حاتم حافظ
حاتم حافظ


رسائل المثقفين العرب إلى غزة

حاتم حافظ .. كاتب وأكاديمي يكتب : حبيبتى

أخبار الأدب

السبت، 18 نوفمبر 2023 - 01:19 م

 بعد ليلة مضنية لم أحلم فيها بأي شيء أفزعني منبه الهاتف فجأة، فتفتت ذاكرتي حتى أن تذكر أسباب استيقاظي في ذلك الموعد صار عسيرا لوهلة. تحاملت على نفسي لأقوم من سريري. كانت ليلة دافئة على غير المعتاد، ولأني تكاسلت عن فتح نافذتي قبل نومي بلل العرق وسادتي وفراشي. كان علي أن أراسلك لأتأكد من أنك ما زلت على قيد الحياة لكن الاتصال كان متعذرا بسبب تعطل في شبكة الإنترنت جراء القصف الذي لابد كان متواصلا طوال الليل.

في آخر رسالة وصلتني منك قبل يومين أخبرتني بمقتل نصف عائلتك، وقتها كدت أعزيك بعبارة غير لائقة كالقول مثلا بأن عليك التفكير في نجاة نصفها الآخر، أو أن بعض الذين ماتوا كففت عن زيارتهم منذ زمن تجنبا للجنود الذين كانوا يقطعون الطريق إلى حيهم، لكن لأن كل الكلام لن يكون له معنى اكتفيت بالصمت، حتى أنك – كنوع من التواطؤ – بادلتني صمتا بصمت.

وأنا أشتكي الآن من حرارة الجو جاءني خاطر بليد بأنك قد لحقت بنصف عائلتك، أو بأن احتمال نجاتك كان يعني أنك اضطررت للفرار إلى العراء لأن القصف كان يدك كل مبنى يلاحقه. ذكرني ذلك بأغنيتنا المفضلة، هل فرشت العشب يوما وتلحفت الفضا. كان لدينا حلم مشترك بأن نقضي ليلتنا ذات يوم مفترشين العشب متلحفين بقبة زرقاء، لكن القبة الزرقاء التي كنا نرغبها كانت مزركشة بالنجوم لا بشرارات القنابل. أمام التليفزيون ليلة الأمس كان الكادر ثابتا على مشهد لا يتغير مكتوب أعلاه كلمتين: غزة الآن. كان الكادر مظلما وفي الأفق كانت رشات القنابل تظهر كبقع مضيئة وكنت أسأل كيف يظهر المشهد من مكانك. عن الأماكن التي سوف تسقط فيها، هل طالت فناء بيتكم، ذلك التل الذي كنتِ تقرأين فيه كتابك، المدرسة التي تعملين فيها، المخبز الذي يمتلكه عمك، المشفى الذي ولدت فيه ابنة خالك، الشارع الذي كانت نظرات الشبان تلاحقك فيه، دكانة التوابل التي يمكن شم رائحتها من على بعد، الكوافير الذي أصرت صاحبته على أن تكوي لك شعرك فعدت تبكين بعد أن أحرقت خصلة منه.

ذلك الصباح احتجت لكمال يقظتي قبل العمل أن أعرج على ستاربكس لشرب القهوة. حين وصلت كان المكان خاليا على غير المعتاد، فيبدو أن الدعوة للمقاطعة قد طالته. كان الدخول بمثابة خيانة صغيرة لابد منها. دخلت وحصلت على قهوتي دون شعور بالذنب، فقد كنت أعرف أن الشكوى من حرارة الجو خيانة أكبر.

في رحلتي للعمل توقف الطريق مرتين، فتحت نافذة سيارتي وبدأت في التدخين بسأم، لكن الطريق كان آمنا، على الأقل لم يكن أي من الغاضبين لازدحام الطريق يتوقع أن تسقط فوق سيارته قذيفة يلقيها أرعن بأمر قائد مهووس بالقتل. فاجأني الشعور بالأمان كما يداهم أي شخص شعور بالجزع، كما لو أن الأمان يمكن أن يُكتشف حضوره، الأمر أشبه بمقهى قديم يعتاد المرء على المرور به دون أن يرغب في ارتياده لكنه يفجع حين يمر ذات يوم فيكتشف أنه قد بيع لأن العمارة كلها تنتظر تنفيذ أمر إزالة. لأننا نعتاد دوران الأرض، نعتاد تعاقب الليل والنهار، دورة الفصول السنوية، لا يمكننا اكتشاف الصباح والمساء ولا الصيف والشتاء، لكن حين يتأخر الشتاء – كما تأخر هذا العام – نبدأ في القلق، يرهبنا التفكير في أنه لن يأتي.

حبيبتي
لو أنك ما زلت على قيد الحياة راسليني بكلمة.. كلمة واحدة.. كلمة تعيدني إلى الأمان الذي لا ننتبه إليه طالما أننا محتمين بالاعتياد. كلمة واحدة يمكنها إجبار الشتاء على القدوم لتكتمل الفصول ولتستأنف الأرض دورانها فنكف عن الشعور بدورانها.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة