أحمد عباس
أحمد عباس


تساؤلات

«رفة» عم مُسعد

أحمد عباس

الأحد، 15 يناير 2023 - 07:36 م

عم مُسعد رجل بشوش جدا يستقبلك بترحاب فسيح وابتسامه رحيبة من دون سبب، له أسنان متفرقات بعضها غادر بغير رجعة وما تبقى منها أضفت عليه وسامة عجوز من نوع طفولى مدهش، لم أتبين عمره بالفراسة، فشعره المشتعل شيبا يقول انه تجاوز السبعين، وضحكته ترمى الى الثلاثينات وسماحة نفسه تؤكد انه مولود منذ ساعات، له دُكان تحت الأرض -حرفيًا- لا أفهم كيف..

هل حفروه بعد البناء أو ربما كان موجودًا قبل رصف الشارع مرات تلو مرات فعلا عليه الأسفلت وغطاه، مساحته ليست أوسع من قبر، لا أعتقده يكفيه لو قرر أن يتمدد للنوم على الأرض مرة، يقف عادة فى دُكانه واضعا ذقنه على كفه مستندا على كوعه لا يلقى للدنيا بالا كأنه يستغرق فى شرفته ساعة عصاري.. أدرك هذا الرجل حقيقتها، لا يرى من هذا المكان سوى إطارات سيارات عابرة قادمة من شارع رمسيس متجهة ناحية كوبرى الكاتدرائية.
أما عني.. فلم تكن علاقة تربطنى بتاتًا بالعم مُسعد فقط ساقتنى اليه الحاجة بعدما سقطت شعلة سيجارة ماكرة على أحد رداءاتى العزيزة سهوًا فأصابته بثقب لعين دفعنى للبحث عن «رفة»، والرفة هى صنعة قديمة تعرفها أجيال الثمانينيات والأقدم والأكثر قدمًا، تقتضى انحناءة من نوع خاص جدا يحفظه عم مُسعد، يظل منكفئا على قطعة الثوب يرفى أطرافها الى أطرافها بنفس لون الخيط فيتلاشى الثقب ويلتئم فتعود بلا أثر، أما الصنايعى الأكفأ فهو من يستطيع أن يفعلها من دون دليل، أسميه أنا ساحرا فى أقل وصف، ذلك انه يستعيد للثوب شأنه وكرامته وهذا لو تعلمون عظيم.
عم مُسعد لا يعرف فى الماركات ولا البراندات ولا السينيه ولا يفهم علاماتها ورسومها واذا نُطقت أمامه لا تشغله ولا يفهمها وربما لا يهتم اذا كان الثوب وارد وكالة البلح، هو فقط معنى بـ»الحتة» هكذا يسمى كل ما يقع تحت إبرته وخيوطه الملونة، لكنه يعى جيدا كل أنواع الخروق ودواءها بالضبط كطبيب التجميل يحفظ الفرق بين ثقبة الحرق، و»نتشة» المسمار، والخرم، والمزق، والنقر، أما أكثر ما يزعج عم مُسعد فهو أن يكون القطع من ذلك النوع الخطير الذى يسميه «ضبة ومفتاح» لا لشيء إلا لأنه مهما عكف عليه سيظهر الرتق لا محالة وذلك من كوابيس الصنايعى الضليع.
كل ذلك رأيته لما انحنيت على عم مُسعد وفرجته ثقب ردائى ذلك الذى أتى بى الى هنا صدفة، رمق الرجل ثوبى الأسود بعينين أصابتهما «الدغششة» تحت لمبة «نيون» ربعها يستغيث، وقال: عَدّى خده بكرة فى أى وقت. عايز كام؟.. سألته، فرد: 10 جنيه، فأجبته: كَم!، فكررها: 10 جنيه.. أصل حرام لو طلبت فيها أكتر من كده!، ابتسمت بسلام وسكون وسكينة ورحلت.
عُدت لبيتى مرتاحا جدا وهادئا كأن زيارة عم مُسعد كانت مقدرة لى لما تهيجت نفسى وتأزمت. فى اليوم التالى «فُتّ» على الدكان منتشيًا، استلمت «الحتة» ورحت أُفتش فيها يمينًا ويسارا أُقلبها بين يدى رأسا على عقب ووالله ما وجدت أثر لإصابة سابقة ولا استطعت تحديد المكان.
عم مُسعد لا يطلب صدقات أبدا ولكن الله يضاعفها لمن يشاء، هو فقط يأخذ عرقه ويواصل الابتسام، يذكرنى فى انكبابه بالصورة العتيقة عن الاسكافى القديم. أعتقد اننى ليلتها لم أنم حتى انهيت اتصالات سريعة بأقرب الأصدقاء وأسرتى الصغيرة أنبئهم بما رأيت، ثم شبه تفحصت كل ملابسى قطعة قطعة أبحث عن ثوب مثقوب أو ملاءة مصابة أو أى شيء يقبله عم مُسعد ويكون لنا فى رزقه نصيب.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة