عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الاسبوع

مرحلة مخاض مؤلمة لميلاد نظام عالمى جديد «2»

الأخبار

السبت، 16 أبريل 2022 - 08:59 م

مع كل التعقيدات التى ترافق التطورات المتسارعة فى الساحة الدولية فى ضوء الأحداث الكبيرة والوازنة التى يعيشها العالم، خصوصًا ما يتعلق بالحرب الروسية، الأوكرانية، وما أفرزته من حقائق ومعطيات ظلت لفترات طويلة من الزمان طى الكتمان والتخفى من طرف القوى المتحاربة نفسها، فإنه يمكن المجازفة بالحديث عن بعض المؤشرات المتعلقة بالنظام العالمى الذى يعيش مخاضًا عسيرًا فى هذه الظروف الدقيقة والصعبة التى يجتازها العالم بأسره.


فالحرب على أطراف روسيا كشفت للرأى العام العالمى الاصطفاف الحقيقى المباشر فى العلاقات الدولية السائدة، وفى ضوء ذلك يمكن اليوم الحديث بوضوح ودقة تامة عن لائحة كاملة بالمصطفين مع هذا الحلف أو ذاك. ونكاد نقول بكثير من المجازفة إن العلاقات الدولية كانت فى حاجة ماسة وملحة إلى لحظة اصطدام قوى بين القوى العظمى المهيمنة على النظام العالمى السائد لتتضح صورة الاصطفافات والتكتلات. ولعل وضوح الصورة بهذا الشكل فى هذه الظروف الصعبة يساعد كثيرًا على فهم طبيعة العلاقات الدولية السائدة ويسعف فى صياغة مشاريع أجوبة لأسئلة متعلقة بالتجاذب الحاصل فى شأن تغيير النظام العالمى السائد، ويمكن من الحديث عن بعض من مؤشرات النظام العالمى المتوقع.
المرجح إلى حدود ما تتيحه المعطيات حاليًا أن مياهًا كثيرة تجرى من تحت مسار الأحداث التى تدور وقائعها فى العلن، خصوصًا ما يتعلق بالحرب الروسية - الأوكرانية. وأنه من الغباء الاعتقاد أن موسكو اندفعت نحو حرب كانت تعلم مسبقا خطورتها ومتطلباتها المادية والعسكرية والإعلامية والديبلوماسية وهى تشك فى قدرتها على خوضها أولاً، وعلى تحقيق مكاسب منها ثانياً، بغض النظر عن طبيعة وحجم هذه المكاسب. ومن السذاجة الشك لحظة واحدة فى وجود تسخينات سابقة لاندلاع الحرب وبتنسيق إقليمى وجهوى حاولت من خلاله موسكو توظيف واستغلال جميع المعطيات التى من شأنها أن تسندها فى مرحلة الحرب وتمكنها من إحداث اختلالات عميقة فى بنية النظام العالمى الذى تقبض قوى غربية معادية بأنفاسه.


فى هذا السياق لابد من استحضار حدث هام ودال لم ينل حظه من الاهتمام الإعلامى الدولي، ربما لأن لا أحد كان يعتقد بأن لذلك الحدث ارتباطا مباشرا وقويا بالتطورات التى عرفتها المنطقة فى الفترة الموالية. و يتعلق الأمر بإعلان (الشراكة بلا حدود) بين جمهورية الصين الشعبية والفدرالية الروسية التى توجت زيارة الرئيس الروسـى فلاديمير بوتين إلـى بيكين، ثلاثـة أسابيع فقط قبــل بـداية الحـــرب الروسية-الأوكرانية. و كان لافتا بأن صرح الرئيس الصينى أثناء مقام ضيفه بوتين فى الصين بأنه» يدعم مطالب روسيا بعدم ضم أوكرانيا لحلف الناتو « وفى المقابل أعلن الرئيس الروسى اعترافه بـ « سيادة الصين على تايوان « وليس الملاحظ فى حاجة ملحة إلى استعمال حاسة فك الرموز للتأكد من أن اللقاء بين الرئيسين الروسى و الصينى تطرق إلى قرار بوتين القاضى بالاجتياح الروسى لأوكرانيا، وأن بيكين باركت هذه العملية التى قد تكون رأت فيها الفرصة المناسبة لإشعال حرب موازية تتعلق هذه المرة بالنظام العالمى السائد.


و لا شك فى أن إعلان ( الشراكة بلا حدود ) حقق لبكين ما كانت تحتاجه استراتيجيا، حيث شملت اتفاقات هذه الشراكة عقودا ضخمة لتصدير الغاز الروسى إلى الصين بما يضمن لها تدفق إمدادات الطاقة، مع شريك، آخر تنص التفاهمات الحالية معه على عزل هذه الإمدادات عن التأثيرات السياسية. و جدير بالذكر أن ضمان تدفق كميات كافية من إمدادات الطاقة إلى الصين، كان أقوى نقط ضعف الاقتصاد الصيني. ثم إن هذا الإعلان الذى لم يكن من قبيل الصدفة خروجه إلى الوجود قبل ثلاثة أسابيع بالضبط من بداية الحرب الروسية - الأوكرانية، يؤشر على اتفاق الطرفين على تفاهمات استراتيجية تهم العلاقات الدولية و تتعلق بمواجهة القوة المتنامية للغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية . فسواء بالنسبة إلى موسكـو أو بكين، فإن الشعار المناسب للظروف الحالية تلخصه المقولة الشهيرة (عدو عدوى صديقي). فالصين توجد فى صلب مواجهة عنيفة جدا مع الغرب بريادة الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يتعلق بالعديد من مناحى الأنشطة الاقتصادية و المالية، خصوصا فى الصناعات المتطورة وفى التكنولوجيا الحديثة، و فى كثير من مناحى الإنتاج. حيث أضحى التنين الصينى مخيفا لأقوى الاقتصادات فى العالم، و اكتساح الإنتاج الصينى لم يعد خافيا، بل أضحى من شبه المستحيل كبح جماحه أو محاصرته. لذلك لم تجد كثير من الدول العظمى من بديل غير الدخول فى مواجهة مباشرة مع الصين، من خلال تكثيف التدابير الحمائية و إجراءات الحصار والتضييق.

و هكذا وجدت جمهورية الصين نفسها من خلال التطورات الأخيرة جنبا إلى جنب مع شريك بمرتبة حليف لمواجهة إرادة الهيمنة التى تكرس سياسة الخنوع و الخضوع. وفى الجهة الأخرى كانت روسيا تواجه وحيدة رغبة غربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية فى محاولة عزل موسكو وتقزيم دورها فى العلاقات الدولية، وتقليم أظافرها لكى لا تكون قادرة على خدش جيرانها من حلفاء الغرب. و كانت بسبب ذلك تخوض حربا ضروسا مع القوى المعادية لها على المستويات الأمنية والعسكرية والطاقية. وتحضر الخلفيات التاريخية فى هذه المواجهة حينما كان الاتحاد السوفييتى فاعلا رئيسيا فى القطبية الثنائية التى كانت تميز النظام العالمى السابق . وروسيا التى تعتبر نفسها الوريث الشرعى لماضى الاتحاد السوفييتى تمنى النفس بالعودة إلى موقعها التاريخى الذى يضعها الند للند مع غريمها التقليدي.


يحدث كل هذا تحت مراقبة دقيقة للدول الغربية بقيادة بلاد العم سام، لكنهم عاجزون لحد هذه اللحظة عن كبح هذا التحالف القوى الذى يعلن دخوله التدريجى إلى ساحة العلاقات الدولية متوعدا النظام العالمى بالتغيير والتحول وإعادة البناء. ولم تنجح رزمة العقوبات الكثيرة والكبيرة التى فرضت على روسيا فى كبح جماحها ولا شل حركتها. وهى عقوبات وإن تميزت بالخطورة إلا أنها تكشف عن عجز آخر لدى الدول الغربية التى تعيش انكماشا اقتصاديا يكاد يكون غير مسبوق، لأنها تحاشت أن تفرض حصارا اقتصاديا شاملا ضد روسيا، لأنها لا تقدر على ذلك بسبب أن جزءا مهما من العملية الاقتصادية فى الغرب نفسه يدور بسبب مواد أولية روسية.


خلاصة القول إن الحرب الروسية، الأوكرانية التى تدور وقائعها المباشرة فى مساحة جغرافية محدودة ومعينة، فإن وقائعها الأكثر أهمية وخطورة تدور رحاها فى ساحة العلاقات الدولية، و من الطبيعى أن يلقى ذلك بظلاله على طبيعة النظام العالمى السائد حاليًا.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة