صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


عسل في الكوز 

لم يقل لي ماذا أفعل؟!

عبد الصبور بدر

الجمعة، 08 يوليه 2022 - 03:11 م

كنت أظن أن أبي عمود البيت، لكن حين مات أدركت أنه عمودي الفقري، لذلك لم أتعجب وأنا احتضن صديقي أحمد عباس – مساعد رئيس تحرير الأخبار – قبل صلاة الجنازة على والده، وأهمس في أذنه: "ربنا يصبرك". وأسمعه يقول لي خلف دموعه: "ظهري انكسر".

وأنا لا أعرف والد أحمد عباس ولكن القاعدة التي أؤمن بها "إذا لم تعرف الرجل، انظر في ابنه لتراه، فالابن – في الغالب - مرآة والده، الأب شجرة، والابن ثمرة، وشجرة التفاح لا تثمر الحنظل".

قبل سنوات دخلت مستشفى دار الفؤاد بعد إصابتي بجلطة غير مكتملة في القلب، كنت جثة نجح الأطباء في إعادة الحياة إليها. أخفيت الأمر عن أبي لأيام، وفجأة وجدته يتصل بي بعد عملية القسطرة الاستكشافية يسألني: انت كويس؟.. قلت له: بمب! .. وقال لي: رأيت نفسي في المنام كأني ميت، وأتلقى العزاء في نفسي!.

في وفاة الأب أو الابن يختلط الأمر، لا تدري من الذي مات ومن الذي يتلقى العزاء، كل منهما يتماهى في الآخر، الحاضر يغيب، والغائب يحضر، وأنت لا تعلم ماذا يجري في تلك اللحظات التي تشاهد فيها ما لا تصدقه، وتصدق ما لا تشاهده!.

رأيت أحمد في جنازة والده منهارا لا حول له ولا قوة، يتكور على الأرض بنفس مكسورة، وشاهدته في اللحظة نفسها صلبا ومتماسكا، وأنا أراقبه من بعيد لأفهم كيف تحول إلى شخصين في وقت واحد "أحمد وعباس"!؟.

لك أن تعتبرها كرامة إن كنت تؤمن – مثلي – بكرامات الآباء، فالشيخ الملفوف بإحكام في كفنه الناصع، يؤدي مهمته الأخيرة - بإتقان - في ستر ضعف ابنه، يحتوي ولده المنسكب، يمنع الدموع التي تملأ عينيه من السقوط، ويطبطب على قلبه، ويحميه من التهاوي، ويتبادل معه حديث الونس في الرفقة الأخيرة قبل أن يستأذنه في الرحيل إلى الأبد. 

في اليوم التالي كان العزاء في مسجد آل رشدان بمدينة نصر، ظهر أحمد متأنقا في بدلة ورابطة عنق أسودين، تفوح منه رائحة طيبة، يدرك العارفون ببواطن الأمور أنها رائحة والده، ملامحه أيضا بدأت تتغير وتتشكل في صورة الأب، وكأنه قرر العودة إلى الدنيا بعد يوم واحد من وفاته على هيئة شاب وسيم بهي الطلعة ليستكمل مشواره في الحياة.

قال لي أحمد وأنا أقف بجانبه: لم يقل لي أبي ماذا أفعل؟.. ولم يكن أحمد في حاجة لأقول له: اتبع خطواته، تصرف كأنك هو.. تعامل مع من حولك بروحه التي استقرت بداخلك، أنت الآن تحمل سرّه، والسرّ كنز العاشقين، ولغة الوصل، وأصل التوحد.

يا صديقي الغالي: حين يصعد الأب إلى السماء ويترك ابنه على الأرض، تصبح وفاته مجرد خبر كاذب.
 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة