أحمد عباس
أحمد عباس


تساؤلات

غمرة يا عالم

أحمد عباس

الأحد، 21 أغسطس 2022 - 06:01 م

يتشاحن‭ ‬الصغار‭ ‬دائمًا‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬شرفة‭ ‬غرفة‭ ‬نوم‭ ‬الحاجة‭ ‬سعاد‭ ‬الكائنة‭ ‬بالطابق‭ ‬الأرضى‭ ‬تعيش‭ ‬وحدها‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬جميعنا‭ ‬السبب،‭ ‬فتصرخ‭ ‬فيهم‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬بصوت‭ ‬يعبر‭ ‬سور‭ ‬البيت‭ ‬مخترقًا‭ ‬شريطا‭ ‬ضيقا‭ ‬يفصله‭ ‬عن‭ ‬الشارع‭ ‬سور‭ ‬خشبى‭ ‬هزيل‭ ‬لا‭ ‬فائدة‭ ‬منه‭ ‬كأنه‭ ‬حديقة‭ ‬تزرع‭ ‬فيها‭ ‬الست‭ ‬سعاد‭ ‬بعضا‭ ‬من‭ ‬أعواد‭ ‬النعناع‭ ‬الطازج‭ ‬و‭ ‬ماتيسر‭ ‬من‭ ‬الروز‭ ‬مارى‭ ‬وترتع‭ ‬به‭ ‬مئات‭ ‬الحشائش‭ ‬الضالة،‭ ‬تقول‭ ‬انها‭ ‬تبعد‭ ‬الزواحف‭ ‬والأبراص‭ ‬المقززة،‭ ‬تزعق‭ ‬الحاجة‭ ‬سعاد‭: ‬العبوا‭ ‬بعيد‭ ‬انتم‭ ‬مالكوش‭ ‬اهل‭ ‬يلموكم،‭ ‬لو‭ ‬مابعدتوش‭ ‬هاجى‭ ‬أكسر‭ ‬عضمكم‭ ‬بالمقشة‭.‬

فيعلو‭ ‬صوت‭ ‬الأطفال‭ ‬أكثر‭ ‬بلا‭ ‬سُباب‭ ‬كأنهم‭ ‬يستفزونها‭ ‬فى‭ ‬ساعة‭ ‬قيلولتها،‭ ‬فتنفتح‭ ‬الشرفة‭ ‬المجاورة‭ ‬للشباك‭ ‬وتخرج‭ ‬الست‭ ‬سعاد‭ ‬تفرق‭ ‬‭ ‬كبشة‭ ‬من‭ ‬حلوى‭ ‬الطوفى‭ ‬والنوجا‭ ‬والبونبون‭ ‬الملفوف‭ ‬يدويًا‭ ‬تسميه‭ ‬الحاجة‭ ‬سعاد‭ ‬اأرواحب‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬الأطفال‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬تأتى‭ ‬به‭ ‬لكنهم‭ ‬يستحسنون‭ ‬طعمه‭ ‬ربما‭ ‬لذلك‭ ‬يقصدون‭ ‬شباكها،‭ ‬ثم‭ ‬ينسحبون‭ ‬تباعًا‭ ‬الى‭ ‬اللعب‭ ‬ناحية‭ ‬عم‭ ‬محمد‭ ‬البقال‭.‬

يحذرنى‭ ‬أبى‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬اللعب‭ ‬مع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأشرار‭ ‬وأعده‭ ‬بأن‭ ‬لا‭ ‬أعود،‭ ‬ثم‭ ‬أكررها،‭ ‬فيشكونى‭ ‬لجدتى‭ ‬تتنحى‭ ‬بى‭ ‬جانبًا‭ ‬وتهمس‭: ‬يا‭ ‬حبيبى‭ ‬الصاحب‭ ‬ساحب،‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬صاحب‭ ‬يجر‭ ‬صاحبه‭ ‬الى‭ ‬حيث‭ ‬ذهب،‭ ‬ويقول‭ ‬الشيخ‭ ‬يونس‭ ‬امام‭ ‬المسجد‭ ‬المجاور‭ ‬فى‭ ‬خطبته‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جمعة‭ ‬محذرا‭ ‬من‭ ‬رفقة‭ ‬السوء‭: ‬ان‭ ‬المرء‭ ‬على‭ ‬دين‭ ‬خليله‭ ‬فلينظر‭ ‬أحدكم‭ ‬من‭ ‬يخالل،‭ ‬ويقول‭ ‬المقدس‭ ‬نظيم‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬ناصية‭ ‬الشارع‭ ‬على‭ ‬عكاز‭ ‬من‭ ‬خشب‭ ‬الزان‭ ‬امن‭ ‬يتق‭ ‬الرب‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬صداقة‭ ‬صالحةب‭.‬

عم‭ ‬محمد‭ ‬البقال‭ ‬ينتقينى‭ ‬عادة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأولاد‭ ‬ويصرخ‭ ‬فىّ‭ ‬ماتلعبش‭ ‬مع‭ ‬العيال‭ ‬دول‭ ‬بينما‭ ‬ينحنى‭ ‬ويخطف‭ ‬الكرة‭ ‬التى‭ ‬أصابت‭ ‬لمبة‭ ‬المحل‭ -‬للمرة‭ ‬المئة‭- ‬فى‭ ‬مقتل‭ ‬وهوت‭ ‬بها‭ ‬شظايا‭ ‬متناثرة،‭ ‬ويؤكد‭ ‬انها‭ ‬لو‭ ‬جت‭ ‬هنا‭ ‬تانى‭ ‬سيقطعها‭ ‬بسكين‭ ‬الجبن‭ ‬الرومى‭ ‬ويمسك‭ ‬سكينا‭ ‬طويلة‭ ‬جدا‭ ‬ويشاور‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬ثلاجته‭ ‬فيجرى‭ ‬الأولاد‭ ‬غير‭ ‬مكترثين‭ ‬بعم‭ ‬محمد‭ ‬ولا‭ ‬بسكينه‭ ‬بعدما‭ ‬يقذف‭ ‬الكرة‭ ‬بعزم‭ ‬ما‭ ‬أوتى‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬فلا‭ ‬تترنح‭ ‬الا‭ ‬أمتار‭ ‬قليلة،‭ ‬كبر‭ ‬عم‭ ‬محمد‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬ذراعه‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭.‬

ينقسم‭ ‬الأطفال‭ ‬عادة‭ ‬فى‭ ‬ساعة‭ ‬العصارى‭ ‬مع‭ ‬انكسار‭ ‬الشمس‭ ‬الى‭ ‬فرق‭ ‬بعضهم‭ ‬يغزل‭ ‬أحلامه‭ ‬بِشلات‭ ‬لانهائية‭ ‬من‭ ‬الدوبار‭ ‬ويحملها‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬طائرة‭ ‬ورقية‭ ‬ملونة‭ ‬مجدولة‭ ‬من‭ ‬خوصات‭ ‬رقيقة‭ ‬ويصعد‭ ‬الى‭ ‬أعلى‭ ‬سطح‭ ‬بالمنطقة‭ ‬ويسمح‭ ‬لها‭ ‬بالطيران‭ ‬ويالحظة‭ ‬لما‭ ‬تكون‭ ‬الريح‭ ‬مواتية‭ ‬والهواء‭ ‬ا‭ ‬حنينب‭ ‬فتبدو‭ ‬كأنها‭ ‬محمولة‭ ‬على‭ ‬بساط‭ ‬من‭ ‬ريح‭ ‬يذهب‭ ‬بها‭ ‬حيث‭ ‬يشاء‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تعلق‭ ‬بشيء‭ ‬فتبدو‭ ‬السماء‭ ‬حينها‭ ‬ملآنة‭ ‬بأحلام‭ ‬الصغار‭.‬

أما‭ ‬فريقنا‭ ‬الآخر‭ ‬فلايزال‭ ‬يفاصل‭ ‬مع‭ ‬عم‭ ‬ربيع‭ ‬العجلاتى‭ ‬الذى‭ ‬ينتصف‭ ‬الحى‭ ‬فى‭ ‬سعر‭ ‬لحام‭ ‬ثقب‭ ‬العجلة‭ ‬ومقابل‭ ‬شّد‭ ‬الجنزير‭ ‬واستعدال‭ ‬المقود،‭ ‬ليبدأ‭ ‬سباق‭ ‬محموم‭ ‬بين‭ ‬الجميع‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يفوز‭ ‬بمرافقة‭ ‬أجمل‭ ‬بنات‭ ‬الحى‭ ‬فى‭ ‬رحلتها‭ ‬اليومية‭ ‬على‭ ‬دراجتها‭ ‬الرقيقة‭ ‬مثلها،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬الرفقة‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬لبعيد‭ ‬فالأيام‭ ‬تقرب‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬الأولاد‭ ‬الا‭ ‬أن‭ ‬يحاوطونها‭ ‬بأدب‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬ربما‭ ‬تختار‭ ‬أحدهم،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يحدث‭ ‬أبدًا‭ ‬كان‭ ‬صوت‭ ‬الدكتور‭ ‬رائد‭ ‬والدها‭ ‬ينفجر‭ ‬بين‭ ‬لحظة‭ ‬وأخرى‭ ‬من‭ ‬بلكونه‭ ‬كأنه‭ ‬يلطش‭ ‬وجوه‭ ‬الأولاد‭ ‬كلهم‭ ‬بصفعة‭ ‬واحدة،‭ ‬فنفيق‭ ‬فورًا‭ ‬ونعتدل‭.‬

فى‭ ‬نهاية‭ ‬اليوم‭ ‬تهدأ‭ ‬الأوضاع‭ ‬وتعود‭ ‬المياه‭ ‬لمجاريها‭ ‬وتكثر‭ ‬حكايات‭ ‬الونس‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬شباك‭ ‬الست‭ ‬سُعاد،‭ ‬كأنها‭ ‬هى‭ ‬الأخرى‭ ‬كانت‭ ‬تأتنس‭ ‬بنا‭ ‬ولا‭ ‬تغفو‭ ‬الا‭ ‬على‭ ‬همهمات‭ ‬الأولاد‭ ‬وأسرارهم‭.‬

هذه‭ ‬حكاية‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬آلاف‭ ‬أخرى‭ ‬أجمل‭ ‬وأحن‭ ‬وأكثر‭ ‬منها‭ ‬ونس‭ ‬تدور‭ ‬برأسى‭ ‬مع‭ ‬عصرية‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬لما‭ ‬أكون‭ ‬عابرا‭ ‬أعلى‭ ‬كوبرى‭ ‬٦‭ ‬أكتوبر‭ ‬فى‭ ‬الطريق‭ ‬من‭ ‬وسط‭ ‬المدينة‭ ‬لحى‭ ‬مدينة‭ ‬نصر،‭ ‬وأنا‭ ‬أتأمل‭ ‬عمارة‭ ‬منطقة‭ ‬غمرة‭ ‬المذهلة،‭ ‬ولولا‭ ‬أننى‭ ‬فهمت‭ ‬جيدا‭ ‬واستوعبت‭ ‬ضحالة‭ ‬الذوق‭ ‬الآن‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬أزعل‭ ‬اذا‭ ‬سقط‭ ‬بيت‭ ‬أو‭ ‬أُسقط‭ ‬لكنت‭ ‬طالبت‭ ‬بمشروع‭ ‬ثقافى‭ ‬معمارى‭ ‬لهذه‭ ‬المنطقة‭ ‬يحفظ‭ ‬لنا‭ ‬ماتبقى‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬مدينتنا‭ ‬القديمة،‭ ‬وبالمناسبة‭.. ‬لما‭ ‬بحثت‭ ‬عن‭ ‬عمارة‭ ‬هذا‭ ‬الحى‭ ‬الرائع‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة،‭ ‬لذا‭ ‬أنا‭ ‬أوثق‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬حى‭ ‬عمارته‭ ‬مذهلة‭ ‬اسمه‭ ‬اغمرةب‭.‬

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة