزمة أخرى تتعلق هذه المرة بمنتوجات المحروقات من نفط و غاز. و قد يجد هذا القول تفسيره فيما قد يترتب عما يحدث فى مواد تمثل الدماء التى تسرى فى شرايين الاقتصاد العالمي، إن العديد من الدول الفقيرة و ذات الدخل المحدود و المتوسط ستجد نفسها، لأسباب مالية واقتصادية، عاجزة عن تلبية حاجياتها من هذه المواد الرئيسية، خصوصا الدول التى لا تنتج قطرة واحدة من هذه المنتوجات. و بالتالى ستكون هذه الدول معرضة إلى أخطار سياسية حقيقية مرتبطة باستقرار الأوضاع داخلها. لأن ارتفاع أسعار المحروقات لا تقتصر تداعياته على استهلاكها فقط، بل يطال مجالات وقطاعات أخرى بسبب اعتماد هذه المواد فى وسائل نقل باقى المنتوجات والخدمات، ولذلك من الطبيعى أن تنعكس الزيادة فى هذه المواد على أسعار باقى المواد الاستهلاكية و الخدماتية. والواضح، فإن الطبقات الشعبية والمتوسطة هى التى ستدفع ثمن هذه الزيادات المتواصلة من قدرتها الشرائية، لأن محدودية السيولة المالية لهذه الفئة ستضطرها للتخلى عن اقتناء مواد استهلاكية لتغطية ما سيترتب عن الزيادة فى أثمان الغاز والنفط بصفة مباشرة وغير مباشرة .
ما حدث فى كثير من دول العالم خلال الأشهر القليلة الماضية لمواجهة هذا الطارئ الجديد يؤشر ويكشف عن طبيعة الأخطار السياسية المحدقة بها. ففى دولة الباكستان اضطرت الحكومة، رغم الظروف المالية والاقتصادية الصعبة التى تعيشها البلاد، إلى إعلان زيادة هامة فى الرواتب بنسبة 25 بالمائة ، فى محاولة منها لتهدئة الأوضاع العامة ، بعدما استثمرت المعارضة السياسية موجة ارتفاع الأسعار، خصوصا أسعار المحروقات فى تصعيد مواجهتها مع الحكومة .و من جهته اضطر بوريس جونسون رئيس الحكومة البريطانية إلى التراجع عن الزيادة فى الضريبة المفروضة عن استهلاك البنزين تحسبا لما قد يترتب عن ذلك . بينما تنامت وتيرة الغضب الشعبى من موجة ارتفاع الأسعار فى العديد من أقطار العالم، وهى الموجة التى تكاد تكون غير مسبوقة طيلة العشرين سنة الماضية، والتى تداخلت فيها العديد من العوامل .فمن جهة فإن الاختلالات العميقة التى هزت سلاسل الانتاج والتسويق فى العالم، بسبب تداعيات الجائحة، تسببت فى زيادات صاروخية فى أسعار النقل والتأمين، وهذا ما انعكس على حقيقة أسعار المواد الاستهلاكية، وتعزز هذا الاتجاه العام بالارتفاع المتواصل والمقلق لأسعار النفط و الغاز .


طبعا، الدول المنتجة للنفط و الغاز تعتبر المستفيدة الرئيسية مما يحدث ويجرى حاليا، ولكنها استفادة قد لا تكون دائمة ولا نهائية ولا شاملة. لأن الدول المنتجة للذهب الأسود والسائل، لا تعيش فى جزيرة معزولة عن العالم، ولذلك فإن اقتصادياتها ستتأثر من جراء الاختلالات التى سيعرفها الاقتصاد العالمي، لأنها تصدر النفط و الغاز فعلا، و لكن اقتصادياتها تتوقف على استيراد ما تتوقف عليه الحياة هناك .


طبعا، هذا الوضع، أعاد الحديث عن النموذج الاقتصادى التقليدى الذى لا يزال يعتمد بنسبة كبيرة جدا على المواد النفطية والغازية فى الانتاج والصناعة والفلاحة والنقل والخدمات. وأن هذا النموذج يبقى الحياة الإنسانية مرتبطة بتقلبات أسعار هذه المواد فى الأسواق العالمية، ورهينة حسابات سياسية واستراتيجية تتلاعب بهذه التقلبات . وارتفعت أصوات تطالب بتسريع وتيرة تغيير هذا النموذج الاقتصادى التقليدى الذى انتهت صلاحيته .
ومهم أن نسجل أن استفادة الدول المصدرة للنفط والغاز فى العالم تبقى محدودة مقارنة مع الأرباح الطائلة التى تحققها شركات إنتاج وتسويق النفط والغاز فى العالم. وهى شركات عملاقة مملوكة لرؤوس أموال غربية. والتى تربطها عقود تنقيب وانتاج مع بعض الدول تصل فيها نسبة استحواذها على العائدات إلى 75 بالمائة. ولنا أن نستدل بحالة شركة واحدة من هذه الشركات العملاقة التى وصلت أرباحها الصافية فى فرنسا لوحدها إلى 15 مليار أورو فى سنة 2021، ويرتقب أن تتضاعف أرباحها فى نهاية السنة الجارية .


نعود إلى البدء، للتأكيد على أن تقلبات أسعار النفط و الغاز، مرتبطة بخلفيات وبحسابات تتحكم فيها الأوساط المستفيدة مما يحدث، بما يخدم أجندة مصالح محددة. لذلك، هى هكذا هذه التقلبات، تارة يمكن أن تنخفض إلى أقل من 30 دولارا للبرميل الواحد، وفجأة تقفز إلى أعلى من 90 دولارا، بنفس كميات الانتاج، وبنفس حجم الاستهلاك، وبنفس الظروف والأجواء. إن الأمر يتعلق بسر خطير من أسرار الدولة العالمية العميقة.
< نقيب الصحافيين المغاربة


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة