صور أرشيفية
صور أرشيفية


فهد العتيق يكتب: ظلال غامضة تتبعها

أخبار الأدب

السبت، 11 مارس 2023 - 12:58 م

حين دقت السابعة مساء كانت جاهزة للخروج،ونظرت فى حقيبتها،وتأكدت من المفاتيح والجوال. ثم فتحت الباب وخرجت من البيت،وخرجت بهدوء وبساطة كعادتها فى مثل هذا الوقت،ووالوقت كان المغرب والمشوار قصير.

وفى إجازتها الأسبوعية تقوم بأشياء مهمة وممتعة قبل الذهاب للمقهى فى المساء.

ذهبت مشيا على الأقدام متجهة إلى مقهى الحارة القريب من بيتهم.

هذا هو المغرب أجمل الأوقات. وقتها الذى تحبه. اللحظة الجوهرة ما بين الليل والنهار. لحظة ممتعة ما بين النور والظلام.

وفى الطريق للمقهى كانت تشعر بوجوده بشكل خفى يسير معها فى الطريق. شيء مثل ظل غامض،وكأنه ظلها.

لا. ليس ظلى، قالت، حاولت أن تتذكر منذ متى بدأ فى مطاردها. لم تستطع. تتذكر أنها كانت تراه دائما خلف كل باب مثل عين تراقبها.

وصلت غادة الى المقهى، ثم توجهت مباشرة الى ركنها المعتاد.

وأحيانا تكون بصحبة والدتها أو خالتها. هذه المرة ذهبت لوحدها فقط. تظن أنها كبرت قليلا. كبرت بالأمس فجأة، أو ربما قبل أمس. أو ربما أول الشهر، المهم أنها كبرت وانتهى الأمر.

وجلست تنتظر صديقتها. طلبت قهوتها وأخرجت جوالها،وفى الغالب تتسلى بالجوال لمتابعة صفحاتها فى الفيس بوك أو تويتر أو تتابع أخبار الأفلام فى اليوتيوب.

عندما تجلس فى المقهى يظهر لها مثل ظل أو خيال على الطاولة كأنه يراقبها. يسبب لها القلق والضيق والتحفز.

يظهر لها مثل ثعلب صغير، أو مثل عين تلاحقها.

عين على شكل علامة استفهام غامضة.

شيء كأنه يشعرها بالتقصير أو الكسل أو تأنيب الضمير.

هل هو ضميرها. أو تقصيرها أو كسلها.

لاوأنا لست كسولة، قالت لنفسها. وشعرت أن أفكارا وهواجس وأسئلة عميقة تدور حولها فى هذا المكان.

تعرف أنها تشعر فى أغلب الأحيان بالملل. وأن شيئا ما ينقص وقتها.

عمل جديد تحبه. أو طريق جديد يحرك مياه حياتها الراكدة.

تشعر أنها بحاجة الى أن تعمل شيئا ما. لكن لا تعرف ما هو أو أين هو. لا تعرف الطريق. 

ينقصها شيء ما. لكنها لا تعرف ما هو.

وهل هذا سبب شعورها بأشياء خفية تلاحقها فى كل مكان وتفسد متعتها.

والمقهى شبه خال وهى فى الركن البعيد خلف عمود جميل وملون كأنها غير مرئية. رأته مثل عين غامضة على طاولتها.

وفى هذه اللحظة كانت دون قصد تستمع إلى حوار وأسئلة تأتيها من الطاولة التى خلف العمود. حوار عفوى طريف أذهلها وفتح أبوابا مغلقة فى ذهنها وجعلها تتجاهل هذا الذى يراقبها.

وحين انشغلت عنه، بدأ هذا الشيء الخفى يغيب تدريجيا أو يصبح غير واضح.

وثلاث بنات فى مثل عمرها تقريبا يجلسن خلف العمود الملون فى منتصف المقهى. العمود يتيح لنور أن ترى ولا أحد يراها.

وغادة كانت شبه مخفية، أو غير مرئية، وتستمتع بحوار جديد ومختلف وممتع لبنات يبدو أنهن أكبر منها قليلا. كان الحوار صاخبا وضاحكا أحيانا وجادا هادئا أحيانا أخرى، وكل واحدة تريد إثبات أنها الصح.

وفجأة البنات خرجن من المقهى وسط ضحكات خفيفة وممتعة. وهى استمرت فى مكانها تحاول استعادة ذلك الحوار وتلك الأراء المنوعة الجديدة والمختلفة التى سمعتها. كانت الأحاديث المرحة حول أيهما الأفضل مشاهدة فيلم يوتيوب فى البيت أو قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم فى صالة السينما.

وتتذكر مقاطع من ذلك الحوار الذى دار فى المقهى بين البنات، وكتبته مثل قصة حوارية:

وقالت إحداهن لصديقتها: رأيت أنك خرجت من عزلتك وذهبت إلى صالة السينما لمشاهدة فيلم.

وسألتها وهى تضحك: ثم ماذا.

وقالت لها: أنا كنت هناك ودخلت معك وشاهدنا الفيلم.

وسألتها: أى فيلم. 

وردت: فيلم عن رواية عربية.

وأخبرتها: أنا أحب قراءة كتاب أفضل من مشاهدة فيلم.

وقالت صديقتها: ربما لأنك انطوائية.

وردت عليها: نعم أنا أحب الهدوء والوحدة وأكرة الضجيج.

قالت صاحبتها وهى تضحك: الضجيج متعة وأنس.

وردت عليها: لك أنت. 

بعد الانتهاء من الكتابة شربت قهوتها وهى مستمتعة بجو جديد أنعش روحها. شعرت أنها عاشت موقفا قد يكون له تأثير مختلف فى حياتها. خرجت من المقهى وهى مبسوطة وسارحة تفكر فى أشياء كثيرة دفعة واحدة، وصلت البيت وهى مشغولة الذهن بأشياء كثيرة. ولهذا كانت تشعر بمتعة الوقت والرغبة فى إنجاز شيء ما.

وبدأت تتأكد بفرح أن شيئا جديدا ومثيرا طرأ على حياتها الرتيبة. ولهذا فكرت فى أشياء كثيرة. فكرت أولا فى عرض هذه الأسئلة على صديقاتها. ولهذا أرسلت الأسئلة فورا بالواتس: أيهما الأفضل فى البيت مشاهدة فيلم يوتيوب أو قراءة رواية أو مشاهدة فيلم فى صالة السينما.

وفى الليلة الثانية بعد تفكير طويل فى الموضوع تطورت الفكرة وتوسعت حيث فكرت فى عرض هذه الموضوعات والأسئلة فى صفحتها فيس بوك وصفحتها تويتر.

وفى الليلة الثالثة قرأت عن هذه الموضوعات من خلال محرك البحث جوجل وكونّت فكرة كاملة عنها وكتبتها فى مقالة موجزة صارت مقدمة للأسئلة، وأضافت عليها رأيها حول الموضوع الذى رأت أنه تحول إلى ما يشبه الاستفتاء الصحافي.

أعادت مراجعة مقدمة الموضوع ثم تبعتها بالأسئلة بشكل مرتب.

وفى الليلة الرابعة نشرت المقدمة مع الأسئلة على صفحتها فيس بوك.

الموضوع عن الأفلام والروايات. وهى من عشاق قراءة القصص والروايات ومشاهدة بعض الأفلام الجديدة.

ومنذ هذه اللحظة شعرت أن وقتها صار ممتلئا بعد فراغ طويل، شعرت بتغير ممتع طرأ على أوقاتها.

بدأت صباح اليوم الخامس فى قراءة رواية سمعت عنها من والدها منذ أشهر. وكانت تؤجل قراءتها عدة مرات. رأت أن هذا الوقت الجديد الذى تعيشه مناسب لقراءة هذه الرواية الجديدة. عنوان الرواية: الكتب التى التهمت والدي. للكاتب البرتغالى أفونسو كروش. استوقفتها فى البداية لحظة مهمة حيث تقول والدة بطل الرواية فيفالدو: (إن الأدب قد لبسه. وتخبر حفيدها الصغير الذى يبحث عن والده: أن هذا يمكن أن يقع حين نركز حقا على ما نقرأ. فى مثل تلك الحال يمكن أن نلج الى داخل كتاب كما حدث لابنها فيفالدو).

وهذه الرواية جعلتها تشعر أن ما نعيشه فى حياتنا من أحداث هو أدب أو حكايات أو مسرح مدهش ومثير. ولهذا قررت أن تكتب ما تعيشه وما تشعر به وما تتذكره وليس ما تسمع عنه أو ما تتخيله فقط. وجدت أنه ليس من الضرورى البحث عن موضوع أو اختراع حكاية. الحكايات والمواقف موجودة أمامنا ونعيشها كل يوم فى الحارة والشارع والمكتب. هى موجودة فى الذاكرة.

بدأت تعرف من أين تأتى الحكايات وكيف نكتب قصتنا.

قالت فى نفسها: ذاكرة ومواقف وناس المكان وحكايات تلد حكايات.

والقراءة بجدية متواصلة وبصمت مع الانتباه بدقة وعمق لكل المشاهد العادية فى حياتها اليومية، هذا هو شعارها الجديد، المشاهد اليومية فى حياتنا هى حكايات لم تكتب. فى البيت وفى العمل وفى الحارة، حكايات عابرة ومألوفة وعادية لكنها تستحق الكتابة، نكتبها لنعطيها قيمة ومعنى. 

لاحظت أن العين بدأت تختفى ملامحها تدريجيا وتغيب عن ملاحقتها. أحست بعد هذا العمل الجديد أنها غادة أخرى. نور جديد. وفى بعض الأحيان تشعر أنها صارت غير مرئية. صارت تتصرف على أساس أنها موجودة وغير موجودة. تريد أن تكون مخفية، غير مرئية أحيانا، لكى تحرك المياه فى حياته الراكدة التى كانت مثل رغوة قهوة قديمة ولم تمس.

صارت تتجول فى غرف البيت وفِى الصالة والمطبخ ولا أحد يراها.

وقالت بفرح: هذه لعبة ممتعة ومتعبة. أشعر أننى وجدت الطريق الذى كنت أبحث عنه.

دخلت صفحتها فيس بوك فلاحظت تفاعل صديقاتها وزميلاتها وأستاذاتها مع الموضوع بالإعجاب والردود والتعليقات.

زاد عدد المتابعين والمتابعات للموضوع الذى لاقى حماسة للمشاركة. وتفاجأت غادة بتواصل صحافية من مجلة معروفة تستأذنها فى نشر موضوعها عن السينما والروايات فى المجلة وطلبت منها أن ترسل لهم فى المستقبل موضوعاتها الجديدة.

ورحبت غادة بالفكرة وهى فرحة وشكرتهم على اهتمامهم.

بعد عودتها للجامعة وأثناء فسحة بين المحاضرات، أخذت كوب قهوتها المفضلة وجلست فى ركن مقهى المكتبة. لم تظهر العين التى تشبه علامة استفهام أمامها. لاحظت أنها بدأت تهتم بزميلاتها وحواراتهن وجدالاتهن حول مختلف الموضوعات. بعد أن كانت خلال سنواتها الماضية لا تهتم لهذه الحوارات ولا تستمع لها أو أنها كانت تعتبرها ثرثرات فارغة.

فى نهاية اليوم الجامعى دعتها مديرة المكتبة. جلست معها وطلبت منها الإشراف على مجلة الجامعة الشهرية الى تطبعها المكتبة. سألتها غادة لماذا أنا؟ أخبرتها المديرة: قرأت موضوعك الصحافى فى الفيس بوك ولاحظت أن لديك قدرات تعبيرية فى الكتابة والتحرير. 

من هذه اللحظات والحكايات والمواقف العفوية بدأ مشوارها مع الصحافة. دون تخطيط سابق. قررت أن تتمسك بهذا الطريق الذى وجدته بعفوية وأن تكون جادة فى مساره الممتع، بدأت بزيارة مواقع المكتبات فى النت لتختار أفضل الكتب لإكمال مشوار جديد مع عالم الأدب والصحافة.

اختفى ذلك الذى كان يلاحقها فى كل وقت وكل مكان مثل ثعلب صغير، تذكر أنه كان ينظر فى وجهها مثل عين بلا جسد، عين على شكل علامة استفهام غامضة مستديرة. لهذا بدأت فى تحريك شخصيتها الجديدة، وتظهر للناس بشكل واضح وصريح. قررت أن تكتب أولا حكايتها مع ذلك القلق اليومى وظلاله التى كانت غامضة. سوف تكتب عنه بعد أن اختفى إلى الأبد. سوف تحاول أن تبدأ بكتابة حكاية ظلال غامضة كانت تلاحقنى.

اقرأ ايضاً | كريم محسن يكتب : الكتابة المُطمَئِنَّة فاشلة وبائسة وأنانية

نقلا عن مجلة الأدب: 

2023-3-11

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة