محمد عبدالعظيم على:إهداء
محمد عبدالعظيم على:إهداء


محمد عبدالعظيم علي يكتب: إهداء

أخبار الأدب

الأحد، 10 يوليه 2022 - 06:24 م

لماذا؟ لأنه بالطبع يحب النساء.. كان يود أن يهدى روايته لها.. هى التى تركته ينزف حبراً على ورق مستمتعة بشبقه الذى لا ينتهى، وهذا هو الشىء الوحيد الذى ورثه عن أجداده عنترة وكثير والمجنون.. تركته قائلة بوحشية: إنه سيكتب قصصاً كثيرة عنها، ولكنه لم يكتب أى قصة عن غيرها.. كانت اكتشافه الفريد الذى تأبى على الانصياع لنظريته فطاف حلماً بين قلبين متأكد هو أن كليهما يتعذب.

 بالطبع يحب النساء وهل من رجل لا يحبهن؟ عرف نساءً لا يحببن الرجال ولكنه لم يعرف رجلاً يكره النساء كلية، ما صفات من سيكتب لها الإهداء؟ هل هى مثلها أم يضم من عرفهن من النساء فى إهداء واحد جامع وغير مانع من الإضاف؟
لماذا يبدأ تاريخه بها وهى التى تركته لذئاب الصحراء طفلاً بلا شفقة؟ مثلاً لماذا لا يذكر فتاة المعرض التى هام بها عاماً رآها للمرة الأخيرة فيه وقد تبدل حالها قبيل زواجها بقليل.. إنها بدايته الحقيقية فهو ما زال يلمح إخلاصه لها رغم زواجها واختفائها منذ زمن فى احتفاظه باسمها ككلمة سر لصندوق ودائعه فى البنك.

لماذا لا يجعلها تميمة الرواية أيضاً، أو حتى الممرضة التى منحته اسم الدلع الذى.. يرن جرس التليفون.. الجميلة «صافى».. يغيب فى مكالمة طويلة تتخللها بعض الإثارة والاستثارة.. يغلق السماعة ويعود لسؤاله: لمن سيهدى الرواية؟ ليست المرة الأولى التى يتنازعه فيها الإهداء فيصل لحلول ديبلوماسية فى النهاية لكنه هذه المرة ولموضوع الرواية الذى يتعلق بامرأة هى خليط من كل النساء اللاتى قابلهن أو سمع عنهن ظل يعجن فيه لسنوات قبل أن ينهيه على هذا الشكل.. (صافى الجميلة)..

يحبها نعم، فكر فى الزواج منها كثيراً، هو الذى أسماها (صافى الجميلة) رغم أن شكلها عادى جداً وجسمها يفتقر لجمال كثير بل إن تناسقه تحت المتوسط، يسميها أيضاً أسماءً أخرى مثل (ديانا) فى مذكراته و(ليلى) على جهاز الكمبيوتر و(ميمى) فى الرواية..

لماذا تراوحت صداقته بها دائماً ما بين الفضفضة والرفقة ولم تتطور لعلاقة شرعية رغم تورطهما أكثر من مرة فى التدبير لهذا بشكل مستتر؟ (صافى) تحمل تلك الروح القلقة التى يحبها ويخافها، ثم أن فرويد نفسه لعب دور العارف فى الرجل وبدا متصابياً.

وهو يفسر أحلام مريضاته.. لقد انتقل تماماً لسؤال آخر: لماذا لم يتورط أو حرص ألا يتورط فى علاقة شرعية مع صافى رغم أنه كان يعرفها قبل زواجه القصير.. تماماً وكأنه كان ناسياً طليقته.. الآن فقط تذكرها.. كانت تجربة كالومضة أعطته الصدمة دون أن يتبين سبب الزواج أو سبب الانفصال.

ربما سيطر جسده عليه لوقت ما فرأى أن يكافئه بهذا الزواج غير المتكافئ، ربما رآها تجربة يمكن أن يخرج منها بأقل الخسائر.. زواجه منها أدهش الكثيرين، بل صدم بعض المقربين فابتعدوا عنه لفترة، كانت زيجة رخيصة كسيارة مسرعة فى طريق مفتوح، جَنُونَة من جنوناته التى يحلو له أن يفاجئ بها أصدقاءه من وقت لآخر، وربما وبعد زمن طويل سيكتشف أنها كانت رداً متأخراً على ترك أعز حبيباته له..

هى التى كتب الرواية من أجلها وهى التى تقف وراء نسائها جميعاً، ولكنه الآن يود أن يعاقبها بألا يهديها لها بين الناس، وربما يسمح لنفسه بعد نشرها بكتابة إهداء خاص على النسخة التى سيرسلها لها بالبريد.. هل ترك محافظته فعلاً لينساها.. بالتأكيد جرح الكثيرات: صافى، وطليقته، والمرأة التى باح ببعض أسرارها فى أذن صديق فخانه..

صافى لا تبدى الكثير من مشاعرها لكنه يعرف، وطليقته ما زالت على علاقة فوق الطيبة به فهو لم ينس إكرامها وهى ما تزال تهواه لكنه اكتفى بمفاجأة واحدة، أما خيانة الصديق فكم جرحته وهو يحاول إنقاذ تلك المرأة من أنيابه.. سقطته هذه موجودة فى الرواية بصورة ما مختفية لكنها تشم رغم تواريها فى نفسية شخصيته الروائية الرئيسية.. دراساته فى علم النفس جعلته يتشرب بالتحليل والتفسير ولا يكتفى بانطباعاته التى غالباً ما تكون صائبة.. يحب الغوص فى أعماق البشر..

يبدأ بالعيون ويعبر عبر الحكايات قارئاً بصمة الصوت بجودة وعيناه تقرأ لغة الجسد الرائعة وهى تقدم موسيقى الإنسانية.. يصور لقطات قليلة فى حياته ربما تكفى لمونتاج قصير على بردية من برديات قدماء المصريين.. سيعود للرواية ليحسم نقطة العرب والفراعنة الهامشية.

ولكنه مازال فى بئر السؤال: لماذا أصلاً غيَّر رأيه عن الإهداء الأول لها؟ الحق أنها ليست الحادثة الأولى فكتابه الأول تغير إهداؤه خمس مرات ونصف وكان النصف هو إدخال شريك فى الإهداء، ولكن الرواية كانت بلا شريك: إهداء أول وأخير غير محير بالمرة.. الرواية الثانية: ثلاث مرات.. يكره الإهداءات العائلية للأب والأم والزوجة والجيران ورجال المطافئ وحضرة المحافظ.

والناقد الذى علمنى وشكراً لساعى البريد ومن فضلك اترك المكان نظيفاً كما تحب أن تراه نظيفاً ويفضل على الإهداء الأخير عبارة قرأها على ظهر مبولة عامة لا مجال لذكرها.. أصلاً لماذا يكتب إهداء فليعاقب الكل بعدم كتابة إهداء ويقدم النص حراً يسمى أصحابه ويكفيه الاسم على الغلاف قيداً لقارئه. 


استراح أخيراً لهذه النتيجة، وفجأة نبتت أمه كامرأة قضى عمراً فى تحليلها والاعتراض على أفكارها التى لقنته إياها وجعلته يهتم بسيكولوجية النساء منذ صغره محاولاً فهم كنهه السيطرة الأمومية وهامشية تسلط أبيه الدائم.. سيتصل بـ «نجلاء» فهى التى يفكر فيها كصورة للصديقة الأم.. ضحك عندما مرت هذه الكلمة بذهنه.

وسخر من نفسه بكلمات سوقية جعلته ينفرط تماماً فى نوبة الضحك وهو يرفع السماعة وبدلاً من أن يطلب نجلاء فوجئ برقم صديقة أخرى ينطلب.. ستسمعه كلمات أكثر سوقية وهى تعيش أزهى أيامها فى إجازتها من زوجها المسافر، سيشتمها قائلاً: ولم تقولى لى عندما تقابلنا يوم الجمعة الماضية.. تضحك بخلاعة.

وهى تسبه: «.. أمك. أنا سآخذ أجازة من كل الرجال..». يزداد ضحكاً وهو يتبادل معها الشتائم والضحكات ويختمان المحادثة بموعد غداً.. يغلق الهاتف قائلاً لنفسه: ربما تفكر غداً فى إهدائها الرواية؟ ربما بعد أن تنام معها.. يضحك ويقول: لقد عدت للبحث عن إهداء، ولامرأة مرة ثانية.. لماذا لا تهديها لرجل؟ مثلاً أول من علمك علم النساء أو أستاذ آخر فى فن الحياة.. لماذا تبحث عن امرأة لتهديها لها؟ بالتأكيد هناك هاجس غير حبك للنساء.. فلتهدها لقارئة مجهولة سوف تمتعها الرواية! نفض الهاجس وهو يطلب نجلاء..

لم يجدها فغازل أختها قليلاً بكلمتى مجاملة وعزمها مع نجلاء على فيلم بمناسبة انتهائه من الرواية الجديدة ووعدها بنسخة عندما تطبع.. اتصل بصديق يسأله فى موضوع الإهداء فبدأ يصدع رأسه بحكايات عن نفسه ومغامراته، لم يحتمل وقاطعه بأنه يسأل عن الإهداء..

ما رأيه فى الفكرة؟ تحدث قليلاً قبل أن يبتعد بقاربه عن أذنه فيتعلل لإنهاء المكالمة وبوعد بعزومة عندما تصدر.. ستعرف طريقها للنشر، ولكنه قلق على مجهوده الذى سيضيع هباءً وهو الذى اقتطع وقتاً من عمره من أجل كتابة هذه الرواية.. يقول صديقه: إنه مرض لا شفاء منه، أما معظم صديقاته فيسألن عن المكسب المادى إما عن استحياء.

أو بصراحة المكالمة مع صديقته منذ قليل.. تذكر نكتة جنسية قالتها له فى مرة سابقة وابتسم رغماً عنه لأنه تذكر ضحكتها.. مَنْ الروائى الذى قال: كل النساء حين يضحكن جميلات. لا بد أنه القائل: الصمت هو السماء.. تذكر أنه قرأ عبارة لروائى إيطالى تقارب العبارة الأخيرة..

كانت السماء ذكراً فى إحدى ديانات القدماء لمجرد أنها فوق الأرض التى مثلت الأنثى فلماذا يحب هو أن يغير الوضع عندما يمارس الحب.. ربما هو غربى النزعة ولكنه يقدس المتعة كديانة فى الهند تذكرها ورمزها الحسى الذى تزوره النساء لتحل البركة عليهن..

لم تظهر الهند فى روايته هذه كسابقتها ولكنه منح التصوف جزءاً كبيراً.. من هو الروائى الذى أهدى كتابه لمؤلفى ألف ليلة وليلة؟ سبقه قليلاً ولكنه لا يزال بإمكانه أن يقصر إهداءه على نساء ألف ليلة وليلة فقط.. حسناً.. الحل الأخير تقدمه الحركة الدادية التى هو من أشد المعجبين بها..

يرفع السماعة ويطلب رقم صافى، ترد بتناوم.. يسألها أن تحضر أى جزء من ألف ليلة وليلة التى أمامها فى المكتبة بدون أسئلة وأن تفتحه وتشرع فى القراءة.. حين وصلت لـ«جنية من ذرية إبليس اللعين واسمها ميمونة ابنة الدمرياط أحد ملوك الجان المشهورين..» قال لها: شكراً جداً يا حبيبة قلبى.. سأكتب الإهداء الآن.. قالت بجدية: هل تتزوجنى؟!

اقرأ أيضا | منال الروينى |علبة قطيفة

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة