أحمد عباس
أحمد عباس


تساؤلات

بلبل أفندى الحيران

أحمد عباس

الأحد، 30 أكتوبر 2022 - 07:56 م

كأنك أتيت بطفلك ابن الثلاث سنوات وألقيت به فى بركة مياه واسعة وانتظرته يسبح بأربع طرق مختلفة وأن يروح ويجيء أمامك دون توقف كذلك كان المشهد تمامًا، كنت قد بلغت بالكاد الخامسة والعشرين، ولد جديد فى عالم واسع بلا حدود من طفل صامت إلى ولد هادئ الى شاب لم يختبر الحياة.


الفكرة فى ان تكون صحفيا هى ان تعرف كيف تسأل عما يجول بخاطرك الذى هو متشكل من احاديث الناس التى لا تنقطع انت عنها ابدا فلا يفصلك منها فاصل ولا يحيد عنها خاطرك مهما ترقى وارتفع وتثقف وتعلم وسافر ورأى ودرس، المهم انك تبقى دائما موصولا بالشارع من جهة وبالشأن العام ورجاله ونجومه وسلطته من جهة أخرى، فتنقل للأول ما يريد أن يعرف وتسأل الثانى عما يريده الشارع وهكذا، وهذه مسألة صعبة جدا يتعلمها الصحفى فى سنوات لا ليتعلم السؤال فقط بل ليجيد المهارة الأصعب وهى الإنصات.


فى كل الأحوال الإنصات ثم الإنصات ثم التدخل إذا وجب الامر ثم لتعد بسرعة لإنصاتك، واذا فقدته لحظة فأنت فقدت كل شيء حينها، فقدت المعلومة والمتحدث بل وقضية صاحب الشأن التى تطرح من أجله السؤال وإن شئت الحقيقة تكون قد فقدت رأسك أنت.


ولهذا تدريبات كثيرة ومتنوعة يفهمها العارفون ويمارسها مزاولو المهنة، لكن أهمها فى رأيى هى تلك التدريبات التى تحفظ للصحفى ثباته الانفعالى من استخفاف مصدر ما بتساؤلاته أو استهتار آخر بقدر السائل وأهمية القضية مهما كانت خفيفة، هى فى النهاية محصلة ما اهتم لشأنه الشارع، مسألة أخرى تتصل بالسابقة وهى أن يستطيع الصحفى حمل أمانة السؤال الى مسئول بمنتهى التأدب والهدوء مهما كان منفعلا بالقضية التى يسأل عنها ومهما كانت مستفزة، ذلك أن الأسئلة يجب أن تخرج بهدوء وتُستقبل أجوبتها بهدوء ثم ولتكتب كيفما تكتب فى النهاية لكن الأهم هو متى نسأل ومتى نصمت وبينهما الكثير من الإنصات.


ومن أين لى أن أعرف وقتها كل ذلك ولم أكن قد ولدت ابنا للحياة، أقول ذلك لما أجدنى واقعا فى بئر تعكرت بالكلام من اتجاه فاقدا للسائل والمسئول، ملقف من الكلام، كلام ذاهب وآخر يعود بلا منصت واحد الجميع فقط يريد ان يتكلم ولا يهم ان كان مسموعا ام لا المهم ان يتكلم فقط، فتكون الحالة كهذه بالضبط سويقة من الخبط والرزع والتهويش والتهميش والتكويش، الكل يصرخ فى وجع الكل ويمارس الزعاق باقتدار ونحن واقفون فى نفس الممر.


ولا أفهم لماذا تحل علىَّ هذه الحكاية كلما يعلو النعيق، ذلك اننى لما تخرجت وعملت بهذه المهنة وقعت فى طريق اولئك الذين نصحونى فأنصتُّ وتعلمت منهم ما لا يجب أن أكون عليه، فلما جلس الدكتور على جمعة وكان مفتيا للديار المصرية حينها وانفردت به فى لقطة أولى على طريق صحفى ناشئ جلست على مقربة منه وبدأت أسأله فيشرع فى الإجابة، فأقاطعه فيغير مساره، فأسأل سؤالا جديدا قبل أن يتم جوابه فيستمر غير عابئ بما أقول، فأكرر أسئلتى فيبتسم، فأغضب فيضحك، فألح فيصمت، فأصمت فيربت على كتفى ويسألني: هل تغضب إذا سميتك باسم من عندي؟ فيقول: انت بلبل أفندى الحيران وهذا اسمك اذا قررت ألا تسمع، يا ابنى لا تدع شهوتك لاستعراض الذات تقضى على قدرتك وفاعليتك وتنهى مستقبلا أراه مضيئا.


السلام على من قل كلامه وزاد إنصاته وارتقت نيته، والسلام عليك يا دكتور علي.

 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة