الكاتب الصحفي أحمد المراغي
الكاتب الصحفي أحمد المراغي


أحمد المراغي يرصد «مافيا الحج»: حلم مبرور وعمرمهدور | رقم 1

بوابة أخبار اليوم

الأربعاء، 19 يونيو 2024 - 10:40 م

(( أكتب فجر ثالث أيام التشريق .. أهرب من شاشة هاتفى أقلب بين ثنايا قنوات الأخبار ..آلم يضيق الصدر ودمعة ساخنة تداعب قلبى وتراود جفنى رافضة أن تسقط فهؤلاء شهداء الرحمن فلا خوف اليوم عليهم ولا هم يحزنون .. وراء كل جسد طاهر ملقى على أرض الغربة الملتهبة ألف حكاية وحكاية ..


فى مقابل حفنة الدعوات ملايين وملايين اللعنات  التى تصبها قلوب " مخلوعة..مخدوعة ..مقهورة  " فوق روؤس "سماسرة البشر الجدد" الذين روجوا لحلم العمر الأعظم فى يوم الحج الأكبر تحت شعار " ادفع لتنال البركة".. وياله من ثمن ..


تبدلت أحلام النفس المطمئنة إلى كوابيس حبلى باللحظات المرعبة، تبددت أمنيات رحلة العمر الصافية إلى غيوم كئيبة تحمل معها ما لا عيونهم رأت ولا آذانهم سمعت ولا خطر على قلبهم يوما ..


البداية من هنا .. خطة ثلاثية المراحل تنفذها بدقة مافيا منظمة تعرف خطواتها جيدا وتجهز خطوط دفاعها بعناية طبقا لطبيعة كل مرحلة .. فتارة هو الوجه الحسن الذى يشع نورا ويهمس قرأنا ويوعظ كلاما جاهزا للمرحلة الأولى ..وتارة ثانية هو نفسه صاحب الصوت الخشن والاختفاء المريب واللهجة الصارمة ادوات المرحلة الثانية ..أما الثالثة فما أنا بمصرخكم وماأنتم بمصرخى .. دعوتكم فاستجبتم .."كنتم عارفين انكم طالعين شمال ومتفقين على كدة وانا مش مغسل وضامن جنة ربنا معاكم بقى" ..وهكذا تكتمل الخطة .


هنا وفوق هذه السطور الساخنة بدرجة غليان الأرض التى شهدت عذاب الأحياء وشهادة الأموات من حجاج بيت الله فى موسم فريد من نوعه  نرصد ونحلل ونكتب ونصرخ ونهلل عسى أن يسمعنا من لازال حلم الحج " الفهلوى " يراوده ..


 لا نحقق ولكننا نرصد ..لا نتهم ولكننا نوثق ..نمارس طقوس مهنتنا بوضوح شديد وبحكايات موثقة لا لبس فيها ..نتحدث الى كل أبطال الرواية القانون ..الضحية ..الجانى الكل مسئول ..ونقسم بكل لحظة رعب عاشها انسان تمنى أن تكون أسعد لحظات حياته ..نقسم بكل روحا انتقلت الى رحمة ربها وفارقت جسد حاج فى بلاد غريبة لا يعرف عنه احباؤه خبرا ولم يعرف هو قبل ان يفراق ممن حوله أحدا ..
نقسم ألا نصمت ..))

 

كثيرا ما نحتاج أن نقف مع أنفسنا بضعة لحظات نتأمل فيها حقيقة واقع نراه ويراه غيرنا من زاوية لا تمكننا أبدا من رؤية المشهد والتحقق من تفاصيله .
هى لحظات بسيطة نحتاج فيها أن نستشنق هواء الموضوعية ونملأ به عقولنا قبل صدورنا ..لحظات نحتاج فيها وربما يتوجب علينا أن نفكر  بهدوووووء.. وكأنى أكاد أسمعها بصوت استاذنا عماد الدين أديب ..بهدوووووووء.


تساؤلات مريبة على هيئة رسائل صادمة


كان لنا جميعا أحبة على صعيد عرفات الله هذا العام ..طافت أرواحنا حولهم ..وتوحدت قلوبنا وقلوبهم ومرت نفس نسمة الهواء الباردة عصر يوم قاسى ملتهب على وجوهنا قبل ووجههم ..تعلقات بدعوات الله نفس القلوب وفاضت بالعبارات ذات  العيون وانطرحت على باب غفران الله نفس الامنيات وارتمت بين يديه سبحانه نفس الدعوات ..آن اللهم رحمتك التى سبقت غضبك .. واحسانك الذى علب ميزانك ..ووسط هذه المشاعر المتوهجة واللحظات الأكثر فرحا فى عمرنا وعمر أحبابنا ضيوف الرحمن ..فجأة بحث كل منا عمن يشاركه هذه الايام المعدودات ومع كل الأسف لم يجده..انقطعت الأخبار..تفرقت السبل .. اختفى الأحباب ..وبدات مخالب القلق المميت تنهش خلجات القلوب الضاحكة المستبشرة لتحولها لقلوب  ترهقها العبرة فى الوقت الذى بدأت فيه سيول الأخبار الكئيبة والمعلومات العجيبة والتساؤلات المريبة على هيئة رسائل صادمة تصل الى ذويهم  وفى لحظات تبدل الحال وتبددت الامال وتحولت رحلة الحج المبرور الى رحلة الدم المهدور.

 

ضربة البداية.. الحلم لم يعد مستحيلًا 


كأى خطة منظمة لها بداية يجب أن تكون متقنة للغاية لأنها دائما ما تكون السبب الرئيسى فى نجاح باقى الخطة  والبداية هنا بطولة ذلك السمسار " الشيك" ذو اللحية المهذبة والجلباب الأنيق  ورائحة مسك عود الكعبة " التقليد " واللسان المرصع بجواهر الذكر وألفاظ الجلالة والصلوات على النبى بين كل جملة واخرى كل هذه مغلف بآيات الذكر الحكيم وبعض الأحاديث التى تغازل القلوب المتلهفة لبيت الله والتى لو خيرتها تدفع ماتبقى من دقاتها مقابل ركعة فى بيته الحرام واخرى فى روضة خير الأنام ووقفة على صعيد عرفات الجليل وشربة زمزم قبل الرحيل .


وهنا تبدأ مرحلة " التنويم المغناطيسى " ..إحلم ياعزيزى حلمك الأوحد.. الأصعب.. بل المستحيل وأنا فى ثوان أضمن لك تحقيقه ..جهز وريقاتك البسيطة وخلال ساعات ستصلك تأشيرة رحلة العمر ..هيا ماذا تنتظر اشترى فورا ملابس الإحرام ..تخيل انك هناك ..هاأنت ترى الكعبة ..ماشاء الله لقد سطع وجهك فجأة بنور ضيوف الرحمن ..هاأنت ساجد فى روضة رسول الله ..سلم لنا على الحبيب .. ولا تنسى زيارة الأحباب فى البقيع ..يا نور رسول الله ..وجهك سطع بنور المدينة المنورة ..ماشاء الله وكأنى أشم فى ملابسك عود الكعبة ويخرج من فمك رائحة تمرات المدينة ..""


وهكذا يكمل لاعب ضربة البداية خطته الوردية وهو يؤدى دوره ببراعة يحسدها عليه "ال باتشنو ويوسف بك وهبى ملوك الخطابة فى تاريخ السينما " : " أاااه يال عقلى الذى طارت به الفرحة ..نسيت أن أعطيك هديتك .. يلا ياعم " شنطتك أهى ..فيها الشمسية وعداد الاذكار والكارنيه  والمصلية والسبحة..هنيأ ياحاج اكتب علي شنطتك اسمك حتى لاتضيع ..ويهمس فى نفسه :اما أنت كأنسان فلا بأس ابدا أن تضيع ".


تعويذات السحر الأبيض 


من منا يستطيع أن يقاوم ..من منا يرد دعوة الله ..من منا يقول لا لرحلة عمره بأقل من تكلفتها بثلث الثمن وربما أقل ..من منا يستطيع أن يقاوم كل هذا ويالحظ البسطاء التعيس حينما تغلف كل هذه الاحلام تلك الموسيقى الصادرة عن هاتفه "رايحة فين ياحاجة ياام شال قطيفة ..رايحة ازور النبى محمد والكعبة الشريفة " وفى الخلفية تصدح ستنا ليلى مراد " ياريحين للنبى الغالى هانيالكم وعقبالى ..احج واطوف سبع مرات والبى واشوف منى وعرفات " ..من يقاوم ياسادة ؟.


وهكذا وبعد هذا الغسيل العقلى المدهش وتحت تأثير تعويذات السحر الأبيض التى قرأها الساحر على عقول الضحايا تبدأ أزرار الهاتف المحمول تداعب برامج التحويلات البنكية فى لحظات معدودة  هذا يرسل نصف المبلغ ضمانا لأمل كاذب لتثبيت الوعود والاسعار وذاك يرسل المبلغ كاملا أملا فى ضمان مكانه فى قائمة أصحاب الياقات البيضاء القانطين فى الصفوف الأولى واخر يدفع جزأ بسيطا وهو يتحدثفى هاتفه على الجانب الاخر مع من يتفق مع لبيع سريع  لقطعة من أرضه ايا كانت الخسارة فالمكسب أكبر والتجارة مع الله لن تبور .


والمدهش والعجيب بل والمثير أن تعويذات السحر الأبيض لا تسحر فقط بسطاء على قدر بسيط من التعليم أو حتى بلا تعليم لكنها تنطلى على عقول تسلحت بتعليم وثقافة وخبرة كان من المفترض أن تقاوم وتحارب وتواجه هذه الفتنة ولكن يبدو أن سحرها أقوى من ان يواجه أو أن يقف بينه وبين القلب أى عائق أو ساتر أو خط دفاع .

رسالة صوتية من الساحر 

وهكذا يبدأ " ضيوف الرحمن " بعد ان منحهم الساحر هذا اللقب فى ثوان معدودة وكما يحلو للأهل والأحباب ان ينادوهم يبدأ الضيوف فى العد التنازلى ليوم اللقاء الأروع وفى هذه المرحلة تبدأ مرحلة الاستنزاف وفى كل صباح من أيام الانتظار والشوق يستيقظون على رسالة صوتية من "الساحر " خادم المصباح الذى سيسافر بهم عبر الزمان والمكان وهو يطلب منهم بشكل اسبوعى وربما يومى زيادات مبررة وغير مبررة ..

" أحبابى واخواتى الحجاج ( وياله من لقب ونداء يخطف القلب والعقل والروح ) .. مش بإيدينا والله ولو بإيدنا نشيلكم على اكتافنا ونطير بيكم على كعبة الله وقبر نبيه ولكن انتوا عارفين ..معلش ..نظرا لارتفاع الدولار زادت تذكرة الطيران شوية .. والسكن شويتين ..و التنقلات هناك ثلاث شويات و...و...وصولا لأضعاف الاسعار فى بعض البنود "


وبعد أن يطمئن الساحر السمسار أن الصيد قد وقع تماما فى الشباك والتفت خيوطه القاسية حوله وتملكت منه وكبلت يديه وقدميه وأصبح لا يملك أى فرصة للهروب او التراجع يستكمل الشرير  بموهبته الفطرية خطته القبيحة فى رسائله اليومية "بالنسبة لحضرتك ياحاج احمد انت عاوز غرفة لوحدك طبعا عشان بناتك وزوجتك يكونوا أمام عينك وتأنسوا بتفاصيل الرحلة الحالمة سويا ..طيب ده بقى هايكلفك 
كمان ١٠٠٠ ريال ..وبالنسبة لحضرتك ياحاجة فوزية لو عاوزة انتى وابنك وبنتك تكونوا سوا معلش كمان ١٠٠٠ ريال ..لو عاوزينها قريبة شوية عشان ماتتعبيش من المشوار وتروحى وتيجى الحرم كل يوم ٥ مرات فى كل صلاة كمان ١٠٠٠ ريال ...ولو عاوزها ....كمان ١٠٠٠ ولو عاوزاها كمان ... وكمان ....وكمان ...."

الوجه الحقيقى ..الوجه القبيح 


وفجأة تكتشف الحاجة فوزية والحاج احمد انهم وغيرهم وتحت بند لا تراجع ولا استسلام ليس امامهم سوى الموافقة ليكتشفوا فى لحظة مواجهة قوية مع النفس انهم اصبحوا قاب قوسيين او أدنى من سعر احدى باقات الحج النظامى وربما لو كانت الرحلة برية أو بجرية لكان الرقم تقريبا هو نفسه ولكن ..كما قلنا لا تراجع ولا استسلام ..فالجائزة عظيمة ..والتجارة رابحة ..والهدف سامى والقصد نبيل  .
وتمر الأيام ..ويقترب اللقاء ولازالت خدع  السمسار القبيح ذو الوجه الحسن تنطلى على أصحابها وليس أمامهم بعد كل هذا الا تنفيذ أوامره ومابين تغير سعر الصرف ومقابل السكن وفرق الغرف وقرب المسافة وجودة الاقامة و تفاصيل الرحلة وزيادة سعر الباركود واختلاف اسعار الطيران و...و... يستمر الثعبان فى " مص دم "  ضحاياه وهم مشدوهين تحت تأثير تنوميه لا حول ولا قوة الا بالله ليس امامهم سوى الانصياع وكلما تملل ضيوف الرحمن او بدا عليهم الغضب القى الساحر بعضا من مبرراته المغلفة بتعويذاته التى يتخيل فيها الضحايا لحظة لمس الكعبة وشم ريحها والسلام على خير الانام وركعتى الروضة فيذهب التملل ويختفى الضجر ويدفع الجميع المبلغ كاملا لآخر قرش إعمالا لإسم الخطة اللا انسانية " ادفع لتنول البركة "
وقبل تحقيق الحلم بأيام قلائل وبعد ان تأكد السمسار أن كنزه الثمين أصبح فى كهفه وتحت يده وجالسا فوقه ..وفجأة . تتغير اللهجة ..تختفى علامات البروالتقوى ..يتخشن الصوت الناعم وتختلف نبراته عن تلك الوديعة التى كانت تسيطر على اى حديث يسر به الى ضحاياه ..اين تلك الطيبة ..اين ذهب الصوت الندى الاشبه بصوت النقشبندى مغرب كل ليلة فى رمضان ..لماذا علا الصوت ..وتجهمت اللهجة :" اسمعوا ..ماسأقوله غير قابل للمناقشة .. الكل ينفذ ولا أحد يراجع ..اقول يمين تسيرون يمين ..يسار ..تغيرون وجهتكم فورا دون جدال ..انا الوحيد الذى يعلم مصلحتكم .. اما تلك الحقائب التى تحتوى المصلية وعداد الاذكار وحصن المسلم وكتيب تعاليم الحج والعمرة يفضل ان تختفى تماما ..واذا كان لابد منها فيجب بأى وسيلة ازالة اسم الشركة ( مسئولة عملية السمسرة ) من على الحقيبة سواء بقلم او بكشط او ...الافضل الا تأتوا بها أصلا ..
ماهذا ياعم ..انها اجمل شنطة حلمت بها فى حياتى لقد كنت انظر اليها صبيحة كل يوم واتخيلها تحيط بكتفى وانا اسير بين السعداء من ضيوف الرحمن ..ومع هذا انت ادرى منا وانت الامام وانت الامين علينا وانت ..وانت ..يعنى " اللى تشوفه ..المهم نوصل الكعبة والمدينة ".


ويعد الصوت الاجش من جديد فى إحدى رسائله الكئيبة باللهجة الجديد : " بالنسبة للاستاذ فلان ( لم يعد الحاج فلان كأول أيام شهر العسل وجلسات التنويم الاولى ) ..حتى الان لم يدفع ولا هو ولا ابنه ولا زوجته زيادة " الباركود "الاخيرة  وعليه لو مادفعش مايجيش ..مش هايطلع ..انا ماضحكتش عليكم ..انتوا كلكوا عارفين ان موت نفسى عشانكم عشان اوفرلكم احسن سفر وارخص رحلة ..وبعد ده كله يقولك ده بيضحك علينا ..خلاص ياعم ..انشالله ماجيت .. ولا اقولك ..خلاص انا هاعملك باركود عشان متفضحناش فى المطار ونبقى المشكلة اكبر وتفتح علينا فتوحة ..بس دى فلوس فى رقابتك هتدفعها هاتدفعها والا حجك باطل ..سامع باااااطل ".


وهنا يصبح المساكين أمام الجزء الثانى من الحكاية .. ( الصدمة ) .. والتى من المؤكد أنه جزء صعب  ومؤلم..  لكنه مع الأسف ليس الجزء الأصعب او الأكثر إيلاما فالأسوء والأكثر سوادا ومرار فى ايام العمر لم يأتى بعد ..

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 

مشاركة