د. عوض الغباوي يكتب : مصر في أدب الرحلة خلال العصر العثماني
د. عوض الغباوي يكتب : مصر في أدب الرحلة خلال العصر العثماني


عوض الغباوي يكتب: مصر في أدب الرحلة خلال العصر العثماني

أخبار الأدب

الأحد، 02 أبريل 2023 - 03:47 م

فى هذه الدراسة نعالج قضايا كثيرة تتعلق بصورة مصر فى أواخر العصر العثمانى من خلال رحلة عالم سورى صوفى أديب هو الشيخ عبد الغنى النابلسى فى كتابه: «الحقيقة والمجاز فى الرحلة إلى بلاد الشام ومصر الحجاز».

استخدم المؤلف الرحَّالة تقنية المذكرات اليومية فى تسجيل رحلته، وقدَّم بذلك واقع الحياة الأدبية والحضارية لمصر فى مطلع نهضتها.

 توافق الرحالة مع الحضارة العربية الإسلامية، فكشف عن هذه الحضارة فى مصر، خاصة ما يتعلق بأثر الصوفية فى المجتمع المصرى فى العصر العثمانى.

تناول الكتاب الرحالة والرحلة التى استغرقت ثلاثمائة وثمانية وثمانين يوما بدأت فى غرة المحرم 1105ه/ سبتمبر 1694م، وانتهت فى الخامس من صفر 1106ه، وقد قصد الرحالة الحج، فارتبطت الرحلة بهدفه الدينى، وما صحبه من طلب العلم مما يمكن عدّه هدفا آخر.

 تأصلت الرغبة فى الرحلة فى نفس الرحالة، وصدر فيها عن نزوع ذاتى تجلى فى ترجمته لأسرته، وفى سرده لمؤلفاته.

 ناقش الكتاب علاقة أدب الرحلة بالسيرة الذاتية، وتراجم الأعلام من الأدباء والعلماء والصوفية الذين حفلت بهم مصر فى زمن هذه الرحلة.

كما أورد النابلسى صوراً حافلة لمساجد مصر التى زارها، ولمقامات الأولياء والصالحين، وزخرت رحلته بقصص أحوالهم ومقاماتهم وكراماتهم، مما فتح الباب واسعا لمناقشة التداخل بين أدب الرحلة وأدب القصة.

كذلك ناقش الكتاب ارتباط أدب الرحلة بالعلوم والفنون المختلفة، مما صوَّر المنظور الموسوعى للرحلة انعكاسا لموسوعية نتاج أعلام مصر من علماء الأزهر، وأعلام المتصوفة وكبار الأدباء والشعراء الذين حاورهم الرحالة فى مجالس أدبية حافلة بالحركة والحيوية والحياة خلافا لما شاع عن جمود الأدب وتخلف الثقافة فى مصر العثمانية.

,قدَّم النابلسى مادة ثرية انعكست من ملاحظته المباشرة، ومعايشته المعاصرة لثقافته العربية فى حوارها مع الأدب المصرى بشخصيته المميزة، فى إطارها العربى مما يقع فى صميم أدب الرحلة بوصفه تجسيدا «للمفارقة» التى يشعر بها الرحالة فى علاقته بالمكان الذى يرتحل إليه، مقارنا بالمكان الذى ينتمى إليه وذلك فضلا عن وعيه باختلاف تجربته، وثرائها عبر الرحلة.

وقد صورت الرحلة طبيعة مصر النيل- الهرم، ووردت بها أشعار حافلة بالصدق، تعكس صورة مصر مقارنة بغيرها من البلدان، مما يقدمه أدب الرحلة الذى ينظر إلى مصر فى إطار مقارن من خلال عيون الرحالة غير المصريين.

واتسعت دائرة التعبير عن الحركة الأدبية المصرية فى الرحلة النابلسية فى فنون اختصت بها مصر فى العصر العثمانى كالمخمسات، والمواليا، والتأريخ بالشعر فيما عُرف (بحساب الجُمَّل)، وكما انعكست الحياة العلمية فى حوارات «النابلسى» مع علماء مصر وزائريها فى قضايا العلم المختلفة، وصوَّر أدب المدح والرسائل الإخوانية هذه الروح الإنسانية التى تجلت فيها الصلات العميقة بين أدباء العرب تعبيرا عن الصلات الأدبية والثقافية والحضارية بينهم.

وأما فيما يختص بالحياة الاجتماعية فى مصر العثمانية فقد قدَّم النابلسى صورا للعادات والتقاليد المصرية، وما يرتبط بها من تراث شعبى، وما تحفل به الحياة المصرية من اعتقاد فى كرامات الأولياء، وما يتصل من هذه الحياة بتاريخ مصر وعمرانها دالا على الشخصية المصرية قديما وحديثا.

وقعت مصر فى قلب الرحلة النابلسية، وقد ارتبط صاحبها بمصر تاريخا وثقافة وحضارة، فلم يقتصر وصف مصر على الجزء الخاص بها فى الرحلة، بل امتد إلى الجزء الخاص بالشام، والجزء الخاص بالحجاز.

وعلى ضوء النقد الحديث تناول هذا الكتاب مفهوم أدب الرحلة، وتقنياته عربيا وغربيا بهدف تقييم الرحلة موضوع الكتاب، وتأصيلا للقضايا المطروحة حول مصر وأدبها وحضارتها فى العصر العثمانى مما تجلى فى الخاتمة التى أكدت فيها صلة الرحلة بالحضارة الإنسانية، وتجسيدها للصحوة الثقافية لمصر فى أواخر العصر العثمانى مبشرة بالنهضة الحديثة.

ومما يفسح المجال للرأى القائل بأن رواد العصر العثمانى هم الذين أدركوا خطر التخلف، وحاولوا فتح الباب للنهوض واليقظة؛ يقظة جديدة، وإحياء لعلم الأمة ولغتها وثقافتها، وذلك مَثَّل النابلسى مفهوم أدب الرحلة فى التراث العربى، فى جانب من أهم جوانبه وهو الجانب الخاص بأدب رحلة الحج، وقد ولد الشيخ عبد الغنى النابلسى (1050ه- 1143ه) فى دمشق، و كان ذا بصيرة ناقدة ، وتجلى أثره فى الاتساع بآفاق هذه الرحلة إلى عوالم رحبة، وآفاق واسعة أكسبت هذه الرحلة خصوصيتها شكلا من أشكال التناص الفريد مع الثقافة العربية بأبعادها الحضارية الإسلامية.

وقد جعل المؤلف رحلته على ثلاثة أقسام: القسم الأول فى الجولان بالبلاد الشامية، والقسم الثانى فى الإقبال على البقاع المصرية، والقسم الثالث فى التشرف بالوصول إلى الأقطار الحجازية، وقد بيَّن هدف رحلته بقوله: «لقد كنت فيما تقدم من الزمان، مع جملة من الأصحاب والإخوان، أتمنى الاستيعاب فى زيارة الصالحين من الأحياء والأموات، والتبرك بنفحات مجالسهم وهذه الحضرات، ويكون ختم ذلك بالحج الشريف، وزيارة النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك البلد المنيف .

هنا نجد الغاية الدينية واضحة فى هذه الرحلة أضاف إليها «النابلسى» بعدا آخر يختص بمصر؛ هو الاستمتاع بطبيعة مصر إذ يقول:

«وذهبنا إلى أماكن النزهات والغيطان، وانشرحت صدورنا بالبرك والدواليب وسواقى الرياض ذات الأشجار والأغصان، وسرحت خواطرنا فى ميادين تلك الفلوات الأنيقة، وحضرات هاتيك المجالس اللطيفة الرقيقة، ورأينا مراكب ذلك النيل السعيد، ومياهه العذبة الصافية التى ما عليها من مزيد، وشهدنا ميزان المقياس الذى هو أعجوبة للناس».

وأما الحجاز فيقول فيها : «ثم ذهبنا إلى البلاد الحجازية، وتمتعنا بهاتيك الحضرات الأنسية، واجتلينا أنوار التجليات والأسرار القدسية، واجتمعنا بالعلماء الأفاضل، وطلبة العلم أصحاب الفضائل، وتشرفنا بالحضور مع الصالحين، وبزيارة أولئك السادة الأئمة المجاورين، وقضينا فريضة الحج، مع كمال العج والثج».

وقد حملت رحلة النابلسى الحجازية طابع الرحلة العربية قبل القرن الثامن عشر فى اهتمامها – عامة- بالتوجه نحو الأراضى المقدسة، وتؤكد دراسة أدب الرحلة العربية أن العناصر الدينية من أهم مقدمات مفهومها، وقد أكد ابن خلدون أن الرحلة لابد منها فى طلب العلم، واكتساب الفوائد، والكمال بلقاء المشايخ.

و«أما حياة الناس اليومية بما تنطوى عليه من ثقافات مادية وروحية فلم يكن للمؤرخين بها كبير اهتمام، ولا نجدها حية إلا فى كتابات الرحالة والجغرافيين عن البلاد التى زاروها، وعايشوا أهلها من علية القوم أو بسطائهم».

جدير بالذكر أنَّ مثل رحلة النابلسى هذه بوصفها رحلة فى طلب العلم، أيضا، كانت معيارا للحكم على مستوى العلماء، ودليلا على الوحدة السياسية والدينية والثقافية للعالم الإسلامى فى العصور الإسلامية.

وكان الحج من أعظم بواعث الرحلات العربية فى العصور الإسلامية، وكذلك طلب العلم «وطبيعى أن تكون الرحلات والأسفار من أول السبل لطلب العلم فى تلك العصور، فقد كانت الكتب نادرة، وكانت الدراسة العملية تقوم مقام ما نصنعه اليوم من تتبع المراجع والمؤلفات التى تزدحم بها خزانات الكتب الخاصة والعامة.

وفضلا عن ذلك فقد تعددت مراكز الثقافة فى ديار الإسلام، وكان رجال العلم ينتقلون فى طلبه من إقليم إلى آخر يدرسون على مشاهير الأساتذة، ويلقون أعلام الفقهاء والمحَدِّثين واللغويين، ثم الأطباء والفلاسفة والرياضيين».

وإن قيمة الرحلات فى الأدب العربى ترجع إلى اتصالها بموسوعية ثقافة أصحابها، كما ترجع إلى انفتاحها على العلوم التى تثرى مفهومها وهدفها وطبيعتها الخاصة؛ فمن تجليات علاقة كتب الرحالة بالعمل «الإثنوجرافى» مثلا : «أننا نرى فى هذه الأعمال.

وما قدمت من مادة ثرية دليلاً بارزاً على قيمة رحلاتهم فى تزويدهم مباشرة بالمعلومات المستمدة من الملاحظة المباشرة، والمعاينة الشخصية عن الأحوال السياسية والاجتماعية والثقافية للبلدان التى زاروها، أو أقاموا فيها، وعن طبائع أهلها، ومعالم حضارتهم، وهذا يشكل جوهر العمل الإثنوجرافى».

وعرض الكتاب لما تجلى فى رحلة «النابلسى» من صور لانفتاحه على العلوم المختلفة، وأثر رحلته فى بلورة رؤيته إلى مصر فإذا قلنا «إن فنا من فنون القول العربى يعرض فى مضمونه إلى ناحية أو أخرى من نواحى الحياة فإننا نقول إن نمط الرحلات يتعرض إلى جميع نواحى الحياة، إذ تتوفر فيه مادة وفيرة مما يهم المؤرخ والجغرافى وعلماء الاجتماع والاقتصاد ومؤرخى الآداب والأديان والأساطير».

 وتهون المشاق فى سبيل تحقيق غاية الرحلة، فعند وصول «النابلسى» إلى مصر يبدو كأنه يتنفس الصعداء، فرحا بلقاء الأحباء، وزيارة الأولياء، والأنس بطبيعة مصر الفيحاء :

و«حتى دخلنا إلى بلدة مصر المحروسة، ذات الربوع العامرة بالخيرات المأنوسة، وكان دخولنا من باب الشعرية ، فقرأنا الفاتحة للشيخ عبد الوهاب الشعرانى، وغيره من الأولياء الصالحين، ثم لم نزل سائرين إلى أن وصلنا إلى دار صديقنا الأكرم وحبيبنا الأعظم حضرة الشيخ زين العابدين البكرى الصِّدِّيقى، فتلقانا بصدره الرحيب، ووجهه الذى هو وجه حبيب، وجلسنا عنده حصة من الزمان، فى مجلسه المطل على بركة الأزبكية، ذات الروح والريحان».

ويصف «النابلسى» إقباله على «المدينة المنورة» هذا الوصف الرائع: «ولاحت لنا الأنوار كالبروق اللامعة... فاندهشت الأبصار، وحارت الأفكار، وكنا نرى النور يخرج من جهة الأرض من مكان مخصوص ثم ينتشر فى جو السماء.

أما مكة المكرمة فمن تعبير «النابلسى» عنها شعرا قوله من قصيدة طويلة:

سقى مكة الغراء صوب عهاد

وحيَّا الحَيَا منها بأشرف وادى

ومن «وحى» عرفات يقول :

إليكم معانى الأنس من عرفات

تهب بطيبٍ من سنا البركات

وفى طريق العودة من الحجاز إلى الشام موطن «النابلسى» اتخذ من الزاد الروحى الذى نعم به فى رحلة الحج ما أعانه على صعوبات الطريق وقلة الماء والزاد، ثم لما وصل إلى داره وصلته رسالة من الشيخ زين العابدين البكرى ، يهنئه بسلامة الوصول، لتكون مصر هى واسطة عقد هذه الرحلة، ويكون حنين النابلسى إليها هو خاتمة رحلته فى قوله مخاطبا الشيخ زين العابدين :

كلما هبَّ نسيم سَحَراً

وإذا أومض برق هطلت

من نواحيكم شجا قلب المُعَنَّى

أدمعى شوقا لكم والليل جَنَّا

وهو شوق إلى مصر امتزج بشوقه إلى الأقطار الحجازية والأنوار المحمدية:

نصب عينى ذاك الحمى والمقام

كلما عَنَّ لى تذكَّرت عهدا

فعلى الأهل والديار السلام

عرفتنى به الربا والخيام

راجيا شفاعة النبى عليه الصلاة والسلام، مسك ختام :

يترجاه فى القيامة ذخرًا

فعليه الصلاة ثم السلام

ونزل النابلسى ضيفا على الشيخ زين العابدين البكرى متصوف عصره وأشاد بكرم ضيافته ، وقال فى حب مصر:

إنما مصر جنة الخلد أضحت

ودليلى على الذى قلت نيلٌ

أبدا أهلها بها فى نعيم

هو عذب المزاج من تسنيم

تجلت طبيعة مصر الجميلة فى الرحلة النابلسية فى أدب حافل بالصدق الفنى والإنسانى تعبيرا عن تفاعل الأدباء بهذه الطبيعة، وعن حبهم لمصر.

وقد اهتم الباحثون بتتبع صورة بلد من البلدان فى مرآة بلد آخر، أو فى أعمال مؤلف من المؤلفين فى مجالات للرحلة تجمع بين الأدب والتاريخ وعلم اجتماع الأدب والسياسة والأنثروبولوجيا.

إنَّ هذه الرؤية المقارنة هى جوهر عمل الرَّحالة الذى يبصر بعينه اختلاف المكان الذى رحل إليه، ويقوم أدب الرحلة على العلاقة الجدلية بين مكانين محددين، وبين ثقافة وأخرى.

هنا يتحقق الرحالة من اختلاف المكان، يساعده حرصه على التفرقة بين المشاهدة والرواية عند تسجيل المعلومات، إذ ليس الخبر كالمعاينة.

هنا كذلك- يحقق أدب الرحلة التنوع العظيم للاتجاهات والأمكنة، وتضم الرحلة سيرة الأماكن . يقول الشاعر فى النيل :

مصرُ العتيقةُ دارٌ

والنيل فيها زلال

لكل خير وبِشْر

عذب على الأرض يجرى

إن ماء النيل لا يتعفن أبدا، ولا تظهر عليه أية علامة من علامات التخمر كما قال الرحالة الأوروبى الذى تعجب من هذه الظاهرة، وحمل معه قارورة صغيرة من ماء النيل إلى أوروبا، وتركها فى أحد متاحف ألمانيا دليلا على أنها أفضل أنواع المياه التى يتزود بها المسافر على حد تعبيره.

وهذا وقد زار «النابلسى» جزيرة الروضة، ووصفها بأنها «جزيرة مصر ذات الحسن المشهور، المشتملة على الخضرة وألوان الزهور»، وذكر قول القائل فيها:

زر الجزيرة وقت الليل فى السحر

...

يا حبذا هى والبحر المحيط بها

واغنم بها لذة الآصال والبكر

كأنها هالة دارت على القمر

يصف «النابلسى» منتزه القصر العينى تصويرا جميلا بقوله :

و«ثم قمنا وتوجهنا إلى الجهة المشهورة بقصر العينى، فدخلنا إلى منتزه لطيف الأوصاف، متسق الأكناف فيه أنواع الفواكه والثمار، محفوف بفنون الرياحين والأزهار، وفيه دولاب لإخراج المياه بالدواب، وهناك بركة من الماء، وسواقى جارية رقيقة الهواء :

هذه جنة النعيم تُزار

فهْىَ تجرى من تحتها الأنهار

ويعجب «النابلسى» بقوله ابن نباتة فى الهرم والنيل من «الدوبيت» :

لله ليال أقبلت بالنعم

بالجيزة والنيل بدا أوله

فى ظل بناء شاهق كالعلَم

فى مقتبل الشباب عند الهرم

ولقد أُعجب الأمير «ردولف» فى رحلته إلى مصر فى عهد الخديو إسماعيل بجمال الطبيعة الممتدة حول الهرم، ووصفها وصفا قريبا مما ورد عند النابلسى حيث يقول : «لقد أبهجتنى البساتين الناضرة بأزهارها الفواحة، وشجيراتها ونخيلها التى تداعب النسائم أغصانها وجريدها... وسمعت أغانى الطيور وهديل الحمام، وغمرت نفسى فى النسائم الشافية لمصر المقدسة متذكرا شتاء أوربا القارس الذى هربت منه ذات مرة».

وأورد «النابلسى» وصف «المقرى» فى كتابه «نفح الطيب» «لبركة الفيل» عند ذكره مصر قال : «وأعجبنى فى ظاهرها بركة الفيل لأنها دائرة كالبدر، والمناظر فوقها كالنجوم... وفى ذلك قيل :

انظر إلى بركة الفيل التى اكتنفت

كأنما هى والأبصار ترمقها

بها المناظر كالأهداب للبصر

كواكبٌ قد أداروها على القمر

وهذا وتقترن متعة الطبيعة المصرية بمتعة الغناء الذى يلهم بديع الشعر، ولقد عاش «النابلسى» فى طبيعة مصر، فتجاوب معها وقدمها بأحسن ما يقدمها الإنسان الفنان، وعكس لنا مصر الحضارة، ومصر الشعر، بعيون أخرى، وما أجمل الصورة التى رأيناها لمصر بعين النابلسى، وعيون الأدباء الآخرين.

وأقبل «النابلسى» على مصر مستبشرا؛ وصوَّر ذلك فى استهلاله للقسم الثانى من رحلته فى كتاب «الحقيقة والمجاز» بقوله : «القسم الثانى فى الإقبال على البقاع المصرية، والتيمن بهاتيك الأماكن الحسنة الإحسانية... إلى أن وصلنا إلى أول منزل من حكم منازل السفر إلى مصر المحروسة، دار الكمالات والربوع المأنوسة، وهى القلعة المسماة بخان يونس.

وفى داخل خان يونس... جامع لطيف يُصعد إليه بدرج من الحجارة، وفيه محراب ومنبر معمور، وقد وجدنا مكتوبا على ذلك المنبر هذين البيتين فتفاءلنا بذلك واستبشرنا فى إقبالنا على مصر والله أكبر :

جميع الأرض فيها طيب عيش

ولكن كلها فى غير مصرٍ

وجنات وروضات أنيقه

مجازىٌّ وفى مصرٍ حقيقه

وتصور كتابات الرَّحالة «-إلى حد كبير – بعض ملامح حضارة العصر الذى عاشوا فيه، كما تصف الكثير من عناصر ثقافة البلدان التى ذهبوا إليها، وأحوال الشعوب التى اختلطوا بها»،ولذا فإنَّ رحلة النابلسى مصدر مهم للتعرف على صورة مصر الحضارية والثقافية فى العصر العثمانى من خلال اتصال صاحبها بأهم رمز من رموز الحركة الأدبية والصوفية والعلمية فى مصر وهو الشيخ زين العابدين البكرى، شيخ السادة البكرية، الذى التف حوله العلماء والأدباء والصوفية من كل حدب وصوب.

وسجل «النابلسى» فى رحلته صورا حافلة من الحركة الأدبية فى حواراته ومناظراته مع أدباء مصر، ومن وفد إليها من أدباء العرب الذين داروا فى فلك الشيخ زين العابدين البكرى.

وترجم النابلسى لمعاصريه من علماء القرن الثانى عشر «وذكر الكثير من أشعارهم، وما كان يدور فى مجالسهم العلمية من مباحثات أدبية ودينية، لذا فإن الكتاب –الحقيقة والمجاز- يقدم لنا صورة حية للحياة الأدبية والاجتماعية والتصوفية فى تلك الحقبة من التاريخ لمصر والشام والحجاز، وقد كانت بلاد الحجاز – فى موسم الحج – ملتقى لعلماء الأقطار الإسلامية».

ومن هنا يصور «النابلسى» فى رحلته وحدة الثقافة العربية الإسلامية، لأن مثل كتابات أدب الرحلة «كانت تصدر عن التزام مفاده أن العرب أمة واحدة ذات حضارة إنسانية عالمية ينبغى لها أن تعود إلى مكانها».

كانت دار الشيخ زين العابدين البكرى الذى نزل مؤلف هذه الرحلة ضيفا عليه بالأزبكية «مجلسا من مجالس العلم تغص بزائريها الذين التقى بهم النابلسى، ووصف ما دار فى تلك المجالس وصفا دقيقا، وبعد انصرافه من مصر لم تنقطع المكاتبات بينه والمصريين خلال رحلته وبعد انتهائها».

اشترك الضيف، الشيخ عبد الغنى النابلسى، والمضيف، الشيخ زين العابدين البكرى، فى التوجهات الفكرية، والاهتمامات الأدبية، والروح الصوفية، خاصة أنهما ارتبطا بصداقة حميمة تجلت صورها دفَّاقة عبر الرحلة كلها.

وقد ظلت آداب اللغة العربية فى العصر العثمانى حية لكنها انحصرت بالأكثر فى كتب الفقه والدين، أو جمع الأدب والشعر، وكانت أكثر الأشعار فى مدح النبى صلى الله عليه وسلم، وأكثر المؤلفات الفقهية شروح وحواش، وراج من ضروب الفقه على الخصوص الفقه الحنفى لأنه مذهب الدولة العثمانية، والفقه الشافعى لأنه مذهب المصريين.

وكان الأزهر الشريف مبعث نور العلم، والمدرسة العامة للعلم الإسلامى، وله فضل كبير فى استيفاء أصول العلوم التى كانت رائجة فى العصر العثمانى.

ويعرض هذا الكتاب، أيضا، للتصوف فى مصر من خلال رحلة النابلسى، وقد اتضح مما تقدَّم شيوع الروح الصوفى فى الحركة الأدبية فى مصر فى العصر العثمانى، وتفاعل النابلسى مع النصوص الصوفية المصرية «وقد كانت الرحلات، التى اعتبرها العلماء مظهراً من مظاهر العبادة، تساعد مع وحدة الدين واللغة على إيجاد التشابه بين التصوف فى مصر وفى غيرها من الشعوب الإسلامية».

وقد دار «النابلسى» فى فلك مصر والشيخ زين العابدين البكرى، ومجالسه الأدبية التى تكشف عن حركة الأدب المصرى فى العصر العثمانى.

وعبَّر الشعراء – بصدق يستشعره المتلقى – عن حب أصيل لمصر، وصدق واضح فى مدح أوليائها الصالحين، مما جعل الشيخ «النابلسى» يقول على البديهة أيضا، وقد فاض الإناء فيضا، على حد تعبيره :

إنما مصر للغريب ديار

جنة الله عُجِّلت للبرايا

وبها الأولياء أرباب صدق

والمقامات مشرقات لهم فى

كم ضريحٍ وقبةٍ وسبيلٍ

وعليه مهابة وجلال

بلد آمنٌ ورزقٌ كثير

وذرارى مشايخٍ أهل حق

وزهورٌ نوافحٌ وطيورٌ

ورياضٌ تزخرفت كجنانٍ

وبه تنقضى له الأوطار

فهْىَ تجرى من تحتها الأنهار

ظاهرات منهمْ بها الأسرار

أرضها فَهْىَ كلُّها أنوار

لولىٍ هناك فيه مزار

عَرَفَتْه القلوب والأبصار

وأناسٌ ذوو الكمال كبار

بدعاهُم تُستنزل الأمطار

صادحاتٌ فبلبلٌ وهَزَارُ

طاب فيها فواكهٌ وثمار

ونخيلٌ تروق للعين مرأى

وعلى كل حالة هى أرض

وبها البسط والسرور ومنها

تَجْمع الحسن والجمال بوجه

ما لها فى كمالها من نظير

واقفات طوالها والقصار

تنجلى عن نزيلها الأكدار

كاس أنس للقاصدين يُدار

منه تبدو الشموس والأقمار

فهْىَ مصرٌ فى ضِمْنها أمصار

إن شعر البديهة والارتجال الذى صور به النابلسى مصر وأهلها يدل على الصدق، كما يدل التناص فى المحاورات الأدبية التى شهدها فى مجالس الشيخ زين العابدين البكرى على التفاعل الأدبى ماثلا للعيان إزاء المذكرات اليومية التى قدمها لنا النابلسى فى رحلته مصوِّرا الحالة الأدبية لمصر العثمانية.

وأشار «شوقى ضيف» إلى شيوع المخمسات فى العصر العثمانى خاصة فى كتب التراجم مثل ريحانة الألباء، ونفحة الريحانة، وتاريخ الجبرتى.

واطرد «التخميس» فى كتاب «الحقيقة والمجاز» ممثلا لونا من ألوان التناص الأصيل بين «النابلسى» و «زين العابدين البكرى».

أما التناص بين الضيف والمضيف دالا على حركة الأدب فى العصر العثمانى فيتمثل فى تخميس الشيخ زين العابدين البكرى لقصيدةٍ للنابلسى فى السماع والناى يحكيها النابلسى بقوله :

«وبتنا فى مكاننا حتى أصبح صباح يوم الثلاثاء الخامس والعشرين ومائة وهو اليوم الثامن من جمادى الأولى، فنزلنا إلى مجلس الشيخ زين العابدين حفظه الله تعالى على العادة، وجرت بيننا مباحثات أدبية حتى ذكرنا قصيدتنا الرائية فى ذكر السماع والناى، وأُنشدت فى المجلس وهى قولنا :

أيها الناى عندك الخَبَر

ليس للأذن عنك مصطبر

يقول النابلسى: «وقد كان الشيخ زين العابدين حفظه الله تعالى وصلت إليه هذه القصيدة سابقا فخمَّسها، فأنُشد تخميسه فى المجلس، وذلك قوله :

ذُكر الوِتْرُ فانثَنى الوَتَرُ

فسَلُوا الزَّمْر عنه يا زُمَرُ

ومن الصّوْرِ تُبعثُ الصُّوَرُ

أيها النَّاىُ عندك الخَبَرُ

ليس للأذْن عنك مُصْطَبُر

وتتمثل فى التخميس بلاغة التناص بمفارقته فى الجمع بين عناصر الاشتراك والاختلاف فى القصيدة الجديدة التى نشأت من تداخل أشطار الشاعرين .

هكذا يتجلى الشكل الشائع للتخميس وهو أن «يأخذ الشاعر.. البيت ذا الشطرين من الشاعر السابق عليه ويضيف إليه ثلاثة أشطر من كلامه، فتصير المقطوعة أو القصيدة مقاطع خماسية الأشطر، تربط بينها قافية القصيدة السابقة لأنها صارت قافية للشطر الخامس فى كل مقطع».

ولعل شيوع التخميس فى رحلة النابلسى انعكاس لشيوع هذا اللون الفنى فى الأدب المصرى الدينى والصوفى فقد «شاعت التخاميس عند شعراء الصوفية شيوعا كبيراً لأنهم نظموها على القصائد الدينية المعروفة مثل بردتى كعب بن زهير، والبوصيرى، حتى إن دار الكتب المصرية وحدها تقتنى ما يقرب من ثمانين تخميسا على قصيدة البوصيرى».

للمواليا وزن واحد، وأربع قواف على روى واحد، كما يقول صفى الدين الحلى: «ومخترعوه أهل واسط، من بحر البسيط، اقتطعوا منه بيتين، وقفوْا شطر كل بيت منها بقافية منها، وسَموا الأربعة صوتا، ومنهم من يسميها بيتين على الأصل».

وقد أشار ابن خلدون إلى أن أهل القاهرة أتوا فى المواليا بالغريب.

وسار هذا الفن « على لسان المصريين بحيث شمل كل الأغراض التى تطرقت إليها الفنون الشعبية الأخرى، وبلغوا قمة النظم فيه فى القرن الثامن والتاسع والعاشر الهجرية، وما زالوا ينظمون فيه حتى الوقت الحاضر».

ولاشك أن فن المواليا، وغيره كالقوما والكان وكان والدوبيت تدل على ماحظى به الأدب المصرى من أدباء قدموا فن الأدب بروح إبداعية متميزة تجسد الشخصية المصرية فى انطلاقها ومرحها وفكاهتها وفلسفتها فى الإقبال على الحياة مع التمسك بالدين، وهذا هو سر تفرد هذه الفنون الأدبية التى ترتبط بالدين والتصوف من ناحية، وبالدنيا والفكاهة من ناحية أخرى دون تناقض،وأمَّا فن (المواليا) فى رحلة النابلسى فقد جاء، أيضا، فى إطار المجالس الأدبية.

وأفاض الشعراء المصريون فى وصف مزايا القهوة، وقد ظهرت فى العصر العثمانى، وأشاع الصوفية بن القهوة، واختلف المصريون فى أمرها بين من جعل شربها حلالا، ومَن حَرَّمه، لكن الصوفية اتخذوها وسيلة للإعانة على السهر فى العبادة، «وانعقد الإجماع على تحليلها» وأصبحت مرتبطة بالضيافة المصرية، وأصبح شربها عادة اجتماعية.

ومع انتشارها فى مصر فى القرن العاشر الهجرى، « فُتحت المقاهى فى أحياء القاهرة، وأخذ أصحابها يتنافسون فى اجتذاب الناس، فكان منهم من يستأجر القصاص ليقصوا الحكايات المشوقة، والقصص المعجبة وبخاصة سير الأبطال والمغامرين، فظهرت فى ذلك الوقت سيرة الظاهر بيبرس... و«سيرة الأميرة ذات الهمة... وتضخمت قصص كانت معروفة من قبل مثل سيرة أبى زيد الهلالى، وسيرة عنترة العبسى، وسيرة سيف بن ذى يزن، وقصة ألف ليلة وليلة»وغيرها، وواكب الشعراء والأدباء المصريون ما ارتبط بالقهوة من هذه الأمور، فصوروها فى أدبهم.

يذكر «النابلسى» لمحمد المنوفى مواليا فى «بولاق» يقول فيه :

صباح بولاق أحلى من وصال الغيد

أما ترى نسمة الشمال فى الترديد

الحاليات المقبل واللمى والجيد

أرخت على الماء أثوابا من التجعيد

وقد أطلعنا النابلسى فى رحلته إلى مصر على شعر صادق فى المدح دار بين أصدقاء أصفياء أدباء تجردوا عن التكسب بالمدح، وسطَّروا ما عبروا به عن حقيقة مشاعرهم الصادقة تجاه إخوانهم فى شعر جميل حفل به الأدب المصرى فى جانب ثرى من جوانبه فى العصر العثمانى.

وإنَّ ما يلفت نظر المتأمل فى هذا المدح صدقه، وحيويته حيث ينشد بين يدى الممدوح، ويعكس حركة الأدب فى عصره،وزخرت الرحلة النابلسية بالرسائل الإخوانية التى تبادلها «النابلسى» مع إخوانه ومريديه، وتطل منها صورة مصر، مثل هذه الرسالة التى أرسلها من مصر إلى أحمد أفندى البكرى الصديقى القاضى بدمشق، يقول فيها.

«بسم الله الرحمن الرحيم سلام تهب نفحاته من جهات الروضة والمقياس، فيأتى بما هو «المشتهى» للنفوس من طيب نفحات بركة الأزبكية المعطرة الأنفاس، يشرق به من الأرواح الجامع الأزهر، وتنبعث به أسرار القرافة على الوجه الأنور، وتبتسم ثغوره من أفواه الديار المصرية، وتقبل به طلعات البدور من الحضرة البكرية، إلى الحضرة البكرية، سلام ينفتح له باب النصر، ويرتفع به عن وجوه الأمانى باب الشعرية، يعرب عن شوق طويل، تجف بحرارته بركة الفيل، وتجرى من قناطر السباع مدامع عشاقه جريان النيل، وكم لنا فى هاتيك المشاهد من قاض يحكم بحسن ذلك الوقت وشاهد .

ولقد حرص الشيخ النابلسى على أن يثبت آخر رسالة له إلى الشيخ زين العابدين لتكون ختام رحلته سلاما إليه : «لا يحده البيان، ولا يحوى بدائعه التبيان، تقف الفصاحة دون إيضاحه، وتعجز دلائل البلغاء عن استفصاحه... من تفرع من دوحة العظمة والجلالة، وترعرع فى روضة سقاها المبدأ الفياض سلسبيل الفضل وسلساله... واحد هذا الزمان وقطب مداره، وكنزه الذى لا يهتدى لطرق التحقيق إلا بمناره.

إذا وصف الناس أشواقهم

وكيف أعبِّر عن حالة

فشوقى لذلك لا يُوصف

ضميرىَ منى بها أعرف

وقد ختم كتابه بالدعاء الصادق للقاء بشيخه، وبأبيات عبَّر فيها عن الشوق إليه، وتذكر الأقطار الحجازية، والأنوار المحمدية التى ذكرناها سابقا، ومطلعها :

نصب عينى ذاك الحمى والمقام

فعلى الأهل والديار السلام

ولذا فليس مبالغة أن نرى أن مصر هى واسطة عقد هذه الرحلة النابلسية سعى إليها من وطنه الشام فى طريقه إلى الحج، وهفا إليها بعد عودته من الحجاز لتتصل حلقات عشق النابلسى لمصر التى صورها أروع تصوير،وكان الأزهر ومشايخه وطلابه مدار الحركة العلمية فى مصر العثمانية، وكان العلم يعنى العلم الدينى، وقد كان التأليف الدينى ظاهرة هذا العصر.

وقد التقى «النابلسى» عند الشيخ زين العابدين البكرى ببعض مشايخ الأزهر كالشيخ منصور المنوفى الذى وصفه بالإمام العالم الهمام، وببعض العلماء وطلاب العلم من الأزهر وجرت بينهم مناقشات علمية.

كما يشير فى قوله: «ثم إنه قدم علينا للزيارة أناس كثيرون من المجاورين بالجامع الأزهر من العلماء وطلبة العلم، وحصل لنا بهم كمال الأنس والبركة، وجرت بيننا وبينهم مباحثات علمية، ومذاكرات فقهية».

وكذلك التقى بالشيخ أحمد المرحومى شيخ الأزهر حيث يقول : «فرأينا عنده – فى مجلس زين العابدين – صديقنا مفخر العلماء والأعلام الشيخ أحمد المرحومى شيخ الأزهر، ومعه بعض أصحابه الكرام فجلسنا نتذاكر معهم فى مسائل العلوم، ونتطارح الكلام من منطوق ومفهوم».

ولقد كانت علوم الدين هى المثل الأعلى للعلم كما يرى توفيق الطويل الذى يقول : «وكان للمصريين الذين عاشوا فى العصر الوسيط – كله – لا العثمانى وحده – فهم للحياة العلمية يخالف فهمنا فكان المثل الأعلى للعلم فى عرفهم قائما على الدين، وما يعين على فهمه من دراسات فاتجهت إلى علوم الدين عنايتهم، وكادوا يهملون ما عداها من ضروب العلم وألوانه».

ويرى «توفيق الطويل» كذلك أنَّ الحركة العلمية قد توقفت فى مصر فى العصر العثمانى نحو قرنين من الزمان ، لكنها تطورت إلى الكمال فى أواخره.

كما رأى أن الحركة العلمية فى هذا العصر أوثق مظاهر الحياة اتصالا بالتصوف الذى تغلغل فى حياة المصريين، «وكان الشعرانى روح العصر العثمانى، وعملاقه علما وتصوفا، فأثَّر فى توجيه آرائه، وتحديد تياراته، وطبع العصر كله بطابعه».

وهذه الآراء تتفق مع غايات هذه الدراسة التى تهدف إلى إثبات لون من ألوان الحركة العلمية والأدبية فى العصر العثمانى، وتتفق مع المرحلة الزمنية لهذا الكتاب أيضا تحقيقا لما رأيناه من اختلاف هذه المرحلة عما سبقها مؤشِّرة إلى النهوض الذى تلا العصر العثمانى، وتتفق مع اختيارنا لعالم صوفى أديب كبير تفاعل مع هذه الحركة وصورها فى رحلته.

واطَّلع «النابلسى» فى حضرة الشيخ زين العابدين على تفسير القرآن الكريم لجده الشيخ أبى الحسن البكرى، وذكر أنَّ له ثلاثة تفاسير، ووصف التفسير الذى رآه بأنه تفسير عجيب فى أسلوب غريب، كما وصفه بقوله: «وتأملناه حصة من الزمان، فوجدناه مقتصرا على ظواهر المعانى فى كلمات القرآن».

وهذا وقد حفلت الرحلة النابلسية بتصوير مجالس العلم إذ يقول النابلسى، مثلاً : «حضر عندنا صديقنا العلامة الشيخ أحمد المرحومى، ومعه الفاضل الكامل الشيخ على الصايم الحنفى وغيرهما من فضلاء الجامع الأزهر.

وحصلت بيننا وبينهم مباحثات علمية، وراجعنا التفاسير فى آيات قرآنية، وكمل الأنس والسرور، وعظم الورد والصدور، ثم انفصل المجلس وذهبنا إلى دار صديقنا الشيخ أحمد العشماوى فجلسنا عنده حصة من الزمان، نحن والإخوان، فأخرج لنا من كتبه أشياء كثيرة، أطلعنا عليها، فاستصحبنا من ذلك شرحا وجدناه عنده للشيخ عبد الرؤوف المناوى شارح الجامع الصغير للسيوطى على قصيدة الرئيس ابن سينا فى الروح التى مطلعها :

هبطت إليك من المحل الأرفع ،ورقاء ذات تعزز وتمنع

وكتابا آخر فى صناعة الموسيقى حسن الوضع... ثم بعد المغرب دخلنا إلى مجلس الشيخ زين العابدين... وعنده السيد خليل أفندى الرومى الواعظ من أتباع حضرة على باشا الوزير، فجرى بيننا الكلام فى قول الإمام أبى حامد الغزالى رحمه الله تعالى ليس فى الإمكان أبدع مما كان، ولو كان لكان».

هذا ويحكى «النابلسى» هذه الحكاية الطريفة التى تدل على لجاجة طلاب الأزهر فى الحوار، وشدتهم فى المناقشة فيقول : «ثم اجتمعنا بالعلماء المدرسين هناك- يعنى الجامع الأزهر- وحضرنا عندهم فى دروسهم، وحصلت لنا البركة بمجالستهم، فطلبوا منا أن نعمل لهم درسا فى الجامع الأزهر عاما فى الحديث، أو فى شرح العقائد للسعد التفتازانى.

وأقدمت علينا الطلبة والأفاضل بذلك، فاعتذرنا لهم بأنا مسافرون إلى بلاد الحجاز، ومشغولون بزيارة الصالحين، والتبرك بمقاماتهم، ولا فراغ لنا إلى المطالعة وحبس النفس فى تقرير العلوم الظاهرية.

ولأنا رأينا أن ذلك ينقص علينا ما نحن فيه من ممارسة علوم الحقائق، ويكدر علينا صفاء الروح لتلقى المواجيد العرفانية. فقمنا وخرجنا من الجامع، وقد انكبت علينا جميع الطلبة والمجاورين هناك يقبِّلون يدنا، ويطلبون منا الدعاء مع زيادة الاعتقاد، فأخذتنا هيبة ذلك الحال، فصرنا نبكى، وهم يبكون.

وكان في هذا الوقت ندعو لهم حتى خرجنا من الجامع، وصادفنا عند الباب مجىء صديقنا الشيخ أحمد المرحومى لإقراء الدرس على عادته، وكان هو الذى أشار علينا سابقا لمَّا أردنا الذهاب إلى الجامع الأزهر، وقال لنا إن الطلبة والمجاورين هناك يطلبون منكم إقراء الدرس، وأنتم لا تحتملون تثقيلهم لغلبة الشدة والجفاء عليهم، فاعتذروا إليهم، فأخبرناه أنا اعتذرنا إليهم وخرجنا!»،إنَّ رحلة النابلسى لها جانبها التوثيقى المهم، إذ إن تناوله للحياة العلمية فى مصر يحقق هذا الجانب الذى يجعل من الرحلة نصا مرجعيا بامتياز فعن طريق رحلته نستطيع أن نعرف الكثير عن مجتمع العلماء، وعن المكتبات التى امتلكوها،وإن النزوع العلمى للرحالة هو سبب اهتمامه بالعلم والعلماء خلال رحلته، إذ يتصف كثير من الرحالة بسعة الاطلاع، والمعارف الواسعة، والثقافة الرحبة.

وقد اتضحت هذه النزعة العلمية فى شخصية «النابلسى» الرحالة فى حرصه على ضبط أسماء الأماكن، وتحديده للأحداث التى وقعت فى يوميات رحلته بدقة تامة، مما يعكس ثقافة عصره، وذوقه الأدبى.

وإنَّ من أهم أسباب الرحلة طلب العلم، وقد دوَّن الرحالة ما رأوا فى كل بلد ومَن قابلوا وأخذوا عنهم من العلماء – خاصة فى رحلة الحج- فأصبحت الرحلة بهذا – أشبه بوثيقة علمية تشهد لهم بما حصَّلوه من علوم ومعارف ومصادر تلك المعارف. إلى جانب ما قدموه لغيرهم فى هذه الرحلة من علمهم فى حلقة متصلة من التأثُّر والتأثير.

ومن اللافت للاهتمام أنَّ بعض العلماء كان يملك كتبا أشبه بالمختارات الأدبية مثل الشيخ «محمد العشماوى» الذى يقول «النابلسى عنه» : «فرأينا معه مجموعا لطيفا، وجامعا للأدبيات منيفا».

هذا ولرحلة «النابلسى» – كذلك – خصوصيتها فى الترجمة للعلماء- خاصة المشايخ وأولياء الله الصالحين – الذين كان «النابلسى» يزور أضرحتهم.

ومن ثم كانت للرحلات أهميتها؛ فهى مصدر ثقافى وقيمة تعليمية «من حيث إنها أكثر المدارس تثفيفا للإنسان، وإثراء لفكره، وتأملاته عن نفسه وعن الآخرين.».

مثل النابلسى فى رحلته الذوق الأدبى المصرى فى العصر العثمانى متعلقا بالشعر عامة وببعض فنونه كالمخمَّسة والمواليا، خاصة ، كما عكس فنا أدبيا شاع فى الأدب المصرى وهو «حساب الجمَّل».

يعنى حساب الجمَّل استخدام حروف الهجاء الأبجدية (أبجد هوز حطى كلمن) إلى آخره، للدلالة على الأعداد.

وقد انتشر فى العصر العثمانى تسجيل التواريخ فى القصائد بحروف الجُمَّل.

وكان العصر العثمانى هو العصر الذهبى للتصوف، وقد حظى الفتح العثمانى لمصر على يد السلطان سليم الأول سنة 922 ه بمباركة الصوفية كما ذكر النابلسى : «وبلغنا أن العسكر المصرى لما قاموا على السلطان الغورى، وأرادوا خلعه من الملك، أتوا إلى الشيخ جلال الدين البكرى.

وقالوا نحن نقيمك خليفة على المسلمين فى بلاد مصر لأن الصِّدِّيق جدك كان كذلك، فإن هذا السلطان الغورى قد تعدى علينا، وظلم وجاوز الحدود، فقال لهم اصبروا فإن سلطانكم قريب، ثم وقع ما وقع، وجاءهم السلطان سليم خان من بنى عثمان، ويقال إنه لما دخل مصر كان الشيخ جلال الدين المذكور آخذا بزمامه، والشيخ أبو السعود الجارحى على يمينه، والشيخ الدشطوطى على شماله، ويقال إن هؤلاء الأولياء الثلاثة هم الذين ذهبوا إلى الشام، وجاءوا بالسلطان سليم وأدخلوه إلى مصر وهم مشاة فى ركابه».

وقد احتاط «النابلسى» فى رواية هذا الخبر فاستخدم كلمة «يُقال»، وقد نفى «محمد سيد كيلانى» هذه القصة، ومع ذلك فقد كان العثمانيون يشجعون «المتصوفة» خدمة لسياستهم كما أشرنا من قبل.

وكما درس «توفيق الطويل» التصوف فى العصر العثمانى وانتهى إلى أنه العصر الذى عاش فيه الإمام الشعرانى : «إمام التصوف فى عصره... بل أعظم صوفى عرفه العالم الإسلامى كله كما لاحظ الأستاذ «نيكلسون».

ولقد شاع، فى العصر العثمانى، الاعتقاد فى «الصوفية» وكراماتهم، وقد صور «النابلسى» فى رحلته كثيرا مما يتعلق بالحياة الصوفية فى مصر، وقد كان صوفيا عظيما أقام فى ضيافة صوفى عظيم هو الشيخ زين العابدين البكرى شيخ السادة البكرية فى عصره، مما جعل لرحلة «النابلسى» أهمية عظيمة فى الكشف عن حركة الصوفية وأثرها فى المجتمع والأدب المصرى.

هذا وللنابلسى شرح على ديوان ابن الفارض حاول أن يحيله إلى رموز خالصة كما نرى فى شرحه لقول ابن الفارض ، مثلا :

سائق الأظعان يطوى البيد طى

مُنعما عرِّج على كثبان طى

«السائق هو الله تعالى والأظعان الناس... وكثبان طى كناية عن المقامات المحمدية التى عددها كرمال الكثيب، فكأنه يلتمس منه تعالى أن يوصله لما يوصل جميع المؤمنين إليها».

كما أنًّ له شعرا فى تخميس شعر ابن الفارض لابن عربى، وتشطيره، وله ديوان صوفى عبَّر فيه عن تأثره بفلسفة ابن عربى فى وحدة الوجود.

إن لشخصية «النابلسى» الصوفية أثرا واضحاً فى اتجاهه إلى التركيز على زيارة مساجد أولياء الله الصالحين فى مصر، والاهتمام بتسجيل فكر الصوفية، والحديث عن طرقهم، وحلقات ذكرهم، ومشايخهم، وكراماتهم، وأثرهم فى الناس، وتجلياتهم فى الثقافة والأدب مما يعكس صورة نابضة للحياة المصرية .

وفى زيارة لمقام عمر بن الفارض يصف «النابلسى» حلقة من حلقات الذكر التى كانت تُقام فى جامعه بعد صلاة كل جمعه مستلهمة من نوره العرفانى، وفيوضاته الإلهية .

وأما عن حقيقة التصوف فى العصر العثمانى فقد كان «لا يكاد يعدو الأغراض العملية التى أدَّت إلى وجوده، وهى العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله، والتجرد لذكره، والزهد فى طلب الدنيا، ومجاهدة النفس ورياضتها... فهو سلوك عملى لا نظر عقلى، وقلما كان هذا السلوك ينتهى بحال من أحوال الجذب والمحو والسكر والفناء ونحوه مما تحرى الكلام فيها أهل التصوف من قبل، ومن هنا كان الطريق فى هذا العصر أقرب إلى الدروشة منه إلى التصوف الصحيح، لأن التصوف نزعة فلسفية، والدروشة أساليب خاصة فى الذكر والعبادة».

ولكنا مع وجاهة هذا الرأى نرى أنَّ هناك صفوة من الصوفية عبروا عن الاتجاه الصحيح للتصوف من بين متصوفة العصر العثمانى كالشيخ الشعرانى، والشيخ محمد البكرى، وغيرهما، وقد يثور الجدل حول حقيقة التصوف، وتختلف الآراء حيث إن «التصوف» حال نفسية يُعبَّر عنها بأحوال ومقامات تحتاج إلى كثير من التأويل لمصطلح الصوفية الرامز، لذا فإنه يحتمل كثيرا من الجدل والخلاف فى وجهات النظر.

وهذا وانتشرت الزوايا والخلوات التى أقامها الصوفية لذكر الله والانقطاع لعبادته فى مصر فى العصر العثمانى، ومن هذه الزوايا زاوية الشيخ دمرداش التى زارها «النابلسى» ووجد حولها نحو خمسين خلوة أو ستين، وصفها بأنها ذات أسرار وأنوار، «وهى التى تسمى مساجد الأبرار، يختلى بها المريدون.

ويجتلى فيها حضرات الغيب المسترشدون، ثم صعدنا إلى ذلك القصر العالى – يعنى الزاوية – فوجدنا هناك رواقا كبيرا نوره متلالى، وفيه أيضا كثير من الخلوات لاستجلاء المريدين بدائع الجلوات»،وهذا وتتحقق فى النص «النابلسى» عناصر القصة فى حكايات كرامات الأولياء مما يجعل أدب الرحلة وثيق الصلة بالفن القصصى.

«الرحلة سرد مثل باقى أنواع السرد الأدبى»، وهذا ما جعل تحديدها مصطلحا أدبيا أمرا صعبا، لكن الجانب القصصى فى الرحلة يرقى بها إلى مستوى الخيال الفنى «وبرغم ما يتسم به أدب الرحلات من تنوع فى الأسلوب من السرد القصصى إلى الحوار إلى الوصف وغيره، فإن أبرز ما يميزه أسلوب الكتابة القصصى المعتمد على السرد المشوق بما يقدمه من متعة ذهنية كبرى».

وكانت زيارة المساجد وأضرحة أولياء الله الصالحين هدفا من أهداف رحلة «النابلسى» المتصوف. زار جامع «عمرو بن العاص» والتفت إلى عمارته وتاريخ تطور هذه العمارة، ورجع إلى «المقريزى» فى ذلك، وكثيرا ما كان يتكئ على المصادر المصرية فى سرد المعلومات الخاصة بموضوعات رحلته.

وكان جامع عمرو أول مسجد أسس فى مصر بعد الفتح العربى الإسلامى، توسع فى عمارته حاكم مصر من قِبَل معاوية بن أبى سفيان، ثم عبد العزيز بن مروان ثم عبد الملك بن مروان، ثم قرة بن شريك وغيرهم على مر التاريخ، وكذلك تحدث عن مساجد «القلعة» وأضرحة مَن بها من أولياء الله الصالحين،وعلي مايبدو «النابلسى» معبرا عن اعتقاد المصريين فى بركات الصالحين الذين يحمون البلاد والعباد من الظلم والفساد.

وأما القرافة فقد بدأ النابلسى بزيارة قبر السيدة «نفيسة» بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب «رضى الله عنهم» بها.

وكما تحدث عن سيرة حياتها العطرة، وعن كراماتها، وإجابة الدعاء عند مقامها الذى تغشاه المهابة، ويحفه النور، ويقصده الزائرون من كل جهة، يصف ذلك بقوله: «فدخلنا نحن والجماعة الذين كانوا معنا إلى مزارها المعمور، فإذا هو ملآن من الناس حوله مع كمال الخشوع والحضور، والنساء هناك وحدهن تقرأ لهن القرآن امرأة حافظة بالصوت العالى، وكوكب الهيبة والجلال فى سماء تلك الحضرة متلالى.

نور قلب الموحدين نفيسة

نسبة هاشمية هى فيها

يا ابنة الطاهرين من آل طه

تتجلى بها الأمور النفيسه

لم تزل غضة الكمال رئيسه

سرك المحض لا يضيم جليسه»

وفى القرافة أيضا «قبر الإمام الشافعى»، زاره «النابلسى» ووصف هذه الزيارة بقوله : «وقد دخلنا إلى قبته المبنية على قبره فوجدناها قبة واحدة كبيرة واسعة جدا لا يُرى مثلها فى البنيان، ومتانة الجدران والارتفاع، وفى داخلها محراب عظيم... ورأينا على قبة الإمام الشافعى من جهة الخارج سفينة من خشب مربوطة بالهلال يوضع فيها الحَبُّ للطيور».

وقد أورد «النابلسى» أشعارا فى هذا المشهد ختمها بقوله :

يا قبةً للإمام الشافعى زهت

لو لم يكن تحتها بحر العلوم لَمَا

بها القرافة فى مصر لهيبته

سفينة الحَبِّ كانت فوق قبته

وقريبا من «بولاق» زار «النابلسى» قبر «أبى العلا»، وقد أخبره الشيخ زين العابدين أنَّ هذا الشيخ له كرامات كثيرة،وكما يصف «النابلسى» مقام السيدة «زينب» بنت الإمام على أخت الحسن والحسين رضى الله عنهم، وقد ذكرها بلفظ «الست» كما يقول المصريون.

وأما جامع السلطان حسن فقد عدَّد «النابلسى» جوانب عظمة عمارته وتفرده بين المساجد معتمدا على «المقريزى»، وحكى عنه قائلا : «فلما دخلنا إلى هذا الجامع رأيناه من أعظم الجوامع على شكل القاعة العظيمة، ونظرنا إلى إيوانه القبلى الذى فيه المنبر والمحراب فإذا هو إيوان كبير عظيم، فدخلنا من باب هناك فى قبلة هذا الإيوان إلى قبة عظيمة لها شبابيك عظام إلى الخارج فى فضاء الرميلة، وتحت تلك القبة قبر السلطان حسن المذكور».

وقد ذكر أنه زار جامع ابن طولون، وذكر أن العامة يقولون جامع طيلون، ورجع إلى المقريزى الذى قال إن موضعه بجبل يشكر مكان مشهور بإجابة الدعاء، ووصف عمارته، وتاريخ تطور هذه العمارة.

وأما الجامع الأزهر فهو المدار الذى طاف به «النابلسى» من بداية رحلته إلى مصر حتى نهايتها، فيه وحوله وفى رحابه دارت كل وجدانات رحلته فكرا وروحا، قلبا وقالبا، وقد دخل فى حوار ثرى خصب مع علمائه فى كثير من الفنون والعلوم والآداب.

وعكس «النابلسى» الحركة الدينية والثقافية والحضارية لمصر الأزهر واسطة عقد المساجد المصرية الجليلة العامرة المباركة.

ووصف «النابلسى» الجامع الأزهر كما وصفه المقريزى، لكن، مع هذا، فإن هذا الجامع يقع فى قلب الرحلة النابلسية بحيث نرى طيفه ماثلا فى كل ما كتب النابلسى عن رحلته إلى مصر مؤكدا أن علماءه هم الذين عكسوا حركة الفكر والأدب والثقافة المصرية فى العصر العثمانى.

وإن النابلسى قدَّم مزارات مصر ومساجدها وآثارها الإسلامية وثيقة فريدة عكسها بمرآته فأرانا فيها مصر العثمانية وقد دانت للمشايخ والصالحين، وعمرت بالصوفية حتى لكأنا نرى مساجد مصر بصورة مختلفة عنها فى العصور السابقة على العصر العثمانى، أو التالية له، وهنا يقيم أدب الرحلة تفاعل الرحالة مع المكان الذى يتجاوب معه، ويصوره وفق مرآته، ويقدمه بذائقته وإحساسه الخاص.

أطلعنا «النابلسى» على وثيقة فريدة للحياة الاجتماعية فى العصر العثمانى فيما يتعلق بحياة المصريين وعاداتهم وتقاليدهم ومساكنهم ومعاملاتهم، ومظاهر عمرانهم، وكانت رحلته وثيقة حضارية لمصر العثمانية.

ولقد رأى «توفيق الطويل» فى أثر الصوفية فى المجتمع المصرى منهجا جديدا يفلسف التاريخ المصرى، ويمكن عن طريقه تناول «ظواهر الحياة فيه بتفسير جديد يقوم على فهم واسع بما مر بالمصريين من حركات الدين، واستوعب نفوسهم من تياراته، وشغل أذهانهم من أفكاره».

وقد انتهى إلى أن الحياة المصرية، فى العصر العثمانى، - فى جملتها – تدين لتعاليم الصوفية، وأورد، دليلا على ذلك، إقبال المصريين على مشايخ الطرق الصوفية. مثال ذلك الصخب الذى جرى فى الشوارع إذا لاح صوفى فيه.

وقد كنا إلى عهد قريب نرى الناس فى مصر يحرصون على استضافة مشايخ الطرق الصوفية فى منازلهم للتبرك بهم، ويستوى فى ذلك الحرص الأغنياء والفقراء، وكانت زيارة الشيخ للبلدة المضيفة أشبه بعيد للناس تقوم فيه حلقات الذكر والإنشاد، والطعام والشراب، والبهجة والسرور.

وكان الشيخ يسمى «خليفة» أيضا، وكان الناس يحرصون على أخذ «العهد» عليه تبعا لطريقته الصوفية،وكان التصوف، فى رأى الطويل، زبدة الدين وخلاصته، خاصة فى العصر العثمانى، إذ شاع أمره، واستبد بعواطف المصريين، وكان أكبر العوامل فى توجيه حياتهم.

وبناء على ذلك يأتى الموروث الشعبى متصلا بهذا الموضوع حيث إن «أحد الجوانب الهامة فى أدب الرحلات يتضح فى إبراز بعض ملامح وعناصر التراث الشعبى الذى غالبا ما أغفلته المدونات التاريخية الرسمية».

وأطلعنا «النابلسى» على طقس شعبى كان المصريون يقومون به فى جامع يُسَّمى : «جامع البنات» فى إطار حديثه عن «المدرسة الفخرية»، وتبرك البنات العانسات بجامعها من أجل الزواج :

«وهى المسماة بين الناس وعامة أهل مصر يعرفونها بجامع البنات، وسبب ذلك أن البنت التى لا يتيسر لها زوج تأتى إلى هذه المدرسة فى يوم الجمعة والناس فى الصلاة، وتجلس فى مكان هناك، فإذا كان الناس فى السجدة الأولى من الركعة الأولى من صلاة الجمعة تمر بين الصفين، وتذهب فيتيسر لها الزواج».

الرحلة وثيقة الصلة بالحضارة الإنسانية فهى جزء منها ونتاج لها، على حد تعبير «فهيم» الذى يرى، أيضا، أن تراث الرحالة أحد المصادر المهمة لإلقاء الأضواء على الثقافة العربية، وأنَّ كتابات الرحالة المسلمين زاخرة بالقصص والحكايات الشعبية والأساطير والغرائب والطرائف.

وكانت «القرافة» – ولا تزال – ممثلة للشخصية المصرية فى بعدها الدينى والدنيوى حيث يجمع المصريون بين حبهم للدين وحبهم للدنيا فى الطقوس التى يقومون بها عند المقابر، إذ يزورون موتاهم فى الأعياد والمناسبات الدينية، ويوزعون الطعام والأموال على الأحياء، تاركين الرحمة للأموات، فيعبرون عن ترحهم أثناء فرحهم، ويحتفلون بالموتى خلال أعيادهم، ويتذكرون الآخرة والموت إبَّان حياتهم.

وقد درستُ الشخصية المصرية فى بعض عناصرها، ورأيت أنَّ هذا المزج الفريد بين ما هو من الدنيا وما هو من الدين عند المصريين لا يشكِّل تناقضا، لأنه يسير فى معادلة دقيقة أنتجت كثيرا من الأدب الدينى والصوفى والفكاهى والدنيوى المصرى المتميز، وقد لاحظ «النابلسى» أن «القرافة» تمثل هذه المفارقة فأورد قول القائل:

إن القرافة قد حوت ضدين من

يغشى الخليع بها السماع مواصلا

كم ليلة بتنا بها ونديمنا

والبدر قد ملأ البسيطة نوره

دنيا وأخرى فهْى نعم المنزل

ويطوف حول قبورها المتبتل

لحن يكاد يذوب منه الجندل

فكأنما قد فاض منه جدول

وكذلك وصف القرافة وجبل المقطم بقوله : « وفوق القرافة فى شرقيها جبل المقطم، وليس له علو ولا عليه اخضرار، وإنما يُقصد للبركة، وفى سفحه مقابر أهل الفسطاط والقاهرة، والإجماع على أنه ليس فى الدنيا مقبرة أعجب منها، ولا أبهى ولا أعظم ولا ألطف من أبنيتها وقبابها وحجرها ولا أعجب برية منها؛ كأنها الكافور والزعفران، مقدسة فى جميع الكتب، حين تشرف عليها تراها كأنها مدينة بيضاء، والمقطم عال عليها، وفيها حائط من ورائها».

تكمن «المفارقة» فى هذا النص بين الدنيا والآخرة، وقد اتضح فيه أنَّ هذه «المقبرة» ليس فى «الدنيا» أعجب منها !

وهذا وقد رأى «النابلسى» المكان الذى كان المصريون يصنعون فيه كسوة الكعبة : «فيحيكونه بسداوات من الحرير، بعضها فوق بعض، وناس قاعدون فوق ذلك على دفوف مرتفعة، وناس قاعدون تحت على كراسى، فإذا حاكوا حصة من ذلك ظهرت الكتابة فيه.

ورأينا هناك قالبا من الأخشاب المنحوتة كبيرا بمقدار الكعبة، يفككونه ويشبكونه ببعضه بعضا يقيسون عليه كسوة الكعبة على مقدار الكعبة، دائما يشتغلون فى ذلك من السنة إلى السنة.

وهنا يقِّدم لنا «النابلسى» صورة لصناعة النسيج فى مصر بما لها من تاريخ عريق، وجودة مشهورة، وارتباط ببركة الحج المبرور الذى تفاءل به الرحَّالة.

أما الاحتفالات بكسوة الكعبة فى مصر، فقد كان لها طقوس أسهب الجبرتى فى وصفها.

وقد ذكر «النابلسى» أن المشهد الذى رآه من عجائب الدهر، كما ذكر جهود «السلطان الغورى» لإخراج الماء إلى قلعة الجبل، وقد تكلَّف أموالا كثيرة لبعدها عن النيل

ويتناول «النابلسى» جانبا من الجوانب الإثنوجرافية والأنثروبولوجية الخاصة بالحياة المصرية فيما يتعلق بالطعام والشراب، وما يتصل بالبيت وأمور المعيشة اليومية، اتصاله بالبيئة والمعتقدات الشعبية، وربما بكافة مظاهر الحياة الإنسانية المادية والفكرية.

وإنَّ أسلوب الحياة اليومية وطبائع الشعوب قد حظى بكثير من الاهتمام فى العلوم الاجتماعية الحديثة لاتصاله بالحضارة الإنسانية، وثقافة الشعوب.

وأمَّا «البيوت المصرية» فقد ذكر «النابلسى» أنها، فى غالبها، «ثلاث طبقات (أدوار) وبعضها خمس متواليات بعضها فوق بعض».

ثم أورد شعرا فى وصفها فقال :

وقصر فوق قصر فوق قصر

معمرة بأحجار وطوب

ثلاث غالبا ببيوت مصر

جديد بعضها وقديم عصر

وكذلك زار «النابلسى» مقياس النيل، وسمع أن الكبراء والعلماء كانوا يأتون إليه عند وفاء النيل، وتكثر فيه الناس، ويُنادى فى شوارع مصر بوفاء النيل.

وهذا وقرب باب زويلة وجد النابلسى «حماما» فدخله : «فدخلناه وقد غص بالناس، وعض الداخل إليه بأنياب وحشته والأضراس، وحياضه طوال، وهى مملوءة بالرجال، فقال لى بعض الصناع فيه إن جميع مائه مستعمل، فانتظر هذا الأنبوب ليخرج لك الماء المطلق من فيه، فإذا الناس واقفون حوله ينتظرون، وهو أنبوب مرتفع فى حائط، وعليه الناس مزدحمون» وقد أجرى مقارنة بين حمامات مصر وحمامات الشام، انتصر فيها للأخيرة،وتحدث «النابلسى» عن النقود فى مصر، وكان مرسوما عليها صورة الأسد .

ولقد أُمِّد «النابلسى» بالأمن والأمان من مصر إلى الحجاز فى رحلة حجه؛ حيث زوَّدت قافلته بالجمال والفرسان، وأخذ أمير الحاج المواثيق على مشايخ العربان لكى يكرموه فى طريقه إلى المدينة المنورة، وقام بوداعه الأصحاب والأحباب من أهل مصر وعلماء الأزهر والطلاب، ووزير مصر على باشا مع الشيخ زين العابدين البكرى الذى أخرج له مرسوما من الباشا لحمايته ورعايته فى رحلته.

وأثارت «الرحلة» كثير من الجدل النقدى حول انتمائها للجنس الأدبى عامة، وللفن القصصى خاصة، مما أثار كثيرا من التساؤلات حول خصوصيتها الأدبية،وإن هناك تداخلا بين أدب الرحلة والقصة يجعل الإثارة فى أدب الرحلة كامنة – حقيقة – وراء خطابها الوثائقى أو الذاتى.

إنَّ أدب الرحلة يتأبَّى على الدخول ضمن الأطر السائدة للأنواع الأدبية الأخرى كالرواية والشعر والمسرح وغيرها بحيث تصبح كل رحلة نسيجة وحدها لخصوصية التجربة لدى كل رحالة على حدة.

شكَّل انفتاح «الرحلة» على العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، وزيادة عدد القائمين بدراسة أدبها، نسقا نقديا يُقيم صعوبات تاريخية حول طبيعة النوع الأدبى لها،وفي دراسة أدب الرحلة من المنظور النقدى الحديث تكشف عن نقص فى البناء النظرى والأدوات التحليلية.

وقد أدَّى ذلك إلى وقوع اختلاف كبير حول ماهية أدب الرحلة، ومع ذلك فإنه أقدم من القصة فى حد ذاتها، فقد أُلِّفت أقدم الرحلات فى مصر قبل «الأوديسا» بآلاف السنين، ولكن «الرحلة» و«القصة» تشتركان فى التركيز على مركزية الذات، والاهتمام بالحركة داخل الزمان والمكان، وقد أصبح أدب الرحلة هو رحلة الأدب.

إن انفتاح تجربة الرحالة على كثير من الثقافات والمعارف جعل نص الرحلة ليس شكلا لتقديم معلومات جديدة فقط، وإنما جعلها نصا نقديا للعادات الإنسانية (أجنبية ومحلية)، بل لنقد الرحلة ذاتها.

ولقد أدَّى هذا التنوع فى أدب الرحلة الذى بدأ الاهتمام بعلاقاته مع التحليل الإثنوجرافى، ومع التاريخ، وآليات علم الأنثروبولوجيا ومستقبله، والاهتمام بالجوانب السياسية، والكتابة عن الأجنبى، ورحلة الحج، وعن المكتشفين والسفراء والتجار وغير ذلك، أدَّى هذا إلى جعل أدب الرحلة حيويا خلاق.

ولقد تعددت النظريات التى جعلت من نص الرحلة ملتقى علامات تعدد من انتمائه للحقول التعبيرية فى مجال العلوم الإنسانية.

إن تعدد كُتَّاب الرحلة من مؤرخين وجغرافيين وأدباء وفقهاء قد جعلها نصا مفتوحا ينتمى إلى نسق متنوع.

إن لأدب الرحلة شكله الخاص، وإنْ تداخل مع فن القصة أو السيرة الذاتية.

إن دراسة الرحلة النابلسية هنا قد أفادت من هذا الطرح النقدى بتسليطها الضوء على الأثر القصصى وأثر السيرة الذاتية والترجمة للأعلام فى ضوء تجربة الرحالة فى مصر ورؤيته لها.

وقد سلطت هذه الدراسة الضوء، أيضا، على جانب المغامرة فى شخصية الرحالة، مما يتعلق بارتباط الرحلة، فى النقد الحديث، «بأدب المغامرات»، ويسمح بخلق تراكم متصاعد للأحداث على امتداد الرحلة.

وإنَّ المسار الإنسانى الذى ركزت عليه هذه الدراسة للرحلة النابلسية يلتقى بكثير من أدبيات الرحلة بصفتها ضرورة أن يسجل الرحالة رحلته بنفسه، واشتهار الرحلة – قبل القصة – مع اشتراكهما فى إنتاج فكر ثقافى عن المجتمعات المقارنة، بتنوعها العظيم فى الاتجاهات والأمكنة، وكذلك فى تعبيرها عن كثير من خصائص الطبيعة الإنسانية.

وفي هذا يمكننا اعتبار أدب الرحلة «نمطا خاصا من أنماط القول الأدبى قد لا يرقى إلى مستوى الفن القائم بذاته كفن القصة أو الشعر أو المسرحية أو المقالة الأدبية مثلا، ففيه تجتمع أساليب هذه الفنون وموضوعاتها كلها من غير أن تضبطه معاييرها، أو أن يخضع لمقاييسها»،وعلي مايبدو إنه فن حر يتجلى فيما رأيناه فى الرحلة النابلسية مثلا لنص جمع بين فنون أدبية كثيرة عكست ثقافة مبدعه وقد تنوعت، وتجاربه وقد تميزت.

وإن الكتابة «تبدو – فى كتب الرحلة بخاصة – متحررة مما يمكن أن نسميه الشكل الأدبى، فهى لا تُبنى على قواعد بعينها... بل تنطلق فى «الحكى» حرة إلا ما يقيدها من الانتقال فى المكان... إلى ملاحظات عن الناس، إلى موقف طريف، إلى حكاية دالة، إلى معلومة تاريخية أو دينية أو غير ذلك مما يعن للكاتب، ولا يكاد يقيد هذه الكتابة إلا الرغبة فى اجتذاب القارئ... من ناحية، وإفادته بأكبر قدر من المعرفة فى موضوع رحلته أو غيره من ناحية أخرى».

وإن كثيرا مما ورد من قصص تنتمى إلى التراث الشعبى، وإلى الخرافة والأسطورة فى رحلة النابلسى إضافة إلى المعارف الواسعة التى قدمها عن تاريخ مصر وعمرانها وحضارتها وأعلامها فى العلم والأدب وغيرها هو ما يمكن أن يكشف عن هدف الرحلة من هذا الجانب الذى يتوخى جذب اهتمام المتلقى، ويروى تعطشه إلى القصص والحكايات، وتطلعه إلى المعرفة سواء كانت علما حقيقيا، أو حكايات خيالية.

وقد لاحظنا فى الرحلة النابلسية جانبها التوثيقى المهم مما يستدعى حرص الرحالة «على تسجيل كل خطوة يخطوها بدقة زمنية ملموسة، وبشهادة حية على اللحظة التاريخية ذهابا وإيابا، أما بالنسبة للجانب البيوغرافى فإن الرحالة يحرص على تقديم الجانب المرجعى عن طريق الإحاطة بالمكان معرفيا وتاريخيا ووجدانيا.

وإن تحديد النوع الأدبى للرحلة قد استغرق جهودا نقدية كثيرة يمكن على ضوئها إثراء دراسة الرحلة العربية القديمة التى تعد أدبية فى المحل الأول والأخير.

ولم تكن مصر فى رحلة النابلسى خلوا من نبض الحياة، ولم تكن هذه الرحلة تعليقات متصوف منعزل عن الحياة، بل يوميات إنسان عاش فى مصر بكل كيانه ووجدانه، فصورها فى هذه الصورة التى قدمناها دون تزييف أو ادعاء.

وإن الرحلة – بهذا المنظور – نقلة إلى الجديد من خلال التراث المتواصل بالحياة تواصل الحاضر بالماضى، استشرافا للمستقبل، ولعل المحافل العلمية التى صوَّرها «النابلسى» قد جسدت هذا الجانب المنهجى فى أدب الرحلة بوصفه سياقا معرفيا صيغ صياغة أدبية قصصية.

ولقد اتخذت هذه الرحلة ِأسلوب السجع وسيلة وغاية أدبية بدءا بالعنوان وامتدادا إلى المتن كله تحقيقا للتواصل مع المتلقى الذى ساغ ذوقه هذا اللون من الفن الأدبى الذى كان تعبيرا عن تمكن الأديب من اللغة، وقدرته على الإمساك بناصيتها والاتجاه بها نحو إمتاع المتلقى دون أن يكون هناك ما يمنع من تدفق المشاعر الإنسانية التى لم تحجبها الصنعة الفنية إذا لم تتحول إلى تصنع وتكلف.

وإن كنا قد عُنينا من نص هذه الرحلة بصورة مصر الأدبية والحضارية فإننا وجدنا تناصا فنيا بين خصائص أسلوب هذه الرحلة وخصائص الأدب المصرى ممثلا فى فن البديع الذى درسته فى أبحاثى نسقا فنيا فكريا فلسفيا لا تلاعبا لفظيا، مثل دراستى عن نقد الشعر فى مصر فى العصور الإسلامية.

ولقد فتح «النابلسى» بابا كبيرا لدراسة «أدب الرحلة» من منظور يتصل بكثير من العلوم الحديثة كالأنثروبولوجيا والإثنوجرافيا وغيرها عندما سلَّط الضوء على عمق الحياة المصرية فى بعدها الصوفى المؤثِّر المعبِّر عن نمط حياة اتخذ من الأولياء الصالحين، والتبرك بمساجدهم، والاعتقاد فى كراماتهم مرجعية ارتاح إليها الحاكم الأجنبى (العثمانى) والمحكوم (المصرى) أو (العربى) على أساس من الثقافة الدينية المشتركة.

وكان التراث الشعبى المصرى الذى مثلته الحضارة المصرية تعبيرا، كذلك، عن تشخيص الرحالة للحضارة المصرية فى بعدها الإنسانى العظيم الذى عبرت عنه «الرحلة» فى تقديمها للشخصية المصرية وقد مزجت مزجا فريدا بين حب الدين وحب الدنيا.

وهذا، كما «جاء بقلم أحد الكُتَّاب الفرنسيين فى القرن الثامن عشر القول إن الرحلات تشكل أكثر المدارس تثقيفا للإنسان، فالاختلاط والحياة مع الشعوب المختلفة، إضافة إلى الاجتهاد فى دراسة أخلاقهم وطباعهم، والتحقيق فى دياناتهم ونظم حكمهم، غالبا ما تضع أمام الفرد مجالا طيبا للمقارنة، كما تساعده، ولا شك، على تقييم نظم وتقاليد بلده وموطنه».

والرحلة وسيلة نبيلة للاتصال الإنسانى، وغاية للفن الأدبى فى بعده القصصى الذى جعل قراءة أدب الرحلة متعة كبرى.

«فلقد أثار هذا الأدب اهتماما بالغا بسبب تنوعه، وغنى مادته، فهو تارة علمى، وتارة شعبى، وهو طورا واقعى وأسطورى على السواء، تكمن فيه المتعة كما تكمن فيه الفائدة، لذا فهو يقدم لنا مادة دسمة متعددة الجوانب لا يوجد مثيل لها فى أدب أى شعب معاصر للعرب».

إن هذه الدراسة قد تؤدى إلى نتيجة مفادها أنَّ البحث فى العصر العثمانى جدير بالاهتمام فى الدوائر العلمية المختلفة التى تهدف إلى إقرار الحقائق الموضوعية دون تزييف أو ادعاء لكى نضع هذا العصر الذى سيطر على حياتنا ثلاثة قرون طويلة فى موضعه الصحيح بنقد موضوعى يحتفل بالإيجابيات احتفاله بالسلبيات، وأحسب أنَّ هذه الرحلة – بعد دراسة نتائجها – مثال لهذا التقييم الإيجابى فى المرحلة الأخيرة من العصر العثمانى، وقد بدأت مصر فيه رحلة النهضة فى العصر الحديث.

لقد عبرت الرحلة النابلسية عن ذات الرحالة ، وقدمت لنا جوانب ثرية من العصر العثمانى فى تاريخ مصر العظيمة.

اقرأ ايضاً| فاطمة عبد الحميد تكتب القارئ السعودي لا يخيفني

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة