د.نزار الصياد وشهاب طارق
د.نزار الصياد وشهاب طارق


د. نزار الصياد: القاهرة مدينة «مُريَّفة» يصعب وصفها

أخبار الأدب

الأحد، 01 يناير 2023 - 01:17 م

لم أدع لإنهاء التراث وما قصدته كان نهاية ‏الأصالة كعامل أساسى لتحديد ‏ماهية التراث

الصراع فى مصر لسوء الحظ كان بين العولمة والأصولية وليس المحلية الثقافية

التراث مصطلح ديناميكى متحرك يعيد تعريف التاريخ لاستخدامه فى الحاضر وتخيل المستقبل فى بعض الأحيان
استجواب التراث يعنى رغبتنا  فى التحقق من فكرة الأصل 
مشكلة استعادة الأصل البحث عن أصول وهمية لم تحدث 

مصر احتفظت بهويتها وتعيد تعريفها من وقت لآخر
لم يتعامل الدكتور نزار الصياد مع التراث باعتباره جمادًا ثابتًا، إذ أدرك مبكرًا أن التراث -مثلنا تمامًا- يتأثر دائمًا بالصراعات التى تحدث حوله، فى الوقت نفسه شكلت فكرة إعادة استدعاء تراث الماضى واستخدامه مرة أخرى هاجسًا كبيرًا بالنسبة إليه. ويرى أن الصراع الموجود فى الشارع، وفى وسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعى، سيخلق فى النهاية ارتدادات للعولمة، وهو الأمر الذى سيخلق مستقبلا هوية جديدة للعالم.  
بحث الصياد طويلاً فى الأمر وكتب أبحاثا كثيرة حول تلك الأفكار، لكنه واجه صعوبة كبيرة حينما أراد نقلها للعربية لأن كثيرا من المصطلحات التى يتناولها فى أبحاثه لا يوجد ما يقابلها بالعربية، فأصبح عليه نقلها والبحث عن حلول لتعريبها فى الوقت نفسه. 
الصياد الذى يعمل أستاذًا للعمارة والتخطيط وتاريخ المدن بجامعة كاليفورنيا بيركلى احتفل مؤخرا بصدور الترجمة العربية لكتابه «تقاليد التراث» عن دار العين للنشر، وحوله دار هذا الحوار الذى يوضح فيه الكثير من أفكار كتابه الجديد.

 

ماذا قصدت بمصطلح تقاليد التراث؟ 
هذا المصطلح قمت بتأليفه نتيجة لعدم وجود مقابله فى اللغة العربية، فالمصطلح فى الكتاب الأصلى هو «TRADITION»، ولو ترجمنا الكلمة فهى تعنى «عادات أو تقاليد»، لكن فى الواقع لا يوجد ما يسمى بـ«تقاليد العمران»، أو «عادات العمران»، خاصة أننا نتحدث عن حالة العمران التراثية.

ولذلك اخترعت المصطلح لأنى أردت التعبير عن الأشياء التى تؤثر على العمران طوال الوقت، فهذه الكلمة معناها بالإنجليزية تسليم شيء ما من جيل لآخر، أى توريث شيء له «قيمة وأصالة» لمن يملكونه.


لكن أظن أنك تتحفظ أصلًا على مصطلح الأصالة.. هل يمكن للمقلد أن يصبح أصيلًا؟
لست متحفظًا على الكلمة، لكنى أتحفظ على الطريقة التى يتم التعبير من خلالها عن أصالة الأشياء، فعندما طُلب من ماكس هرتز باشا عمل جناح لمصر فى جناح إكسبو كولومبيا بشيكاغو خلال عصر عباس حلمى الثاني، قام بنقل الشكل العام لمبنى سبيل عبدالرحمن كتخدا فى شارع المعز، لكنه لم يقم بعملية مسح للمبنى، وكى يضفى عليه نوعًا من الأصالة.

وقام بنزع الشبابيك الأصلية ووضعها فى المبنى الجديد، وعندما أرادت البعثة الألمانية ترميم السبيل خلال ثمانينيات القرن الماضي، لم تجد رسومًا ممسوحة للمبنى لإعادة ترميمه، فلجأوا للرسومات التى قام بها ماكس هرتز خلال معرضه فى شيكاغو.

فأصبح بالتالى سبيل عبد الرحمن كتخدا الموجود حاليًا، وكأنه نسخة مقلدة من أصله الموجود فى شيكاغو؛ وبالتالى أصبحت النسخة المقلدة هى المرجعية التى ساعدت الأصيل على الاستمرار فى الوجود.


وبالحديث عن «الأصالة».. كثير من المتخصصين داخل مصر لم يرحبوا بما قامت به وزارة الآثار عندما نقلت مشهد آل طباطبا وأعادت بناءه مرة أخرى.. فقد اعتبروا أن المبنى الأصلى قد انتهى ولم يعد موجودًا لأن الجديد لم يعد أصيلًا.

 
والمشكلة -من وجهة نظري- ترجع لعدم وجود تعريف ثابت ومتفق عليه لكلمة «أصالة» فى مجالات الحفاظ على الآثار، سأعطى مثالًا.. خلال المرحلة الجامعية أعجبت بمادة التصميم العمراني، لأنها كانت تحدد علاقة المبانى ببعضها البعض من خلال خلق الفراغات المختلفة.

وقد انبهرت بالفراغ الواقع أمام باب زويلة، وكتبت بحثًا تناولت فيه عظمة هذا الفراغ، بوصفه معبرًا عن تتابع الحقب التاريخية والثقافات المختلفة والأسر التى حكمت مصر، لكنى بعد حوالي20 عامًا درست ما قامت به لجنة حفظ الآثار العريية من أعمال.

وأدركت أن كل هذه الأمور كانت مصطنعة، فمسجد الصالح طلائع مبنى مصطنع، وما تبقى منه ووصل إلينا كان عبارة عن واجهة صغيرة، ولجنة حفظ الآثار العربية بدورها أعادت بناءه مرة أخرى بشكل «مُتخيل».

وبعدها عرفت أن زاوية فرج بن برقوق لم تبن أصلًا فى مكانها الموجود حاليًا، لأن اللجنة قررت نقلها لإفساح الطريق أمام باب زويلة بدلًا من هدمها؛ فعندما درست هذه الأمور أصبت بإحباط، وأدركت أن اللجنة خلقت هذا الفراغ منذ مائة عام.

وبالتالى أصبح تراثًا -قد يكون- أفضل من السابق؛ لذلك يجب أن نقبل بالتغيرات التاريخية التى تحدث، ولهذا قمت بتأليف كتاب «نهاية التراث»، ولم أقصد هنا نهايته، ولكن قصدت نهاية ‏الأصالة كعامل أساسى لتحديد ‏ماهية التراث؛ أى النقطة الأولى التى ولد فيها الشيء، فهناك الكثير من الأمثلة التى حدثت فى مصر خلال القرن الـ 18.

فقبة قرقماس بنيت أمام جامع الحاكم، وهى تعود لفترة المماليك البحرية، وقد بنيت هناك لأن الجامع لم يكن مستغلًا خلال هذه الفترة، فهو جامع شيعي، والشيعة الإسماعيلية اختفت تمامًا من مصر خلال تلك الفترة.

ولكن فى نهاية الأمر تم إزالة القبة من جانب طائفة البهرة منذ سنوات لأنهم اعتبروها «دخيلة» على المسجد، وأعيد بناؤها فى القرافة بطريقة سيئة، لكن السؤال هنا.. هل يمكن لأحد القول أن  القبة لم تعد أصيلة لأنها منقولة؟ الإجابة بالطبع لا، فهى أصيلة كمبنى فقط ولم تعد أصيلة كأثر بالنسبة لسياقه التاريخى والعمرانى. 


إذن هل توافق على عمليات نقل الآثار التى تحدث مؤخرًا؟ 
بالتأكيد لا.. فعمليات النقل التى حدثت فى الماضى أدت لمشاكل كبيرة، وما قصدته فى إجابتى السابقة أن الفكرة نفسها غير مرفوضة، فهناك حقيقية وهى أن الطريقة التى جرى بها إعادة بناء قبة قرقماس سيئة.

وكذلك مشهد آل طباطبا، فالفكرة قديمة وحدثت فى دول كثيرة فى العالم، وحدثت فى مصر عندما تم إنقاذ معبد أبو سمبل، وأنا بدورى أرفض نقل بعض الآثار من مكان لآخر إلا فى حالات نادرة، لذا أرفض ما حدث لمشهد آل طباطبا.

لأنه كان من الممكن معالجته فى مكانه. وقد تكون الآثار كجهة وجدت أن الأمر سيكلفهم الكثير والأثر نفسه لم يكن مهمًا بالنسبة إليهم، وفى حالة قبة قرقماس فقد نقلت -من وجهة نظرى- لسبب أيديولوجى أيضًا، لأن طائفة البهرة لم تقبل، وقتها، فكرة وجود ضريح لشخص سنى أمام مسجد شيعى، ‏لذا فالنقل فى الحالتين لم يكن ضروريًا ليكون واجبًا.


وما هو رأيك فى فكرة نقل مقابر أعلام مصر داخل مكان واحد أشبه بمقابر للخالدين.. هذه فكرة تم طرحها أيضًا مؤخرًا؟ 
ما يحدث حاليًا للمقابر أمر خطير لأن المنطقة أصلًا يجب أن تعامل كنسيج واحد دون تقطيعها لأجزاء لأنها بذلك ستفقد معناها التاريخى، وما حدث مأساة، وأنا مستعد لتقبل فكرة جمع مقابر الأعلام فى مكان واحد.

وأقصد هنا جمع المقابر التى تمت إزالتها بالفعل، باعتبار أن ذلك ومع الوقت سيصبح تراثًا للأمة، لكن الأمر لا يعفى مسئولى الآثار من مسئولية إهدار التراث الأصلى الموجود فى الجبانات، لتطوير المنطقة عقاريًا أو مروريًا؛ لذلك أرى أنه من الضرورى وقف عمليات هدم هذه المقابر فورًا، والبحث عن حلول أخرى.


وبمناسبة ذكرك لنهاية التراث.. عقدت مؤتمرًا فى مدينة تيرانى الايطالية عام 2000، وحمل أيضًا عنوان «نهاية التراث».. هل كنت تعتقد وقتها أن التراث يمكن أن ينتهي؟ 
لا بالعكس، فالمؤتمر قمت بتنظيمه داخل إيطاليا وهى أكثر دولة بها آثار وتراث، فهم دائمًا يعتزون بتراثهم، وقد نظمته عام 2000؛ أى مع بداية القرن الـ 21، وخلال تلك الفترة ظهر الكثير من المؤلفات التى تحدثت عن النهايات، فظهر مثلًا كتاب «نهاية التاريخ» للمؤرخ فرانسيس فوكوياما.

وبعدها خرج كتاب «نهاية اليوتوبيا»، ثم كتاب «نهاية الأيدولوجيا»  لـ دانيل بيل، وكتاب آخر مهم اسمه نهاية «الدولة القومية». لكن ما حدث أن بعض تلك النهايات لم تحدث، فالتاريخ لم ينته، والدولة القومية أيضًا، بل بالعكس فأحداث سبتمبر من عام 2001 غيرت الكثير من هذه النهايات.

وأنا لم أدع أصلًا لإنهاء التراث، لكن ما أردت توضيحه هو أن اعتبار «الأصالة» كعنصر رئيسى لتحديد ما هو تراثى قد انتهت بالفعل، فهناك أشياء موجودة منذ 20 عاما فقط إلا أنها أصبحت تراثًا.

وهناك أشياء موجودة منذ 500 عام لكنها لم تعد تراثية كما كانت، بل أصبحت عبارة عن آثار «مهملة»، والدولة والمجتمع لم يهتموا باستمرارها، فاعتبار الأصالة كمحدد أساسى لتحديد ما هو تراثى فى القرن الـ21 -من وجهة نظري- من الضرورى إعادة النظر فيه، وهنا يمكن أن نسأل: ما هو الشيء الأصيل؟، فسبيل عبد الرحمن كتخدا كما ذكرت لا يمكن لشخص أن يقول أنه جرى تقليده من مبنى آخر.

فصحيح أنه مبنى مقلد ومخترع وتم تنفيذه فى دولة أخرى، لكنها فكرة مستنبطة ثقافيًا وبصريًا من مبنى موجود داخل تاريخ هذا المكان؛ لذلك فالأصالة بالنسبة لى لا تعنى ماذا كان الشيء فى بدايته، لأن هذا «الشيء» يتغير على مدار حياته.

والأثريون بدورهم يواجهون نفس المشكلة عندما يرممون مبنى أثريا، فعندما بدأ ترميم معبد الأقصر وجد أن مسجد أبو الحجاج تم بناؤه على جزء من المعبد، وهذا الجزء لم تجر أية عمليات تنقيب أسفله حتى الآن.

ولكن لو نظرنا للأمر تاريخيًا، فالمسجد عندما بنيّ لم تكن الآثار الموجودة حوله لها قيمة تذكر خلال هذه الفترة الزمنية، وسكان المكان بدورهم لم يجدوا أى قيمة لها؛ لذلك قرروا بناء مسجد، وأصبح تراثًا، ويستخدم حتى الآن، والسؤال هنا: هل نقوم بهدم مبنى تراثي، لأننا نملك أثرًا أهم منه؟، فهذه مشكلة كبيرة، لدرجة أنها تتسبب فى مشاكل سياسية كبيرة فى بعض الأحيان داخل العديد من بلدان العالم.

فعندما تولى رئيس الوزراء الهندى ناريندا مودى الحكم، كان معروفًا عنه أنه هندوكى متعصب، وهنا تبادر فى ذهنه أن مسجد «بابري» الموجود فى مدينة أيوديا الهندية، تم بناؤه على أنقاض المعبد الذى ولد فيه الإله الهندوكى «راما».

وبالتالى أثار مودى حماس الناس فهدموه؛ رغبة منهم فى استدعاء المعبد القديم، وبسبب الصراع المستمر وصل الأمر للمحكمة العليا فى الهند، ولا تزال القضية معلقة، والأمر ينطبق على المسجد الأقصى فلو أرادت إسرائيل استعادة ما تدعى إنه تراثها وإعادة هيكل سليمان.

والذى يزعمون أن الأقصى بنى على أنقاضه، فسيتسبب الأمر فى مشاكل سياسية عالمية؛ لذلك ما أريد قوله هو أن أى محاولة لاستعادة أثر أو تراث وإعادته للفترة التى كان عليها هى مشكلة معقدة للغاية.

وقلت فى كتابك أنه كى نضمن دعم التراث القديم يجب أن يكون ذلك من خلال إنتاج جديد.. ماذا تقصد بـ كلمة إنتاج جديد، ما المتوقع تقديمه لخدمة التراث القديم؟ 
سؤال جيد وهو يتعلق أيضًا بتعريف «تقاليد التراث» فقد ابتدعته من خلال المنظمة الدولية لدراسة البيئات التراثية والتى أنشأتها عام 1988، فوقتها فكرنا فى أسباب اهتمامنا واعتزازنا بما تركه الأجداد، وقد تساءلنا وقلنا: هل الأشياء التى نحبها تبقى كما هى عندما نحتفظ بها؟ إذ أدركنا أن هذه الأشياء ليست ثابتة، فأنا كمؤرخ عمرانى لاحظت أن التراث يعامل بشكل مختلف من جيل لآخر حتى وإن احتفظ ببعض عناصره، فهناك أشياء تتغير مع الزمن.

ولكن فى النهاية  نجد أنفسنا أمام شيء جديد؛ وهناك مثل أمريكى شهير يحكى أنه لو امتلكت فأسًا يعود لأجدادك، فهذه الفأس مكونا من عدة عناصر، ومنها رأس الفأس والتى هى قطعة من الحديد، ثم يدها المكونة من قطعة خشب؛ ثم المسمار الذى يربط بين كليهما، لكن منذ خمسمائة عام كانت هذه الفأس أصلية لم يطرأ عليها أى تغيير، وبعد 300 عام تم تغيير يدها.

وبعد 200 عام تم تغيير مسمار الفأس، وبعد مائة عام أخرى تم تغيير رأس الفأس؛ أى إننا أمام قطعة أخرى جديدة، لكن هذا لا يعطى أحد الحق فى اعتبار أن الفأس لم تعد تراثية، فقد احتفظت بالفكرة حتى وإن تغيرت المكونات المصنوعة منها، فجزء منها لا يزال تاريخيا.

وإن كان لا يعود للأصل الأصيل؛ لذلك فتعريفى لمصطلح تقاليد التراث مقصود منه أن التراث مصطلح ديناميكى متحرك، لأنه موجود فى ذهن الإنسان والجماعات والشعوب، فهو يعيد تعريف التاريخ، لاستخدامه فى الحاضر، وفى بعض الأحيان لتخيل المستقبل. 


مصطلح استجواب التراث ظهر لمحاولة فهم التراث ومعرفة آثاره على العادات.. قلت إنه ظهر أثناء محاولة بحثك عن المدينة الأصولية وليست الفاضلة.. ما هى المدينة الأصولية تحديدًا؟ 
هذه الكلمة لها مدلول علمي، فهناك أشياء كثيرة من التراث لم نأخذ الوقت الكافى لفهمها بصورة صحيحة، فاستجواب التراث يعنى رغبتنا فى التحقق من فكرة الأصل، هل هو موجود دائمًا أم لا؟ لذلك تساءلت حول فكرة استدعاء تراث الماضى وإعادة استخدامه مرة أخرى.

فهناك شخصان تناولا الفكرة وأنا أعتبرهما من أعظم فلاسفة القرن الـ20 وهما؛ إيريك هوبزباوم والذى كتب كتابًا ترجم للعربية باسم «اختراع التقاليد»، فهو يوضح أشياء كثيرة نعدها من التقاليد وهى ليست كذلك، بل اخترعت فى نقطة زمنية وفجأة اعتبرها الناس تقليدًا.

وتم نقلها من جيل لآخر إلى أن صارت مع تكرار التجربة تراثًا فى النهاية. وهناك فيلسوف آخر اسمه بينديكت أندرسون والذى ألف كتابًا باسم «المجتمعات المتخيلة»، فكلاهما أعاد تعريف التراث بطريقة سياسية واقتصادية.

ولكن إيريك هوبزباوم أثبت أن معظم الدول التى نشأت منذ منتصف القرن الـ20 حدودها ووطنيتها مخترعة، وأنه لا يوجد بداخلها شىء أصيل، وبالمناسبة ففكرة الدولة القومية ظهرت أصلًا فى إنجلترا وفرنسا، والإمبراطوريات الكبرى خلال القرن الـ 18.

وأصبحت أساسية لتعريف هوية الدول فى القرن الـ20، لدرجة أن جميع الدول التى استقلت عن هذه الإمبراطوريات استخدمتها، لكن ظهرت مشاكل كبيرة بسبب اعتمادهم بصورة أساسية على وجود تجانس وأشياء مشتركة بين هؤلاء الأشخاص، فخلال فترات الصراع والرغبة فى التحرر من الاستعمار، تم الاتحاد بينهم رغم اختلاف عاداتهم وثقافتهم وتعدد لغاتهم.

فالوضع فرض عليهم هذا التعاون، وعندما تحقق الاستقلال فى النهاية اكتشف السكان أن وضعهم غير مناسب للاندماج، فمثلًا تساءل المسلمون عن سبب تواجدهم فى دولة الهند، فقد شعروا أنهم مختلفون عن الهندوسيين، وبدأت الرغبة لإنشاء دولة باكستان الشرقية والغربية، لكن فى سنة 1970، أبدى سكان باكستان الشرقية رغبتهم فى الاستقلال فقد شعروا أنهم ينتمون لقومية أخرى

ولذلك قرروا الاستقلال وأصبحت دولة بنجلاديش فى نهاية الأمر. ولهذا أيضًا اتساءل دائمًا: متى أدرك المصريون أنهم مصريون؟، فالإجابة صعبة، فالمصريون الذين ذكرهم المقريزى مختلفون تمامًا عن المصريين حاليًا.

ولا أقصد هنا أنهم مختلفون فى العادات والتقاليد ولكن تخيلهم للواقع مختلف تمامًا، ففكرة المواطنة لم تكن موجودة فى ذلك العصر، وعندما تحدث عنهم المقريزى لم يقصد أنهم مواطنون يعيشون فى مصر أو القاهرة، لكنه باعتبارهم سكان تابعين لسلطان يحدد هويتهم، وهذا بعكس الوضع حاليًا الذى نشأ بناء على فكرة الدولة القومية. 


إذًا هل يمكن لهوية واحدة أن تستقر وتستمر دون حدوث تبدّل أو تغيرات؟ 
من المستحيل أن تستقر هوية فشكل العالم دائمًا متغير، ولو رسمنا خريطة للقرن الـ 19 سنجد حوالى 9 إمبراطوريات فقط، لكن بعد الحرب العالمية الأولى تم إنشاء عصبة الأمم، وأصبح العالم عبارة عن 38دولة، وبعد الحرب العالمية الثانية أصبح 65 دولة، وحاليًا 192 دولة.

وهذا الأمر سيظل مستمرًا لأن هوية الشعوب دائمًا متغيرة وليست ثابتة، فوجهات نظر الناس وفهمهم للأمور تتغير، والتغيرات السياسية والاجتماعية بدورها تؤدى إلى تغيرات فى وضع الدولة وفى فكرة القومية والوطن. 


تقول إن العودة لأشياء أكثر تقليدية يصبح إغراءً مستمرًا.. لكن هناك رغبة حاليًا من جانب الدول فى التحديث بشكل كامل.. قصدت بذلك أن هناك رغبتين، دائمًا تسيطران علينا، ونحن نظنهما متضادتين؛ فوجهة النظر الأولى تقول أننا نملك تراثًا نستعمله ونُعرف به أنفسنا.

وندافع عنه دفاعًا مستميتًا، لكن هناك أشياء فى تراثنا نحاول تغييرها والثورة عليها، أو نحاول التغاضى عنها تمامًا، وهذا يحدث عندما نواجه الآخر؛ أى الحداثة، وهذه المواجهة تجعلنا نرى آخر مختلفا عنا، لأنه يملك عاداته وتقاليده، وفلسفته، ومواقفه السياسية.

وهنا يحاول البعض الانتماء لهذا الآخر، وهذان الشعوران رغم أنهما قد يبدون نقيضين إلا أنهما يحدثان فى نفس التوقيت أو واحد تلو الآخر، بناء على وضع الجماعة أو الأمة، فتقبل الآخر شيء والانتماء إليه شيء مختلف تمامًا.

والأمر يحدث فى مجتمعنا المصرى فى بعض الأحيان، لكن بشكل مصطنع وغير طبيعي، كأن يتحدث البعض الإنجليزية فى الشارع، فهم بطبيعتهم يريدون الانتماء للآخر، وأحيانًا ينجحون فى الاختلاط بهذا الآخر؛ لذلك لا يمكننى اعتبار الأمر أنه غير صحي، فهو أمر شخصي، وأحيانًا يكون جماعيًا على مستوى الدولة.

وهناك دول غيرت من نفسها وتحولت من دول شرقية لغربية، وغيرت الكثير من عاداتها وتقاليدها، لكن المطلوب هو النضج خلال العملية التحويلية، فهناك دول كثيرة مرّت بالتجربة بنضج شديد، ودول أخرى مرّت بها لكن بسذاجة شديدة. 


الأمر يأخذنا لنقطة أخرى.. لماذا تحاول دول الجنوب دائمًا اللحاق بالشمال وليس العكس.. هل ثقافة الجنوب لم تعد قادرة على إغراء ثقافة الشمال كما  حدث فى الماضي؟ 
 دائمًا أتذكر ما قاله كارل ماركس: «الدول المتقدمة تخطو خطوات وفى خطها لهذه الخطوات تضع الطريق للدول المتأخرة لتمشى وراءها»، فما قلته أنت صحيح، لكن الموضوع نفسه لا يتعلق بدول الشمال أو الجنوب، لكنه يخص دولًا استطاعت الوصول لمرحلة معينة من التطور الحضاري.

وبالتالى سعت دول الجنوب لتقليدها، لكن هناك حالات قليلة استطاعت ثقافة الجنوب خلالها فرض قوتها على الشمال، وأنا أؤيدك فى هذا الطرح، فنحن استطعنا فرض ثقافتنا خلال القرنين الـ 18 والـ 19؛ أى عندما مرّت دول الشمال بالثورة الصناعية التى أثرت على حالتهم الصحية والنفسية.

وقد أراد البعض منهم الرجوع للوراء، والارتداد للعيش داخل المدن التى لم تطأها الثورة الصناعية ولم تلوث؛ لذلك ظهرت فكرة الاستشراق نتيجة الرغبة فى اتباع هذا الآخر والارتداد إليه، لكن حاليًا نحن نريد أن نصل لما وصل إليه هذا الآخر، لأننا لم نصل أساسًا لمرحلة النضج. 


هل ترى أن تمدد العولمة سيعوق عملية إنتاج ثقافة تميز كل شعب عن آخر؟
الإجابة عن هذا السؤال صعبة، لأن إجابته تعتمد على أين هو مكانك فى العالم، فقد خلقت العولمة صراعات داخلية، وهناك من يتمسكون بالأصالة، مقابل كل ما هو عولمى فى مجتمعاتهم، لذلك أرى أن الصراع الذى يحدث فى الشارع ووسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي، سيخلق ردودا وارتدادات للعولمة بشكل محلي، وهذه الارتدادات ستعبر عن الهوية الجديدة فى العالم، فى محاولة للتعايش مع العولمة وليس محاربتها. 


لكنك ذكرت أن هناك مواجهة غير متكافئة بين طرفين ساهمت فى النهاية فى إنتاج تراث مهجن.. ما الذى ستؤدى إليه هذه المواجهة فى نهاية الأمر؟ 
المواجهة بطبيعة الحال غير متكافئة، بسبب غياب العدالة فى توزيع الموارد وغياب العدالة الاجتماعية فى العالم، فقد ظهرت المواجهة خلال الفترة الاستعمارية؛ أى عندما استقلت دول الجنوب عن دول الشمال، فقد ورثوا أفكارا وقوانين كان من الصعب إزالتها.

ومثال على ذلك قوانين المبانى فى الدول العربية، والتى وضعت معظمها خلال الفترة الاستعمارية، فهى قائمة على مُثل غير حقيقية،  فقاهرة القرن الـ19، لم تعرف أصلًا فكرة البيت المنعزل، لكن ما حدث أنه تم سن قوانين لفرض مسافة بين كل منزل وآخر.

وهذه فكرة ابتدعها الإنجليز فى إنجلترا بهدف الصحة العامة، وأثناء الثورة الصناعية كانت البيوت هناك متلاصقة فحدثت مشاكل صحية، لكن فى مصر كانت المنازل صغيرة وبداخلها أحواش داخلية تضمن دخول الهواء، فلم نكن نحتاج لقوانينهم، لكن تم وضع قوانين مبان جديدة.

وأدت فى نهاية الأمر لظهور عمران ليس له علاقة بالمجتمع نفسه؛ سواء ثقافيًا أو اجتماعيًا أو حتى بيئيًا، والمشكلة حاليًا أن هذه الأمور أصبحت تراثًا رغم أنها لا تتناسب مع ثقافة المصريين حاليًا. 


فى كتابك تحدثت عن الخصوصية الثقافية.. هل ترى أننا بصدد انتهاء عصر الخصوصية الثقافية المحلية؟ 
بالطبع لا.. هذا الأمر هو ما قامت به العولمة لأنها خلقت وسائل اتصال اجتماعي، وخلقت فراغ محاكاة أعاد تعريف النفس والآخر، وهذا الفراغ يستطيع الفرد من خلاله معرفة ما يدور فى العالم؛ وبالتالى خلقت حرية اختيار لم تكن موجودة من قبل، فهناك من قرروا الانتماء لهذا الآخر.

ولكن فى المقابل هناك كثيرون أرادوا الرجوع والبحث عن الأصل والتمسك به؛ لذلك طرحت فكرة المدينة الأصولية، فمشكلة استعادة الأصل أنهم يبحثون عن أصول وهمية لم تحدث تاريخًا، وحتى لو حدثت فهى تحرف لتناسب ما يريدون فعله؛ لذلك أصبح الاختيار من التاريخ يتم بطريقة اختيارية.

وبهدف إنشاء تاريخ خاص يمكنهم من خلاله تبرير تاريخهم الحالي، فكثير من الأصوليين والسلفيين المصريين يريدون استعادة السلف، لكنى اتساءل دائمًا أى سلف يريدونه؟ فالسلفيون خلقوا تاريخا للمدينة المنورة لم يحدث على الإطلاق.

وأصبح الأمر نوعاً من اليوتوبيا غير الحقيقية، لذلك ما أريد قوله أن المحلية لن تختفى أبدًا لأنها تنبع من تفاعل الناس مع بعضهم البعض فى مكان معين، بطريقة قد تنافى كل المثل والأفكار الموجودة فى العولمة.

والأمر كذلك ينطبق على هؤلاء الذين يتبنون فكرة الرجوع للحضارة المصرية القديمة أو الإسلامية داخل مصر، فهم لا تجمعهم أى صلة بكلا الحضارتين، إلا أن رغبتهم هى جزء من نوستالجيا لأشياء لا يعرفونها ولم يدرسونها، لكنها موجودة فى ذهنهم كخيال يعبر عن «أمل» أو عن «هروب»؛ لذلك البعض يحاولون الهرب من الوضع الحالى الذى قد يبدو سيئاً بالنسبة إليهم، إلى زمن يعتقدون أنه كان الزمن الذهبي.


وماذا عن القاهرة.. البعض يتحدث أن القاهرة كمدينة فقدت خصوصيتها.. كيف تقيمها كمؤرخ عمراني؟ 
القاهرة فى الوقت الحاضر مدينة مُريَّفة، وعشوائية ويصعب تقديم وصف لها بشكل كامل، بسبب تنوعها الشديد، فكثير ممن جاءوا إليها لم يتمكنوا من وصفها بسبب تركيبتها المعقدة، ومنهم ابن خلدون نفسه، لكنى أظن أنها فى الوقت الحالى جزء من الريف المصرى القديم، فهى تحوى داخلها تراثا قديما فرعونيا، وتراثا إسلاميا، وتراثا للقرن الـ19 الذى اعتبرناه فى الوقت الراهن تراثًا مثل القاهرة الخديوية.

والتى لم تكن تمت لمصر بأى علاقة، منذ أن تخيلوها فى البداية، أو عندما خططوا لها، أو عندما بنوها، وسكنوها، لكنها فى النهاية تمصرت وأصبحت قاهرية، ويصعب أن نعتبرها إرثًا استعماريًا لأن عمارة «الآخر»، حتى وإن كان مستعمرا ووجوده سيئا إلا أن عمارته تصبح فى النهاية هى عمارة «النفس»، التى يعتز بها السكان المحليون بعد ذلك، ومن وجهة نظرى الأمر طبيعى ولا يجب النظر إليه بطريقة سيئة أو سلبية. 


هل تتفق أن كثيرا من دول العالم الثالث لم تحتفظ بهويتها وتخلت عنها فى نهاية الأمر؟ 
هناك الكثير من دول العالم الثالث احتفظت بهويتها، أو أعادت تعريف هويتها وثقافاتها، ومصر من ضمن هذه الدول التى احتفظت بهويتها، بل وتعيد تعريف هويتها من وقت لآخر، فبعد ثورة 1952 أصبح المصريون عربًا، رغم أنهم لم يكونوا عربًا قبل ذلك، فقد أصبحت مصر دولة إسلامية وفقًا لتعديل دستورى خلال عصر أنور السادات.

فالمصريون حالياً يعرفون أنفسهم كعرب ومسلمين، وكمصريين أيضًا، فكل شخص له هويته الخاصة، فهناك من يعتبر نفسه عربيًا أولًا، وهناك من يعتبر أنه مسلم أولًا، وهناك من يرى نفسه مصريًا أساسًا، وهذه أمور طبيعية من وجهة نظري. 


فلنتحدث عن فكرة نهاية عصر تقاليد التراث.. قلت فى كتابك أنه من المرجح أن تصبح تقاليد التراث هى الحلبة التى سيتجلى فيها الصراع بين متطلبات المحليات الثقافية وضغوط العولمة الثقافية، وقد يكون هذا الصراع هو الذى يحدد مستقبل القرن الــ21.. إذًا ما هى السيناريوهات التى تتوقعها لهذا القرن؟ 
ولا يمكننى التنبؤ بسيناريوهات لهذا القرن، لكن إجابتى على هذا السؤال ومن منطلق كونى مؤرخا عمرانيًا عملت على دراسة الكثير من الفترات التاريخية، فيمكننى القول أن هناك مناطق فى العالم سيزداد فيها الصراع بين العولمة والمحلية، ومناطق ستنتصر فيها العولمة تمامًا، ومناطق أخرى لن يشغلها الصراع القائم.

ولكن بشكل عام أرى أن الصراع فى مصر لسوء الحظ كان بين العولمة والأصولية وليست المحلية الثقافية، فالأصولية لم يكن لها أصل أبدًا، والإخوان على سبيل المثال لديهم تصور مختلف عن معظم المصريين، لأنهم يريدون إعادة تعريف المجتمع المصرى بشكل كامل، فالمجتمع المصرى حاليًا يعرف نفسه باعتباره مجتمعا إسلاميا.

وهذه فكرة مخترعة من جانبهم منذ ثلاثينيات القرن الماضي، لكن سيطرت على المجتمع المصرى منذ حوالى 40 عامًا؛ أى منذ عصر أنور السادات. 


فتحدثت فى كتابك عن فكرة تصميم المدن الافتراضية داخل الألعاب الإلكترونية.. هل يفرض خيال المبرمج نفسه ليعبر عن تراث بعينه دون آخر؟ 
وبالتأكيد فما يراه الإنسان على السوشيال ميديا أو الإنترنت أو السينما يؤثر إلى حد كبير جدًا فى انطباعته عن الحياة المادية التى يعيشها داخل المدينة، فأنا أرى أن العلاقة بين فراغ المحاكاة وفراغ وسائل التواصل الاجتماعي، والفراغ المادى للمدينة سيزداد ولن يقل أبدًا.

وستصبح هناك علاقة متبادلة بينهم جميعًا، وهذه فكرة الكتاب فالعمران ليس ماديًا فقط، فنحن حاليًا نتجول فيه بشكل افتراضى من خلال برامج المحاكاة ومواقع التواصل الاجتماعي، فكثيرون لم يذهبوا لمدينة معينة لكنهم يعرفونها عن ظهر قلب من خلال السينما والتليفزيون.

وبالتالى من الممكن أن يخلق خيالنا واقعًا، لذلك قدمت تحليلًا للعبة   SimCity الإلكترونية التى تحدثت عنها فى الكتاب، والمعنية ببناء المدن الافتراضية، فالحقيقة أن مناقشة مثل هذه الموضوعات لم يكن مطروحًا من قبل القرن الـ21 ، لكن ما أود قوله أنه فى الوقت الراهن أصبح الفصل بين الواقع والافتراضى أمراً لا يمكن تحقيقه. 
 

اقرأ ايضًا | أحمد الزناتى يكتب: بين جابريل مارسيل وإرنست بلوخ: فلسفة الأمل وفلسفة اليأس

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة