أحمد عباس
أحمد عباس


تساؤلات

هات سوجارة

أحمد عباس

الأحد، 31 يوليه 2022 - 08:14 م

الرجل خمسينى له شعر أسود كثيف تتقدمه خصلة فضية يشبه صلاح قابيل وشارب خفيف منمق وذقن حليقة، يرتدى قميصا أبيض من الكتان الفاخر وشورت فوشيا وحذاء رياضيا أنيقا، يبدو سائحًا غريبا عن المكان، التقطه على طريق الساحل الطيب لما وقفت فى استراحة متواضعة جدا أسأل بلهفة عن الحمام، فأشار لى عامل الاستراحة - بينما غَط فى نقاش محتدم مع ذلك الرجل - أن الحمام فى آخر الممر وطلب خمسة جنيهات ورقة واحدة وقال بصلف: ورقة جديدة يا باشا.. سنها يعور.. استعوضت ربنا فى الخمسة جنيهات فالزنقة وحشة تدفع أمامها كل ما لديك، ذهبت للحمام وغبت قدر ما غبت فأنا دافع ثمن راحتي، ولما عدت كان الرجلان ما يزالا واقفين يفاصلان فى شأن ما، البائع يقسم أنه لا يستطيع البيع بأقل من الثمن الرسمى الذى هو مجهول أصلا والرجل يقول إن ذلك سعر مبالغ فيه جدا يزيد عن السعر الرسمى بنحو ١٨ جنيها، يقسم البائع أن الحكومة رفعت السعر ولكنها لم تعلنه حتى لا تصير فتنة تضرب فى الأرض وتلتهم البلاد والعباد، ويقسم الرجل الذى يشبه صلاح قابيل بأنها لم ترتفع وأن هذا استغلال لظروف المكان فقط، المهم بعد طول مناهدة انصاع الرجل ودفع سبعين جنيها لقاء علبة سجائر واحدة ومشى، ولما سألت البائع عن سبب الجدال قذفنى بنظرة فوقية وقال: البهوات عايزين يتكيفوا ببلاش!
عُدت الى القاهرة وأنا أحمد الله أننى لست بك وأقلعت عن تدخين السجائر ودعوت ألا تحوجنى الأيام لمثل هذا البائع اللئيم، والحمد لله على نعمة تدخين التبغ المُسخن «هيتس»، فى أقرب محطة بنزين جديدة شدنى من الخارج طابور طويل أمام منصة بيع السجائر وطمأنتنى الحشود الخارجة من الماركت تحمل أكثر من خمس علب من السجائر، دخلت أسأل عن دخانى فاستقبلنى شاب يافع ضحكته تملأ وجهه بابتسامة لم أُفسرها بوضوح وقال: تحت أمر حضرتك مفيش غير أحمر وأبيض عايز كام، فسألته: هى السجاير غليت!، قذفنى الولد بنظرة متجهمة ونفى نفيًا قاطعًا، وأضاف: يافندم محدش يقدر يلعب فى سعر رسمى دى قضية. تفاءلت جدا بالشاب الوسيم وسألته: عندك «هيتس»!، فرد بأدب: ياريت فيه والله يا فندم ماعزهاش عنك، وطلب منى اننى اذا وفقت فى الشراء من اى مكان أن أبلغه ثم أطلق ضحكة ساخرة وأضاف: لو بقى!
عادي!، لن أيأس فكما وجدت السجائر سأجد الـ»هيتس» فالموضوع أنها ناقصة لدى محل وليست كل المحال مثله، دوخت كعب داير على كل محطات البنزين والمحال الفاخرة والدكاكين البسيطة والسوبر ماركت الكبرى والصغرى والمتوسطة بلا فائدة، حتى الأكشاك لم أعتقها وما أكثرها فى شرق القاهرة ولم ينجدنى أحد، وعلى عتبة كل كُشك أسمع نفس الخناقة الدائرة بين البائع والمشترى اللذين بينهما صيغة عقد قديمة مفادها «يفتح الله»، بعض البائعين علق لافتة تقول: لا نبيع الدخان مطلقا وأراح نفسه من شجار لا ينتهي، وأحد الأكشاك استعار عبارة رواية «أرض النفاق»، وطبع تنويها جاء فيه: أزمة أخلاء، والله كتبها بالهمزة لا بالقاف.. ولما وصلت الى أحد الأكشاك الهادئة جدا وقبل أن أتكبد عناء النزول من سيارتى سمعت الزبون الواقف يستجدى البائع ويقول له: طب هات سوجارة وما تبقاش تنح!
اختفت السجائر!
عادى تحدث مرات منذ عقود فتعكنن على المدخنين وزوجاتهم وأولادهم والبيت كله، يضطر المدخن الى تبديل نوع دخانه حتى تنفرج الأزمة ويعود مرة أخرى لتبغه المفضل ويكتفى مؤقتًا بأى عفرة. ترتفع الأسعار! عادى اشمعنى هى العالم كله مولع نار، ولا شيء مؤسف غير أن الزبون سيدفع أكثر من السعر الذى اعتاده، وهذه أيضًا تحدث وتتكرر منذ اكتشاف التبغ، كل ذلك وتبعاته أفهمه جيدا، لكن أن تختفى ولا تختفى أو أن يرتفع السعر ولا يرتفع فهذه فوضى لا تخلق إلا سوقا سوداء.

 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة