محمود بسيونى
محمود بسيونى


الموقف السياسى

حكومة منتصف الطريق

محمود بسيوني

الجمعة، 21 يونيو 2024 - 05:54 م

منذ تكليف الرئيس عبد الفتاح السيسى للدكتور مصطفى مدبولى بتشكيل الحكومة الجديدة والرأى العام فى حالة ترقب، والبورصة السياسية منشغلة بالباقين والراحلين عن الوزارة الجديدة، بينما الشارع المصرى لديه حسبة أخرى مختلفة تماما، تنطلق من احتياجاته المعيشية، تبدأ وتنتهى بالأسعار ومراقبة الأسواق، والعمل على استدامة استقرار الأسعار، ووقف التلاعب بها، وكبح جماح تصاعدها.

ينتظر الرأى العام الوجوه الجديدة فى الوزارات، يبحث فى الجديد عن الأمل، عن الحل المبتكر القادم من خارج صندوق التوقعات، عن التعامل السريع مع الأزمات المتلاحقة، عن المزيد من الصفقات القادرة على توفير العملة الصعبة، على غرار صفقة رأس الحكمة، مثل تلك التدفقات النقدية تضمن توفير الدولارات، بما يضمن عدم تحركها أمام الجنيه، وهو ما يضمن ببساطة قدرة الدولة على تلبية احتياجات السوق، وضمان استقرار الأسعار بشكل مستدام، واستكمال رؤية 2030 دون عوائق .

تحدثت فى مقال سابق عن المهمة الكبرى التى تنتظر حكومة الدكتور مدبولى الجديدة، وهى توفير الأمن والاستقرار اللازمين لاستكمال عملية الإصلاح الاقتصادى، فى إقليم متفجر بالأحداث الصعبة والجسيمة والمؤثرة على الأوضاع الاقتصادية، وربما نظرة على تراجع إيرادات قناة السويس، وتأثر عائدات السياحة بسبب الصراع الاسرائيلى، وأيضاً ارتفاع أسعار القمح والنفط والغاز فى الأسواق العالمية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، نلاحظ أن كلها أمور تؤثر بالتأكيد على الأوضاع الاقتصادية وبالتبعية المعيشية للمصريين.

وحتى نتمكن من تقديم قراءة منصفة لواقع الحال، يجب أن نشير إلى المشهد الاقتصادى فى مصر عام 2013، وحالة الركود وزيادة أعداد المتعطلين، وانسحاب الاستثمارات الخاصة من الاقتصاد، آنذاك سجل معدل النمو 2.2٪، ومعدل البطالة 13.2٪، فيما وصل عجز الموازنة إلى 12٪ للناتج، والاحتياطى النقدى تراجع إلى 17 مليار دولار، والاستثمارات الأجنبية اختفت، وصاحب ذلك تدهور كامل فى الخدمات العامة، والبنية التحتية.

بعد 10 سنوات الواقع يقول إن الدولة المصرية تمضى فى مسار إصلاحى، يخترق التحديات التاريخية، التى تكبل صانع القرار المصرى، وهى ارتفاع عدد السكان، وتركزهم فى مساحة ضيقة جداً من مساحة الدولة، وقلة الموارد الطبيعية، مضاف إليها أزمات الموقع الجغرافى المحاط بدول فى حالة صراع.

اختار الرئيس السيسى الإصرار على مسار الإصلاح الاقتصادى، وتخليص الاقتصاد المصرى من أزماته التاريخية، وإتاحة مستقبل أفضل لملايين المصريين من الأجيال الجديدة، وبالفعل تحققت إنجازات ملموسة فى البنية التحتية وشبكات الطرق والمواصلات، وتخليص مصر من العشوائيات والمناطق الخطرة، وتحقيق إنجاز طبى عبر التخلص من فيروس سى، الذى نهش أكباد المصريين لسنوات وسنوات ماضية .

حكومة مدبولى الثانية تقف فى منتصف الطريق نحو تحقيق الإصلاح الاقتصادى، وحصاد مكاسب ذلك الإصلاح، ويمكن قياسها بشكل مباشر فى تراجع نسبة البطالة إلى أدنى مستوياتها، وارتفاع الاحتياطى النقدى إلى أعلى مستوياته، بالمقارنة بأى حكومة سابقة، وهى كلها إشارات تؤكد جدية الإصلاح، وتحقيقه لمؤشرات إيجابية .

لا تملك أية دولة ترغب فى الإصلاح الحقيقى رفاهية التراجع، أو تغيير المسار، كما تخبرنا التجارب الدولية، العلاج الصعب حقق مبتغاه، وملامح التعافى تلوح فى الأفق، بشهادة المؤسسات الاقتصادية العالمية، التى تراقب أداء الاقتصاد المصرى.  

أتصور أننى قرأت فكر الدكتور مدبولى، خلال العرض الشامل والمفصل لنشاط حكومته، خلال مؤتمر حكاية وطن فى أكتوبر الماضى، تنطلق التجربة المصرية من رؤيتها لنجاح دول مثل اليابان وكوريا والصين والهند وألمانيا وماليزيا، وقد جابهت خلال عملية الإصلاح الاقتصادى تحديات وأزمات، واجهتها بشجاعة، ولم تتراجع عن مسار الإصلاح يوماً واحداً، وقد ضرب المثل بدولة مثل ماليزيا، وكيف كان حالها عام ١٩٨٠، مقارنة بوضعها الحالى، بالإضافة إلى التجربة الصينية، التى بدأت عام ١٩٧٨، وانتهت بظهور عملاق اقتصادى وقوى عظمى بازغة.

أتفق مع الدكتور مدبولى على أن التجارب الناجحة فى الإصلاح الاقتصادى لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت نتاجًا لسنوات طويلة من الجهد والتعب، حتى وصلت إلى النجاح المُستدام، تجربة سنغافورة على سبيل المثال استمرت 20 عاماً رغم أن تعدادها السكانى 5 ملايين نسمة فقط  .

وقد لخص رئيس الوزراء روشتة نجاح التجارب السابقة فى وضع برنامج ممتد لتنمية مستدامة، مبنية على رؤية وطنية، تتضمن تنفيذ العديد من المشروعات التنموية، وهو ما تحقق فى رؤية مصر 2030، وقد اعتمدت الدولة المصرية فى برنامجها على سواعد أبنائها، ولم تلجأ لأى مكتب استشارى عالمى، وبحسب روشتة الإصلاح تعمل الدولة على استثمار ما بين ٢٠٪ إلى ٤٠٪ من الناتج المحلى الاجمالى لها وعلى مدى عقود فى البنية التحتية، الصين تستغل ٤٠٪، وأقل دولة تستغل من ٢٠٪ إلى ٢٥٪، لمدة لا تقل عن عقدين من الزمان حتى تنهض.

الدكتور مدبولى أشار إلى اتفاق الخبراء الاقتصاديين على أن التنمية الاقتصادية الشاملة تتطلب رفع معدلات النمو الاقتصادى الموفر لفرص العمل، ومراعاة الأبعاد الاجتماعية، وحماية الفئات محدودة الدخل، مع توسيع مشاركة القطاع الخاص، وتقليص تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى، وقيل إنه لا يمكن مع بداية تنفيذ أى تجربة تنموية إلا التعامل مع هدفين فقط من تلك الأهداف المطلوبة لتحقيق التنمية الاقتصادية، وأنه مستحيل لأية دولة التعامل مع الأهداف الثلاثة فى وقت واحد.

تجارب الدول التى تم استعراضها بدأت برفع معدلات النمو الاقتصادى الموفر لفرص العمل، ومراعاة الأبعاد الاجتماعية وحماية الفئات محدودة الدخل، فالدولة تقود من خلال تنفيذ العديد من المشروعات القومية والتنموية، التى تسهم فى رفع معدلات النمو الاقتصادى، وتوفير المزيد من فرص العمل، وكذا تهيئة البنية الأساسية والمناخ الجاذب لاستثمارات القطاع الخاص، للمشاركة والتنفيذ واستكمال المشروعات التنموية مع الدولة.

وأضاف رئيس الوزراء أن الفترة من 2014 حتى 2023 شهدت تحركات جادة للحد والقضاء على الفقر، لافتاً إلى أن مفهوم الفقر ليس فقط ما يتعلق بالدخل، بل يشمل ما يتعلق بالحصول على الخدمات وتوافر البنية الأساسية والمسكن الآمن، مؤكداً أن الدولة المصرية تعاملت مع مختلف أبعاد الفقر للحد منه.

الحكومات المصرية تعمل منذ أحداث يناير 2011 وحتى هذه اللحظة فى ظل اقتصاد أزمة، الدكتور مدبولى أكد أن مصر تنفست الصعداء عام 2019، مع استكمال تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادى عامى 2017 و2018، حتى وقعت أزمة فيروس «كورونا» عامى 2020 -2021، وما صاحب ذلك من أزمة تضخم عالمى، أعقبه حدوث أزمة الحرب الروسية الأوكرانية.. ومنذ ذلك التوقيت تعمل الدولة فى ظل أزمات متتالية، ولا تملك رفاهية العمل فى ظل أوضاع مستقرة.

ما سبق حديث عن التحديات فماذا عن قراءة مستقبل الحكومة الجديدة، والملفات التى ستعمل عليها.. وفق رؤيتى تستكمل حكومة مدبولى الثانية المخطط الاستراتيجى القومى للتنمية العمرانية لمصر، وهو عمل ممتد حتى عام 2052، ويصفه الدكتور مدبولى «بدستور» التنمية العمرانية لمصر، وشارك فى إعداده 34 خبيراً واستشارياً مصرياً فى مختلف المجالات، ويسعى لزيادة الرقعة المأهولة بالسكان فى مصر، ويتضمن خريطة تشتمل على أماكن تواجد المدن الجديدة، والأراضى الزراعية، والمجمعات الصناعية.

ومن أجل تنفيذ هذا المخطط عملت الدولة المصرية على توفير استثمارات، فى فترة كانت الدولة خلالها تعانى من تبعات العديد من الأزمات، وأنفقت الدولة المصرية خلال الفترة من 2014 وحتى 2023 ما تجاوز الـ 9.4 تريليون جنيه، لتنفيذ مشروعات لتحسين جودة الحياة على مختلف المستويات.

من الأمور المثيرة للدهشة أن تنتقد حكومة على أنها تفرط فى تنفيذ المشروعات، ويشكك البعض فى جدوى مشروع تمت إقامته على الاراضى المصرية بسواعد مصرية، يمكن قياس جدواه بوضعه فى سياقه الواسع، وهو الاستفادة من المساحات غير المأهولة فى مصر، حتى تكون جاذبة للسكان والاستثمارات .

وقد تطرق الدكتور مدبولى للإجابة على نفس السؤال بأن  نسب الإنفاق التى تمثلت فى مبلغ (9.4 تريليون جنيه) تسجل حوالى 22٪ من حجم الناتج المحلى، وهو ما يوازى الحد الأدنى للدول التى قامت بتنفيذ عمليات متكاملة على أرضها، قائلا: «لو أن الدولة المصرية كان لديها القدرة على الإنفاق بصورة أكبر على المشروعات التنموية، لكنا أنفقنا أكثر خلال هذه الفترة.

وأكد رئيس الوزراء أن ما يميز الاستثمارات الموجهة من خلال الدولة للتنمية أنها لم تكن مركزة فى مكان واحد على مستوى الدولة المصرية، بل تم توزيعها على مختلف أنحاء الجمهورية، ومختلف الأماكن شهدت تنفيذ عمليات التنمية، ولم تترك جزءاً فى مصر إلا وشهد تلك العمليات، وطالته عمليات التنمية.

الأمر الثانى سيكون فتح الباب أمام القطاع الخاص، وقدمت حكومة مدبولى إجابة السؤال الصعب، فيما يخص علاقة الدولة بالقطاع الخاص، عبر وضع وثيقة ملكية الدولة، وتقوم فلسفتها على فتح المجال أمام الدولة للتخارج من القطاعات المختلفة، ورفع معدل الاستثمار إلى ما يتـراوح بين ٢٥ ٪ إلـى ٣٠٪، وتوفيـر فـرص متنوعـة لتواجـد القطـاع الخاص فــى كافـة الأنشـطة الاقتصادية، بما يسـاعد علـى رفـع نسـبة مسـاهمته الاقتصاديـة، فيما يتركز عمل الدولة فى ضـخ الاسـتثمارات وملكيـة الأصـول فـى قطاعـات رئيسـة، تشـمل القطاعات التى يعزف القطاع الخاص عن الدخول فيها، مع حوكمـة تواجـد الدولـة فـى الأنشـطة الاقتصاديـة.

وتستهدف الحكومة خلال الفترة المقبلة التواجد فـى القطاعات الاقتصادية وفقـا لمعاييـر محـددة، مـن خلال تحديـد آليات تخارج الدولة من الأصول المملوكة لها، سواء من الإدارة أو الملكية، هدفها تحقيـق وفـورات ماليـة، تتيح دعـم أوضـاع الموازنـة العامـة، وتحقيق الانضباط المالى، وضمان الاسـتدامة المالية، وتعزيز قـدرة الدولـة الماليـة علـى دعـم شـبكات الأمـان الاجتماعـى، لحمايـة الفئـات الهشـة، وزيـادة مسـتويات قـدرة صمـود الاقتصاد المصرى أمام الأزمات. 

ولضمـان التنفيـذ الناجح لسياسة الملكية ستقوم الدولة بالتخـارج علـى مراحـل وبشـكل تدريجـى، حتـى ولـو كانـت المراحل قصيرة الأمد، مع مراعـاة الأبعـاد الاسـتراتيجية والأمنيـة للأنشـطة الاقتصادية، عند اتخاذ قرارات ملكية الدولة للأصول، مع تحديـد منهجيـة التعامـل بعـد التخـارج، لتجنب التداعيات غير المواتية، وسيتكامل مع تنفيذ سياسة ملكية الدولة للأصول قيام الحكومة بتبنى منظومة كاملة من السياسـات الاقتصادية الكلية المحفـزة لنشـاط القطـاع الخاص، وهو ما يعنى أن الحكومة الجديدة لن تتراجع عن تبنـى سياسـة نقديـة داعمـة للاسـتقرار السـعرى، ومعـززة لأسـس اسـتقرار الاقتصـاد الكلـى، كما ستسـعى إلـى خفـض معـدلات التضخم، وتحفيز مسـتويات الائتمان الممنـوح، مع الالتزام بسياسـة مرنـة لسـعر الصـرف، تسـاعد علـى زيـادة مستويات تنافسية الصادرات المصرية، بما يدعم فـى مجمله بيئة الأعمال، ويحقق المستهدفات الاقتصادية الكلية.

هذا بالنسبة لما يجب أن تقوم به الحكومة.. وماذا عن القطاع الخاص.. أرى أن مصر تحتاج إلى رأسمالية وطنية حقيقية، هادفة إلى تحقيق الأرباح، وتستثمرها داخل مصر، لخلق مزيد من فرص العمل، تتجنب ممارسات الماضى، القائمة على اقتناص الفرص من الحكومة فى ظل الأزمات، أو الاعتماد على الابتزاز السياسى والمحسوبيات القديمة، فذلك زمن لن يعود، ولا يمكن استنساخه لأن مصر تغيرت، وتعلمت من دروس الماضى، وأصبح لديها تجربة تنموية حقيقية، تسعى لتنفيذها مهما كانت التحديات .

لن تتراجع الحكومة الجديدة عن انحيازها للإنسان المصرى، والتوسع فى برامج الحماية الاجتماعية لغير القادرين، واستكمال مشروع التأمين الصحى الشامل، وإصلاح نظام التعليم، والاتجاه نحو التعليم الفنى والتخصصات المطلوبة لسوق العمل .

فى تقديرى لن تغير الحكومة الجديدة الأولويات الثابتة، لكن ذلك لن يعنى الجمود، ولكن ستغير من أدواتها ودرجة مرونتها فى التعامل مع المتغيرات، فقد تكيفت مع التحديات، وتعمل بعقلية الأزمة، وهى عقلية تقوم على الترشيد والمحاسبة السريعة والعمل المستمر والمتواصل لتحقيق الانجاز رغم الضغوط .

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة