عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد


رغم مرور 58 عاما على وفاته.. العقاد لا يزال مثيرًا للجدل!

عبدالهادي عباس

الأحد، 06 مارس 2022 - 08:39 م

يبدو أن المفكر الكبير والشاعر الأشهر عباس محمود العقاد (28 يونيو 1889م/ 12 مارس 1964م) لا يزال قادرًا على إثارة الخلافات بين المثقفين رغم حلول ذكرى وفاته الثامنة والخمسين بعد أيام؛ فهناك من ينتصرون لشعره، ويرونه نابضًا بالقوة الشعرية والصور الجديدة، ومن ثم فإن هذا الجانب يتفوق على سائر الأوجه الإبداعية الأخرى؛ فى حين يرى مثقفون آخرون أن شخصية العقاد الناقد قد فاقت شخصيته الشعرية التى لم تأت بجديد مما كان يدعو إليه، ويُحاسب شوقى عليه.. حول هذه الرؤى المتباينة رأت «الصفحة الثقافية» أن تسائل عددًا من كبار الشعراء والنقاد فيما يُشبه الصالون الثقافى المقروء الذى تتفاعل فيه كل الآراء حول شاعر كبير ترك عشرة دواوين كاملة، وناقد عملاق أسس مدرسة نقدية بارزة، ومفكر له إسهاماته الكبيرة فى الدراسات الإسلامية والفلسفية، وغيرها من وجوه العقاد المتعددة:

الشعراء يعتبرونه فذًا.. والنقاد لا يرون ذلك!

فى البداية يقول الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازي: لقد كتبت كثيرًا رأيى فى العقاد، وما زلت أرى أنه شاعر حقيقي، بل هو فى الصف الأول من الشعراء المصريين فى العصر الحديث.

وله دور مهم، شاعرًا وناقدًا، فى الانتقال من مرحلة الإحياء «البارودى وشوقى وحافظ والجارم»، إلى مرحلة تالية؛ وعندما ننظر فى دواوين العقاد العشرة، نجد جانبًا كبيرًا منها، إن لم تكن كلها، شعرًا حقيقيًا؛ ولذلك فإننى أقول دائمًا إن العقاد شاعر فى الدرجة الأولى، ثم تأتى بعد ذلك باقى صفاته.

ويُضيف حجازي: ومع هذا فإن شعرى لم يتأثر بشعر العقاد، لأننى تأثرت فى بداية طريقى بالرومانتيكيين المصريين والعرب، مثل: محمود حسن إسماعيل، وعلى محمود طه، وإبراهيم ناجي، والشابي  وكذلك شعراء المهجر؛ لكننى قرأت بعناية شعر العقاد والمازنى وشكري؛ ومع تقديرى للعقاد فإننى كنت آخذ عليه فرض رأيه على غيره، إذ لم يكن قادرًا على محاورة المختلفين معه.

وكلامه عن شوقى به تجاوزات كثيرة، وكذلك موقفه من الشعر الجديد لم يكن يتسم بالتسامح أو القدرة على الاختلاف والتعدد؛ وإذا كنتُ قد هجوته فى إحدى قصائدى فإننى قد عُدت وكتبتُ له قصيدتين؛ بل، وكتبت قصيدة «تمّوز» لأسقط الحُجة التى كان يُقدمها أعداء التجديد من أننا لا نستطيع كتابة القصيدة فى الشكل الموزون، وأننا إنما نكتب فى الشكل الجديد لأننا فى حاجة إليه.

شعره دون نقده!
وعلى عكس الرؤية السابقة يقول الناقد الكبير د. يوسف نوفل: إن طموحات العقاد النقدية كانت أطول باعًا من كونه شاعرًا مبدعًا لأنه تأثر بالشعر «الرومانتيكي» الإنجليزي، ولم يقبل الشعر المحافظ عند شوقى وزملائه، إذن المتوقع أن يُقدم شعرًا يحمل بصمات التجديد، لكن الذى حدث غير ذلك، فلم نجد فى شعره مظاهر التجديد التى نادى بها فى نقده؛ ولهذا أرى أن شخصية العقاد النقدية والفكرية والموسوعية طغت على شخصيته الإبداعية.

ولهذا جاء شعره دون نقده، وعلى هذا الأساس كان حُكم الذائقة العربية على العقاد بأن شخصيته النقدية غلبت شخصيته الإبداعية؛ لأنه شاعر ناقد، وغالبًا ما يطغى جانب منهما على الآخر.

وقد طغى النقد على الشعر عند العقاد، ويضيف د. نوفل: لقد ترددت أحكام نقدية فحواها تفضيل العقاد ناقدا عليه شاعرا، والحق أن هناك فرقًا واضحًا بين النظرية والتطبيق عند العقاد؛ لأن الطموح الفنى كان أكثر مساحة فى الجانب التنظيرى عنده حين تكونت مدرسة الديوان نسبة إلى الكتاب الذى أصدره مع المازني.

وإذا كانت هذه المدرسة مكونة من العقاد والمازنى وشكرى فإنه كتاب الديوان مع الأسف كان انشقاقًا لتلك الجماعة الأدبية، حيث شن العقاد حملة ضارية على شوقي، وهو بصدد الدعوة إلى التجديد الشعري، وفى الوقت نفسه زعم العقاد أنه يُقدم صورة جديدة للشعر التجديدى حين قال قصيدته «بعد عام» معلنًا أنها ثورة تجديدية فى الوزن والرويّ؛ كما شن حملة عنيفة على أعلام شعر التفعيلة، وبخاصة عبدالصبور وحجازي.


شعرية محدودة!
ويوافق الناقد الكبير د. محمد عبدالمطلب على الرؤية السابقة ويؤكد أن شعرية العقاد محدودة لأن عقله تغلب على إحساسه، ولو طبقنا مقاييس نقد الشعر التى ذكرها فى كتابه الديوان فلن تنطبق عليه، والحقيقة أن عداءه لشوقى سيطر عليه سيطرة كاملة، وقاده إلى ظلم شوقي.

وقد أدرك هو ذلك، وفى المهرجان الأول للشعر العربى عام 1959م أنصف شوقى وقال إنه انتشل الشعر من الجمود والتقليد إلى الابتكار والتجديد.

وهو فى ذلك يقترب من موقف د. طه حسين؛ وقد سأل د. مصطفى ناصف د. طه حسين سؤالا مهمًّا حين قال له: «يا أستاذنا، أنت هاجمت شوقى هجومًا حادًّا فى ثلاثينيات القرن، ثم فى عام 1955م ثم عُدت وأنصفته فما السبب؟ فقال طه حسين: يا مصطفى، كنتُ فى شبابى أبحث عن مكانٍ مرتفعٍ، لأقف عليه ليرانى الناس، ولم أجد مكانًا أكبر من شوقى لأقف عليه»، وأعتقد أن ذلك كان موقف العقاد أيضًا. 


ويواصل د. عبدالمطلب قائلًا: إن شعر العقاد مجفف لأنه حاول أن يربط الشعر العربى بواقعية الشعر اليوناني، ولم يُدرك أن هناك فرقًا بينهما، لأن الشعر اليونانى نشأ وسط الأساطير وحكايات الآلهة، لكن الشعر العربى نشأ فى الوسط الاجتماعي؛ فالعقاد لم يُدرك أن الشعر العربى شعر الصيغة، وليس شعر الفكرة، ولذا فمدرسة الديوان كلها ذات شعر مجفف، وربما لهذا لم يعد لها أثر فى حركة الشعر الحديث.


شخصية أسطورية
أما الناقد الشاب د. رضا عطية فيأخذ اتجاهًا وسطًا حين يقول: شغل العقاد، وما زال، الاهتمامات بين المعنيين بالأدب والفكر، منذ الثلث الثانى من القرن العشرين، وإلى الآن، فبدا كشخصية أسطورية، بين مريديه حد التقديس والمختلفين معه حد الوسم بالجمود والمحافظة. اشتهر العقاد بسجالاته ومعاركه ونقاشاته الملتهبة وجدله المحتدم حول عديد من الأفكار والقضايا، ومن أشهر سجالات العقاد خوضه غمار معركة دارت فى أربعينيات القرن العشرين حول المفاضلة بين الشعر والقصة.

ويُتابع د. رضا: كان العقاد بالغ الانحياز للشعر على حساب القصة التى كان يعنى بها القصة القصيرة أو الرواية، على الرغم من كتابته القصة، كقصة «سارة»، وترجمته لنصوص أجنبية منها إلى العربية. يدير العقاد فى كتابه «فى بيتي»، الذى أصدره فى طبعته الأولى، فى العام 1945، فى مفاضلته بين الشعر والقصة، حوارًا مع تلميذه وصاحبه، فيعلن العقاد لصاحبه أنَّه لا يحسب القصة من خيرة ثمار العقول.

ولذلك يسأله الصاحب: «أليس فى الرواة والقصاصين عبقريون نابهون كالعبقريين النابهين فى الشعر وسائر فنون الأدب، يرد العقاد: «بلى. ولكنَّ الثمار العبقرية طبقات على كل حال.

وقد يكون الراوية أخصب قريحة وأنفذ بديهة من الشاعر أو الناثر البليغ، ولكن الرواية تظل بعد هذا فى مرتبة دون الشعر ودون مرتبة النقد أو البيان المنثور.

 

وحين يسأل الصاحبُ العقادَ عن المقياس لترتيب هذه الرتب فى الأنواع الأدبية يحدد العقاد مقياسين محددين، أولهما مقياس الأداة بالقياس إلى المحصول، وثانيهما مقياس الطبقة التى يروج بينها الفن، كلما قلت الأداة وزاد المحصول ارتفعت طبقة الفن. وكلما زادت الأداة وقلَّ المحصول مَال الفن إلى النزول والإسفاف».


شاعر الفكرة
وكما بدأنا بالشعراء ننتهى إلى الشعراء الذين ينتصرون لشعر العقاد؛ حيث يقول الشاعر د.أحمد بلبولة، رئيس قسم الدراسات الأدبية بدارعلوم القاهرة: إن المشكلة المعقدة التى يواجهها الفن هى أن كل فنان ينحاز إلى شبيهه ويُحكم ذوقه الخاص، لكن الشاعرية قماشة عريضة جدا وتمتد من النقيض إلى النقيض، فما تنظر إليه على أنه شعر قد ينظر إليه غيرك على أنه ليس كذلك، لكننا يجب أن نتحلى بالموضوعية وننظر بشمولية؛ فالعقاد هو الذى وضع لبنة التطوير الأولى فى الشعر العربى الحديث من خلال شعره الذى علم الشعراء جميعًا كيف يُفلسفون الفكرة وأن أى موضوع مهما كان قابلٌ لأن يكون شعرًا وهو ما طبقه فى ديوان «عابر سبيل».

 

ولو لم يكن شعر العقاد، لما انفتح الشعر على تشابكاته الفلسفية والاجتماعية والوجودية عند المدرسة الجديدة، ويشير د. بلبولة إلى أن تنظير العقاد عن الشعر هو الذى أسهم فى وجود مدرسة «أبوللو»، فقبل العقاد لم تكن الساحة الثقافية العربية تعرف عضوية القصيدة ولا دور الخيال الوظيفى فيها باعتباره مكونًا أصيلًا.

ولنكن منصفين لأنه إذا ذُكرت نظرية الشعر العربى فإن أفكار العقاد لا تزال خالدة حتى الآن، بل إن كثيرًا منها لم ينتبه إليه المبدعون والنقاد ولم يستثمروه بعكس الفنون الأخرى التى استفادت منه، بينما الأدباء يكتفون بالفُرجة!
اقرأ ايضا | العقاد رفض «الكرة الشراب» واشترى «ألف ليلة»

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة