هشام مبارك
هشام مبارك


يوميات الاخبار

وكلما غفوتُ.. رأيتُ!

هشام مبارك

السبت، 22 يونيو 2024 - 05:02 م

هذا أبى يجلس على كنبته الأثيرة فى الصالة، بينما ترقد أمى على سريرها فى غرفتها المطلة على الشارع الرئيسى.

ليلة لا تُنسى

الجمعة:

والليلة هى ليلة وقفة عيد الأضحى المبارك، توجهت لموقف الباصات الفخيم بمدينة نصر فى الحادية عشرة مساء لأستقل أتوبيس القاهرة - الأقصر وموعده الثانية عشرة وتسع وعشرون دقيقة، لاحظ الدقة فى موعد انطلاق الأتوبيس. تعلمت من أبى -عليه رحمة الله- أن الشيء الذى لا ينتظرك عليك أنت أن تنتظره.

كان هو أشهر من طبق هذه النظرية على نفسه، فقد كان عند سفره من القاهرة للأقصر أو العكس يذهب لمحطة القطار قبل موعده ربما بثلاث أو أربع ساعات، قبل كل المسافرين وقبل سائق القطار والعطشجية وربما قبل ناظر المحطة نفسه عكس نديمه وصديق عمره وابن اخته عبد المنعم نور رفيقه فى السفر والذى لم يكن يدخل المحطة إلا والقطار قد بدأ رحلة التحرك التى تسبقها صافرة طويلة مخيفة منذرة ببدء الرحيل.

هجرت السفر بالقطار منذ سنوات عديدة رغم أن التجارب أثبتت أنه لا راحة فى السفر - خاصة لو كان بصحبتك أطفالك - إلا بالقطار. أصبحت عملية دخول محطة السكة الحديد والخروج منها شاقة جداً بالنسبة لعمرى وحالتى الصحية بينما من مزايا الأتوبيس قربه من البيت وكونه كذلك أسرع فى الوصول. زمان كنا لا نكتفى عند السفر بحقيبة ولا اثنتين، بالذات فى العودة من البلد حيث لا يخلو الأمر إضافة لحقائب الملابس، من كرتونة عيش شمسى وأخرى للفايش وثالثة للحوم والطيور. وغيرها من أشياء انقرضت مع الزمن وتحولت لمجرد ذكريات تندرج تحت بند الغول والعنقاء والخل الوفي.

كان الهرج والمرج يسيطران على محطة الحافلات. تشعر ولأول وهلة أن أهل القاهرة كلهم قد قرروا الرحيل عنها فى العيد. فى مثل زحام كهذا تبرز القدرة على إدارة أى مكان.

الفوضى سادت وبدا أن هناك تأخيراً كبيراً فى موعد انطلاق الأتوبيس. كانت الساعة تقترب من الواحدة صباحاً، وميكروفون المحطة يعلن للتو أن الأتوبيس المقرر له سلفاً أن ينطلق الساعة الحادية عشرة وخمس وخمسون دقيقة وصل للتو على رصيف ٤، طبعاً لم أكن فى حاجة أن أسأل عن موعد رحلتى حيث وصل الأتوبيس متأخراً أكثر من ساعة دون الإعلان عن قدومه ولا حتى الاعتذار عن التأخير وكانت المفاجأة أنه لا يحمل اسم الشركة التى قمنا بالحجز عليها، بل كان مؤجراً من شركة أخرى، هكذا يفعلون لمواجهة ضغط العيد دون الرجوع للراكب وهو صاحب الحق الأصلي.

غريب أن يفشل القطاع الخاص فى مجال النقل البرى رغم استحواذه على اكثر من تسعين بالمائة منه، وهو الذى يشكو دائماً من مزاحمة الحكومة له فى كل المجالات. يبدو أن الأصل بالنسبة لهذه الشركات هو الشكل فقط، فقد كان الأتوبيس متهالكاً من الداخل لم تمتد له يد الصيانة ربما منذ سنوات طويلة.

وتخيل أن الاتوبيس الذى يحمل على التذكرة لقب «سوبر دى لوكس بلس» ظل سائقه طوال الرحلة يبحث عن مفتاح دورة المياه دون جدوى وعندما ضج بعض الركاب بالشكوى سلمهم كل ما يمتلك من مفاتيح صغيرة أو كبيرة لعل أحدنا تكون يده «مبروكة» فيعثر على ضالتنا المنشودة! لكن كل المحاولات باءت بالفشل.

بين الواقع والخيال

السبت:

تحرك الاتوبيس وكان التعب قد حلّ على غالبية الركاب فاقتصرت فترة المناوشات والخناقات على الأماكن على خمس دقائق فقط استسلم بعدها الجميع للنوم رغم سوء حالة المقاعد التى ليس لها أى حظ من السوبر أو اللوكس كما تدعى تذكرة الاتوبيس زوراً وبهتاناً. انتزعتنى من هذه المشاعر ذكريات جميلة عن هذه الليلة. بدأت أغفو قليلاً واختلط الواقع عندى بالخيال. غفوت فرأيت والدى رحمه الله جالساً كعادته فى مثل هذه الليلة على كنبته المفضلة بجوار النافذة المطلة على الشارع. يناجى هلال ذى الحجة الذى مر على ميلاده ثمانى ليالٍ كاملة سائلاً إياه: تُرى أين وصل ولدى الآن؟ وكم تبقى من الوقت ليهل علينا؟!.. مشاعر طبيعية لأب كان يؤرخ للزمن منذ لحظة ركوب ابنه للأتوبيس متصلاً كلما مرت خمس دقائق بواحدة من عمّاتي:

يا فاطنة هشام فاضله عشر ساعات ويوصل!

يا زينب هشام فاضله تسع ساعات وخمسة وخمسين دقيقة!

استيقظت من أحلامى على صوت فرامل من السائق فى مواجهة مطب كبير منتقداً عدم وضوح اللوحات الإرشادية. ثم انتظم فى السير من جديد. وغفوت كذلك من جديد لأرى فى هذه المرة أمى الحبيبة رحمها الله تدندن فرحةً فى انتظار وصولي، ها هى تغازلنى وتغنى لى أغنية لفيروز: وقف يا أسمر فيه إلك عندى كلام، قصة عتاب وحب وحكاية غرام، هالبنت يللى بيتها فوق الطريق. حمّلتنى اليوم لعيونك سلام!

أصِلُ بيتنا قبيل الشروق فيمسك والدى بالتليفون ليوقظ كل الأهل والأحباب المسجلة أرقامهم على تليفونه!!: هشام وصل يا حاج عبد الرحيم، أضحك قائلاً له: وما ذنب الرجل يا أبى توقظه فى هذه الساعة المبكرة؟! فيجيبني بأن عبد الرحيم بالتأكيد لن ينام قبل أن يطمئن على وصولي!!

غفوت من جديد فرأيت أبى يطلب منى قبل أن أبدّل ملابسى الذهاب للسلام على عمتى «فاطنة»، تستقبلنى هاشة باشة ينطق وجهها بحب كبير وصادق لابن أخيها، لا أعتقد أن أحداً أحبنى مثلها أو يزيد سوى عمتى زينب التى كانت ترانى أحلى من راغب علامة بل إن راغب فى نظرها «قمحاوى شوية بالنسبة لابن أخويا» هكذا كانت تواجه من يعترض على تحيزها لي!!، تضحك عمتى فاطمة وهى تخبرنى بآخر الأنباء: شوفت يا هشام يا ولدى قال على آخر الزمن اخترعولنا دموع صناعية،، دى أكيد يا ولدى عاملينها مخصوص لعمتك. تقولها ضاحكة ودموعها تسيل فى نفس الوقت فأداعبها مؤكداً: عيونك يا عمتى مثل البئر كلما نقص ازداد!

غفوت من جديد فرأيت عمتى زينب تستقبلنى وابنتها الكبرى فوزية. تقول عمتي: عايزاك لما ترجع مصر تكتب فى الجريدة تقول لبتوع التليفزيون يذيعولنا مسلسل ذئاب الجبل أديلهم شهر بحاله ماذاعوهوش. أضحك مؤكداً لها أنى سأفعل ما تأمر به. كانت تعشق المسلسلات التى تتناول الحياة فى الصعيد رغم المبالغة فى الأحداث وفى طريقة الكلام واللهجة التى تبعد كثيراً عن لهجتنا.

كنبة أبى وسرير أمى

الأحد :

وصل الأتوبيس الأقصر متأخراً أكثر من ساعتين، ووصلت بيتنا فى «البياضية» قبيل صلاة الظهر. أدرت المفتاح لأفاجأ بالبيت مثلما تركته منذ سنوات. هذا أبى يجلس على كنبته الأثيرة فى الصالة، بينما ترقد أمى على سريرها فى غرفتها المطلة على الشارع الرئيسي. ضاقت الخطوة ولم يعد السير سهلاً لكليهما. فكانا يتناجيان بقليل من الكلام وكثير من الصمت.

ظننت أنى قد غفوت من جديد، أخذت أُغمض عينى وأفتحها حتى أعود للواقع مثلما كنت أفعل طوال الطريق من القاهرة إلى هنا.

فى هذه المرة طالت غفوتى وعشت بين أمى وأبى طيلة فترة العيد. عندما يتعب أبى من الكلام يفتح الراديو، يتهادى صوت أم كلثوم ويدندن هو معها: يا ظالمنى يا هاجرنى وقلبى من رضاك محروم، تلوعنى وتكوينى تحيرنى وتضنيني، ولما أشكى تخاصمنى (ثم يرتفع صوت أبى مع الست وهى تقول): وتغضب لما أقولك يوم يا ظالمني!.

أدخل لأمى مداعباً: قل للمليحة فى الخمار الأسود ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبدِ؟! تضحك قائلة: «وحياتك يا ولدى ما فعلت «بناسَك» أى حاجة، أصل أبوك ده فضيان، تعال اقعد جنبى خلينى أبل ريقى منك شوية».

(آخر الرحلة)

هل تريد قليلاً من الصبر؟ .. لا ..

فالجنوبى يا سيدى يشتهى أن يكون الذى لم يكنه..

يشتهى أن يلاقى اثنتين: الحقيقة والأوجه الغائبة.

(أمل دنقل ١٩٤٠-١٩٨٣) ‎

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة